Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 80-83)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن صدور الاستغفار منه للمنافقين وعدمه سواء ، وذلك لأنهم ليسوا بأهل لاستغفاره صلى الله عليه وسلم ، ولا للمغفرة من الله سبحانه لهم ، فهو كقوله تعالى { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } التوبة 53 ، ثم قال { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } وفيه بيان لعدم المغفرة من الله سبحانه للمنافقين ، وإن أكثر النبي من الاستغفار لهم ، وليس المراد من هذا أنه لو زاد على السبعين لكان ذلك مقبولاً ، كما في سائر مفاهيم الأعداد ، بل المراد بهذا المبالغة في عدم القبول . فقد كانت العرب تجري ذلك مجرى المثل في كلامها عند إرادة التكثير ، والمعنى أنه لن يغفر الله لهم وإن استغفرت لهم استغفاراً بالغاً في الكثرة ، غاية المبالغ ، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن التقييد بهذا العدد المخصوص يفيد قبول الزيادة عليه ، ويدل لذلك ما سيأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لأزيدنّ على السبعين " وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهاً فقال إن السبعة عدد شريف لأنها عدد السموات ، والأرضين ، والبحار ، والأقاليم ، والنجوم السيارة ، والأعضاء ، وأيام الأسبوع ، فصير كل واحد من السبعة إلى عشرة لأن الحسنة بعشر أمثالها . وقيل خصت السبعون بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم كبر على عمه الحمزة سبعين تكبيرة ، فكأنه قال إن تستغفر لهم سبعين مرة بإذاء تكبيراتك على حمزة . وانتصاب { سبعين } على المصدر كقولهم ضربته عشرين ضربة . ثم علل عدم المغفرة لهم بقوله { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي ذلك الامتناع بسبب كفرهم بالله ورسوله { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي المتمرّدين الخارجين عن الطاعة المتجاوزين لحدودها ، والمراد هنا الهداية الموصلة إلى المطلوب ، لا الهداية التي بمعنى الدلالة وإراءة الطريق . ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين ، فقال { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } المخلفون المتروكون ، وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو الذين خلفهم الله وثبطهم ، أو الشيطان ، أو كسلهم ، أو المؤمنون ، ومعنى { بِمَقْعَدِهِمْ } أي بقعودهم يقال قعد قعوداً ومقعداً أي جلس ، وأقعده غيره ، ذكر معناه الجوهري فهو متعلق بفرح أي فرح المخلفون بقعودهم ، وخلاف رسول الله منتصب على أنه ظرف لمقعدهم . قال الأخفش ويونس الخلاف بمعنى الخلف أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن جهة الإمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخلف . وقال قطرب والزجاج معنى خلاف رسول الله مخالفة الرسول حين سار وأقاموا ، فانتصابه على أنه مفعول له أي قعدوا لأجل المخالفة ، أو على الحال مثل وأرسلها العراك أي مخالفين له ، ويؤيد ما قاله الأخفش ويونس قراءة أبي حيوة " خلف رسول الله " . قوله { وَكَرِهُواْ أَن يُجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } سبب ذلك الشحّ بالأموال والأنفس ، وعدم وجود باعث الإيمان ، وداعي الإخلاص ، ووجود الصارف عن ذلك ، وهو ما هم فيه من النفاق ، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم وأنفسهم في سبيل الله لوجود الداعي معهم ، وانتفاء الصارف عنهم { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ } أي قال المنافقون لإخوانهم هذه المقالة تثبيطاً لهم ، وكسراً لنشاطهم ، وتواصياً بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله ، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم { نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } والمعنى أنكم أيها المنافقون كيف تفرّون من هذا الحرّ اليسير ، ونار جهنم التي ستدخلونها خالدين فيها أبداً أشدّ حرّاً مما فررتم منه ، فإنكم إنما فررتم من حرّ يسير في زمن قصير ، ووقعتم في حرّ كثير في زمن كبير ، بل غير متناه أبد الآبدين ، ودهر الداهرين . @ فكنت كالساعي إلى مثعب موائلاً من سبل الراعد @@ وجواب " لو " في { لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } مقدّر ، أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك لما فعلوا ما فعلوا . قوله { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } هذان الأمران معناهما الخبر ، والمعنى فسيضحكون قليلاً ، ويبكون كثيراً ، وإنما جيء بهما على لفظ الأمر ، للدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره ، وقليلاً كثيراً منصوبان على المصدرية أو الظرفية أي ضحكاً قليلاً ، وبكاءً كثيراً ، أو زماناً قليلاً ، وزماناً كثيراً { وَجَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي جزاء بسبب ما كانوا يكسبونه من المعاصي ، وانتصاب { جزاء } على المصدرية أي يجزون جزاء { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } الرجع متعدّ كالردّ ، والرجوع لازم ، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها ، وإنما قال { إِلَىٰ طَائِفَةٍ } لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذار صحيحة ، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له ، ثم عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا ، وسيأتي بيان ذلك ، وقيل إنما قال { إلى طائفة } ، لأن منهم من تاب عن النفاق ، وندم على التخلف { فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه { فَقُلْ } لهم { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَـٰتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا } أي قل لهم ذلك عقوبة لهم ، ولما في استصحابهم من المفاسد ، كما تقدم في قوله { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } التوبة 47 ، وقرىء بفتح الياء من معي في الموضعين ، وقرىء بسكونها فيهما ، وجملة { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } للتعليل ، أي لن تخرجوا معي ، ولن تقاتلوا ، لأنكم رضيتم بالقعود والتخلف أوّل مرّة ، وهي غزوة تبوك ، والفاء في { فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَـٰلِفِينَ } لتفريع ما بعدها على ما قبلها ، والخالفين جمع خالف ، كأنهم خلفوا الخارجين ، والمراد بهم من تخلف عن الخروج ، وقيل المعنى فاقعدوا مع الفاسدين . من قولهم فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسداً فيهم ، من قولك خلف اللبن أي فسد بطول المكث في السقاء . ذكر معناه الأصمعي ، وقرىء " فاقعدوا مع الخلفين " وقال الفراء معناه المخالفين . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عروة أن عبد الله بن أبيّ قال لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله ، وهو القائل { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } المنافقون 8 فأنزل الله { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لأزيدنّ على السبعين " فأنزل الله { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } المنافقون 6 . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، نحوه . وأخرج أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، والنحاس ، وابن حبان ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، عن ابن عباس قال سمعت عمر يقول لما توفي عبد الله بن أبيّ دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام عليه ، فلما وقف قلت أعلى عدوّ الله عبد الله بن أبيّ القائل كذا وكذا ، والقائل كذا وكذا ؟ أعدد أيامه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال " يا عمر أخر عني ، إني قد خيرت ، قد قيل لي { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له ، لزدت عليها " ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام على قبره ، حتى فرغ منه ، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم . فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان { وَلاَ تُصَلّ عَلَىٰ أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ } فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعد حتى قبضه الله عزّ وجلّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ } الآية قال عن غزوة تبوك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه ، وذلك في الصيف ، فقال رجال يا رسول الله الحر شديد ، ولا نستطيع الخروج ، فلا تنفروا في الحرّ ، فقال الله { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } فأمره بالخروج . وأخرج ابن مردويه ، عن جابر بن عبد الله ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } قال هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً ، يقول الله فليضحكوا قليلاً في اللدنيا ، وليبكوا كثيراً في الآخرة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } قال ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين ، وفيهم قيل ما قيل . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَـٰلِفِينَ } قال هم الرجال الذين تخلفوا عن الغزو .