Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 94-99)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ } إخبار من الله سبحانه عن المنافقين المعتذرين بالباطل ، بأنهم يعتذرون إلى المؤمنين إذا رجعوا من الغزو ، وهذا كلام مستأنف ، وإنما قال { إِلَيْهِمُ } أي إلى المعتذرين بالباطل ، ولم يقل إلى المدينة لأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة ، وربما يقع الاعتذار عند الملاقاة قبل الوصول إليها . ثم أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما يجيب به عليهم ، فقال { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } فنهاهم أوّلا عن الاعتذار بالباطل ، ثم علله بقوله { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } أي لن نصدقكم ، كأنهم ادّعوا أنهم صادقون في اعتذارهم ، لأن غرض المعتذر أن يصدّق فيما يعتذر به ، فإذا عرف أنه لا يصدّق ترك الاعتذار ، وجملة { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } تعليلية للتي قبلها أي لا يقع منا تصديق لكم لأن الله قد أعلمنا بالوحي ما هو مناف لصدق اعتذاركم ، وإنما خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالجواب عليهم ، فقال { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ } مع أن الاعتذار منهم كائن إلى جميع المؤمنين ، لأنه صلى الله عليه وسلم رأسهم ، والمتولي لما يرد عليهم من جهة الغير ، ويحتمل أن يكون المراد بالضمير في قوله { إِلَيْكُمْ } هو الرسول صلى الله عليه وسلم على التأويل المشهور في مثل هذا . قوله { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ } أي ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشرّ أم تبقون عليه ؟ . وقوله { وَرَسُولُهُ } معطوف على الاسم الشريف ، ووسط مفعول الرؤية إيذانا ، بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شرّ هي التي يدور عليها الإثابة أو العقوبة ، وفي جملة { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ } إلى آخرها تخويف شديد ، لما هي مشتملة عليه من التهديد ، ولا سيما ما اشتملت عليه من وضع الظاهر موضع المضمر ، لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه ويتظاهرون به ، وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه . ثم ذكر أن هؤلاءالمعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاءوا به من الأعذار الباطلة بالحلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو ، وغرضهم من هذا التأكيد هو أن يعرض المؤمنون عنهم ، فلا يوبخونهم ولا يؤاخذونهم بالتخلف ، ويظهرون الرضا عنهم ، كما يفيده ذكر الرضا من بعد ، وحذف المحلوف عليه لكون الكلام يدلّ عليه ، وهو اعتذارهم الباطل ، وأمر المؤمنين بالإعراض عنهم المراد به تركهم والمهاجرة لهم . لا الرضا عنهم والصفح عن ذنوبهم ، كما تفيده جملة { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } الواقعة علة للأمر بالإعراض . والمعنى أنهم في أنفسهم رجس لكون جميع أعمالهم نجسة ، فكأنها قد صيرت ذواتهم رجساً ، أو أنهم ذوو رجس أي ذوو أعمال قبيحة ، ومثله { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } التوبة 28 وهؤلاء لما كانوا هكذا كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير ، والتحذير من الشرّ ، فليس لهم إلا الترك . وقوله { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } من تمام التعليل فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير ، والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء ، ليلاً أو نهاراً . وقد أوى فلان إلى منزله ، يأوي أوياً وإيواء . و { جَزَاء } منصوب على المصدرية ، أو على العلية ، والباء في { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } للسببية ، وجملة { يَحْلِفُونَ لَكُمْ } بدل مما تقدّم . وحذف هنا المحلوف به لكونه معلوماً مما سبق ، والمحلوف عليه لمثل ما تقدّم ، وبين سبحانه أن مقصدهم بهذا الحلف هو رضا المؤمنين عنهم ، ثم ذكر ما يفيد أنه لا يجوز الرضا عن هؤلاء المعتذرين بالباطل ، فقال { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } كما هو مطلوبهم مساعدة لهم { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَـٰسِقِينَ } وإذا كان هذا هو ما يريده الله سبحانه من عدم الرضا على هؤلاء الفسقة العصاة ، فينبغي لكم أيها المؤمنون أن لا تفعلوا خلاف ذلك ، بل واجب عليكم أن لا ترضوا عنهم على أن رضاكم عنهم لو وقع لكان غير معتدّ به ، ولا مفيد لهم . والمقصود من إخبار الله سبحانه بعدم رضاه عنهم ، نهي المؤمنين عن ذلك لأن الرضا على من لا يرضى الله عليه مما لا يفعله مؤمن . قوله { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } لما ذكر الله سبحانه أحوال المنافقين بالمدينة ، ذكر حال من كان خارجاً عنها من الأعراب ، وبين أن كفرهم ونفاقهم أشدّ من كفر غيرهم ومن نفاق غيرهم ، لأنهم أقسى قلباً وأغلظ طبعاً وأجفى قولاً ، وأبعد عن سماع كتب الله ، وما جاءت به رسله . والأعراب هم من سكن البوادي بخلاف العرب ، فإنه عام لهذا النوع من بني آدم ، سواء سكنوا البوادي أو القرى ، هكذا قال أهل اللغة ، ولهذا قال سيبويه إن الأعراب صيغة جمع وليست بصيغة جمع العرب . قال النيسابوري قال أهل اللغة رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتاً ، وجمعه عرب ، كالمجوسيّ والمجوس ، واليهوديّ واليهود فالأعرابي إذا قيل له يا عربي ، فرح ، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب ، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ، ومن نزل البادية فهو أعرابي ، ولهذا لا يجوز أن يقال لللمهاجرين والأنصار أعراب ، وإنما هم عرب . قال قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشئوا بالعرب ، وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم ، وكل من يسكن جزيرة العرب ، وينطق بلسانهم فهو منهم . وقيل لأن ألسنتهم معربة ، عما في ضمائرهم ، ولما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة . انتهى . { وَأَجْدَرُ } معطوف على { أشد } ، ومعناه أخلق ، يقال فلان جدير بكذا أي خليق به ، وأنت جدير أن تفعل كذا ، والجمع