Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 21-23)
Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى ذكره : { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ } إلى قوله : { نَسْياً مَّنسِيّاً } . أي : قال : الأمر كما قيل لك ، أن الله يهب لك غلاماً زكيا . { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي : سهل . { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } أي : ولنجعل هذا الغلام حجة على الناس { وَرَحْمَةً مِّنَّا } . أي : ورحمة منا لك ، ولمن آمن به . { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } . أي : كان خلقه منك بغير ذكر أمراً قد قضاه الله في سابق علمه أنه يكون على ذلك . ثم قال تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } . في الكلام حذف ، تقديره : فنفخنا فيها من روحنا بغلام { فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ } أي : اعتزلت به مكاناً قصياً ، أي : متباعداً عن الناس [ نائيا ] ، وهو بيت لحم ، أقصى الوادي . فنظرت إلى أكمة / ، فصعدت عليها مسرعة ، وإذا على الأكمة جذع نخلة ، فاستندت إلى الجذع . وهو قوله : { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } . فجزعت عند شدة الولادة ، وخوف ما يقول الناس ، فقالت : { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } . فسمع جبريل صلى الله عليه وسلم كلامها ، فناداها من تحتها { أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } أي : جدولاً ، وهو النهر الصغير . ثم قال لها : { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } ، فعجبت من قول جبريل صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان جذعاً قد نخر ليس فيه سعف ، فلما هزته ، نظرت إلى السعف قد أطلع من بين أعلى الجذع ، وقد أخضر ، ونظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف أبيض ، ثم نظرت إليه قد اخضرّ بعد البياض ، فصار بلحاً ، ثم نظرت إلى البلح قد احمرّ بعد الخضرة ، ثم نظرت إليه قد صار بسراً ، ثم نظرت إلى البسر قد احمرّ ، ثم نظرت إليه قد صار رطباً ، وكذلك كله في أقل من ساعة . وقيل : كان ذلك كله في أقل من طرفة عين . فجعلت الرطب تسقط بين يديها ، فطابت نفسها لما رأت من الآيات . قال وهب بن منبه : " نفخ جبريل صلى الله عليه وسلم في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم . قال وهب : لما قال لها جبريل { قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } استسلمت لأمر الله ، فنفخ في جيبها وانصرف عنها " . وقال السدي : " فخرجت وعليها جلبابها لما قال لها جبريل عليه السلام ذلك ، فأخذ كمها ، فنفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قدامها ، فدخلت النفخة صدرها ، فحملت ، فأتتها أختها - امرأة زكريا - تعودها ، فلما فتحت لها الباب ، التزمتها ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم ، أشعرت أني حبلى ؟ قالت مريم : أشعرت أيضاً أني حبلى ؟ قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك . فذلك قوله تعالى : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 39 ] . قال ابن جريج : " إنما نفخ جبريل في جيب درعها ورحمها " . قال السدي : " لما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى المحراب الشرقي منه ، فأتت أقصاه " . قوله : { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } . أي : جاء بها المخاض إلى جذع النخلة . والهمزة دخلت لتعاقب الباء . قال ابن عباس ومجاهد والسدي : المعنى : أَلجأها . و " المخاض " : " الحمل " . وقال قتادة : { فَأَجَآءَهَا } " اضطرها " . وذكر بعض أهل الأخبار أنها اعتزلت ، وذهبت إلى أدنى أرض مصر ، وآخر أرض الشام . وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو أرض مصر . قال وهب بن منبه : " لما اشتملت مريم على الحمل ، كان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار ، وكانا منطلقين إلى الجبل الذي عند صيهور ، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم . وكان مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد ، في ذلك الزمان ، وكان لخدمته فضل عظيم . فرغبا في ذلك . فكانا يليان معالجة ذلك بأنفسهما وتحبيره وكناسته ، وكل عمل يعمل فيه . وكان لا يعمل من أهل زمانها أحد أشد اجتهاداً وعبادة منهما . فكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف . ولما رأى الذي بها ، استعظمه ، ولم يدر على ما يضع أمرها ، فإذا أراد يوسف أن يتهمها ، ذكر صلاحها وبراءتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قط / ، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر عليها . فلما اشتد ذلك عليه كلّمها . فكان أول كلامه إياها أن قال لها : إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر ، وقد خشيت ، وقد حرصت على أن أكتمه وأميته في نفسي ، فغلبني ذلك ، فرأيت أن الكلام أشفى فيه لصدري . قالت : فقل قولاً جميلاً . قال : ما كنت أقول لك إلا ذلك . فحدثيني هل ينبت زرع بغير بذر ؟ قالت : نعم . قال : فهل تنبت شجرة من غير غيث ؟ قالت : نعم . قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم . ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ، والبذر يومئذٍ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر ؟ أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما وحده ؟ أو تقول : لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء ؟ ولولا ذلك لم يقدر على إنباته ؟ قال يوسف : لا أقول هذا ، ولكني أعلم أن الله يقدر على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون . قالت له : أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر قال : بلى . فلما قالت له ذلك ، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله . ثم دنا نفاسها فأوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك ، فإنهم إن ظفروا بك ، عيروك ، وقتلوا ولدك . فأفضت ذلك إلى أختها ، وأختها حينئذ حبلى ، وقد بشرت بيحيى ، فلما التقتا ، وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجداً معترفاً بعيسى . فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الأكاف شيء . فلما كان بقرب أرض مصر ، في منقطع بلاد قومها ، أدرك مريم النفاس ، فألجأها إلى حمار أو مذوده وأصل نخلة . فاشتد على مريم المخاض ، فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة قاموا صفوفاً محدقين بها . وعن وهب أنها قالت له عند سؤاله : إن الله تعالى خلق البذر قبل الزرع ، وإن الله خلق الحبة من غير مطر ، وإن الله خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر . وعن وهب أيضاً أنه قال : لما حضر ولادتها ، وجدت ما تجده المرأة من الطلق ، فخرجت من المدينة حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم . فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود مقرة وتحتها نبع من الماء فوضعته عندها . وقد قال السدي لما حضر وضعها إلى جانب المحراب الشرقي منه أتت أقصاه . وقيل : إن عيسى ولد بمصر بكورة أهناس ، ونخلة مريم قائمة بها إلى اليوم . والله أعلم بذلك كله . قال ابن عباس : ليس إلا أن حملت فولدت في ساعة . وعن مجاهد ، أنها حملته ستة أشهر ، فكانت حياته آية له لأنه يعيش من ولد من ستة أشهر . وقال غيره أقامت ثمانية أشهر ، وذلك آية لعيسى أيضاً ، لأنه يولد مولود لثمانية أشهر فيعيش . وقوله : { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ } يدل على طول المكث . قال مجاهد : كان حمل النخلة عجوة . وقيل : كان جذعاً بلا رأس ، وكان ذلك في الشتاء ، فأنبت الله له رأساً ، وخلق فيه رطباً ؟ في غير وقته . وروي أنها لما رأت الآية في الرطب والجذع طابت نفسها . وقالت : ليس ولادتي هذا الغلام من غير أب أعجب من هذا الجذع البالي . فأكلت من الرطب ، وشربت من النهر . وقوله : { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا } [ أي : قبل هذا ] الطلق ، استحياء من الناس قاله السدي . { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } . أي : لم أخلق ولم أكن شيئاً . قال السدي : معناه نسى ذكري وأمري ، فلا يرى لي أثر ولا عين . وقال قتادة : معناه : وكنت شيئاً لا يذكر ولا يعرف ولا يدري من أنا . وقال مجاهد وعكرمة : حيضة ملقاة . والنسي عند أهل اللغة ، ما طال مكثه فنسي . ويكون النسي الشيء الحقير الذي لا يعبأ به . وقرأ محمد بن كعب : " نِسْئاً " بالهمز وكسر النون . وكذا قرأ أيوب ، إلا أنه فتح النون وهو من نسأه الله إذا أخره . / وإنما تمنت الموت وقد علمت أن الرضى بقضاء الله واجب عليها لأنها كرهت أن يعصى الله فيها وفيما يقول قومها فيها إذ جاءت بولد من غير ذكر ، فشق عليها أن يأثموا فيها ويعصوا الله من أجلها فيما يرمونها به لا أنها سخطت قضاء الله فيها ، إذ هي تعلم أن الله تعالى لم يختر لها إلا ما فيه الخيرة والصلاح لها . فتمنيها للموت إنما هو طاعة لله لأن من كره أن يعصى الله فيه فقد أطاع الله .