جدر ، أو جديرون ، وأصله من جدر الحائط ، وهو رفعه بالبناء . والمعنى أنهم أحق وأخلق بـألا يعلموا حدود ما أنزل الله من الشرائع والأحكام ، لبعدهم عن مواطن الأنبياء ، وديار التنزيل { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بأحوال مخلوقاته على العموم . وهؤلاء منهم { حَكِيمٌ } فيما يجازيهم به من خير وشرّ . قوله { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا } هذا تنويع لجنس إلى نوعين ، الأوّل هؤلاء ، والثاني { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } والمغرم الغرامة والخسران ، وهو ثاني مفعولي يتخذ ، لأنه بمعنى الجُعل ، والمعنى اعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران ، وأصل الغرم والغرامة ، ما ينفقه الرجل وليس بلازم له في اعتقاده ، ولكنه ينفقه للرياء والتقية . وقيل أصل الغرم اللزوم ، كأنه اعتقد أنه يلزمه لأمر خارج لا تنبعث له النفس . و { ٱلدَّوَائِرَ } جمع دائرة ، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية ، وأصلها ما يحيط بالشيء ، ودوائر الزمان نوبه وتصاريفه ، ودوله ، وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه ، ثم دعا سبحانه عليهم بقوله { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ٱلسَّوْء } وجعل ما دعا به عليهم مماثلاً لما أرادوه بالمسلمين ، و { السوء } بالفتح عند جمهور القراء مصدر أضيفت إليه الدائرة للملابسة ، كقولك رجل صدق . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، بضم السين ، وهو المكروه . قال الأخفش أي عليهم دائرة الهزيمة والشرّ . وقال الفراء { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ٱلسَّوْء } العذاب والبلاء . قال والسوء بالفتح مصدر سؤته سوءاً ومساءة ، وبالضم اسم لا مصدر ، وهو كقولك دائرة البلاء والمكروه { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لما يقولونه { عَلِيمٌ } بما يضمرونه . قوله { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } هذا النوع الثاني من أنواع الأعراب كما تقدّم أي يصدّق بهما { وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } أي يجعل ما ينفقه في سبيل الله { قُرُبَـٰتٍ } وهي جمع قربة ، وهي ما يتقرب به إلى الله سبحانه ، تقول منه قربت لله قرباناً ، والجمع قرب وقربات . والمعنى أنه يجعل ما ينفقه سبباً لحصول القربات { عِندَ ٱللَّهِ } وسبباً لـ { صلوات الرسول } أي لدعوات الرسول لهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين ، ومنه قوله { وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } التوبة 103 ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى " ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا النوع من الأعراب تقرّباً إلى الله مقبول واقع على الوجه الذي أرادوه ، فقال { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } فأخبر سبحانه بقبولها خبراً مؤكداً باسمية الجملة ، وحرفي التنبيه والتحقيق ، وفي هذا من التطييب لخواطرهم ، والتطمين لقلوبهم ما لا يقادر قدره ، مع ما يتضمنه من النعي على من يتخذ ما ينفق مغرماً ، والتوبيخ له بأبلغ وجه ، والضمير في { إنها } راجع إلى « ما » في { ما ينفق } وتأنيثه باعتبار الخبر . وقرأ نافع ، في رواية عنه « قُربة » بضم الراء ، وقرأ الباقون بسكونها تخفيفاً ، ثم فسر سبحانه القربة بقوله { سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ } والسين لتحقيق الوعد . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ في قوله { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } قال أخبرنا أنكم لو خرجتم ما زدتمونا إلا خبالاً ، وفي قوله { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } قال لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم ، قال للمؤمنين " لا تكلموهم ولا تجالسوهم " ، فأعرضوا عنهم كما أمر الله . وأخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، في قوله { لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } قال لتجاوزوا عنهم . وأخرج أبو الشيخ ، عنه ، في قوله { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } قال من منافقي المدينة { وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } يعني الفرائض ، وما أمر به من الجهاد . وأخرج أبو الشيخ ، عن الكلبي ، أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال " من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن " وإسناد أحمد هكذا حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدّثنا سفيان عن أبي موسى ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره . قال في التقريب وأبو موسى عن وهب بن منبه مجهول من السادسة ، ووهم من قال إنه إسرائيل بن موسى ، وقال الترمذي بعد إخراجه حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري . وأخرج أبو داود ، والبيهقي ، من حديث أبي هريرة ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بدا جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى أبواب السلطان افتتن ، وما ازداد أحد من سلطانه قرباً إلا ازداد من الله بعداً " وأخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، في قوله { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا } قال يعني بالمغرم أنه لا يرجو له ثواباً عند الله ولا مجازاة ، وإنما يعطي من يعطي من الصدقات كرهاً { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ } الهلكات . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في الآية قال هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياء اتقاء على أن يغزوا ويحاربوا ، ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرماً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } قال هم بنو مقرّن من مزينة ، وهم الذين قال الله { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن عبد الرحمن بن معقل ، قال كنا عشرة ولد مقرن ، فنزلت فينا { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله { وَصَلَوٰتِ ٱلرَّسُولِ } يعني استغفار النبي صلى الله عليه وسلم .