Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 46-52)
Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى ذكره : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } إلى قوله : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . هذا تقرير وتوبيخ للكفار من قريش وغيرهم . ومعناه : أفلم يسر هؤلاء المكذبون بك يا محمد ، فينظروا إلى مصارع أشباههم من الأمم المكذبة للرسل قبلهم ، فيخافوا أن يحل عليهم مثل ذلك بتكذيبهم لك ، فيرجعوا عن التكذيب إلى الإقرار والتصديق لك ، ويفهموا ذلك بقلوبهم ، ويسمعوه بآذانهم . وقوله : " فَتَكُونَ " جواب النفي . وقيل : هو جواب الاستفهام والمعنى : قد ساروا في الأرض فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها مصارع من كان قبلهم من الأمم الماضية ، يخاطب قريشاً ، لأنهم كانوا يسافرون إلى الشام فيرون آثار الأمم الهالكة ، فهو في المعنى : خبر فيه تنبيه وتقرير إخبار عن أمر قد كان . كما قال : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] . أي : قد شرحنا لك صدرك . ونصب " فَتَكُون " عند الكوفيين على الصرف ، إذ معنى الكلام الخبر ، فكأنهم صرفوه عن الجزم على العطف على يسيروا ، فلما صرف عن الجزم ، رد إلى آخر الجزم وهو النصب ، فهذا معنى الصرف عندهم . ثم قال تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ } . أي : فإن القصة لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص ، ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن إبصار الحق ومعرفته . قال قتادة : البصر : الناظر بلغة ومنفعة والبصر النافع في القلب . وقال مجاهد : ليس من أحد إلا له عينان في رأسه وعينان في قلبه فأما اللتان في الرأس فظاهرتان يبصر بهما الظاهر ، وأما اللتان في القلب ، فباطنتان يبصر بهما الغيب ، وذلك قول الله عز وجل : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } . وقال ابن جبير : نزل في ابن أم مكتوم وكان أعمى { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ } الآية . فالمعنى : لا تعمى الأبصار السالمة عن رؤية ما تعتبر به ، ولكن تعمى القلوب عن رؤية الدلالات على صحة ما تعاينه الأبصار . وقوله : { فِي ٱلصُّدُورِ } توكيد ، لأنه قد علم أن القلب لا يكون إلا في الصدور ، ولكن / أكده به كما قال : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] وكما قال : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] . ثم قال : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } . أي : ويستعجلك يا محمد مشركوا قومك بما تعدهم به ، من عذاب الله على شركهم به ، وليس يخلف الله وعده الذي وعدك فيهم من إحلال عذابه عليهم . ثم قال : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } . يعني : أحد الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض . قاله ابن عباس ، وقاله مجاهد وهي ستة أيام ، كل يوم مقداره ألف سنة مما تعدون . وعن ابن عباس أن ذلك هو اليوم من أيام الآخرة في مقدار الحساب . وروى أبو هريرة أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم ، فقيل له : وما نصف يوم ؟ فقال : أو ما تقرأ القرآن : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } فهذا يدل على أن المراد بالآية أيام الآخرة ، وهو قول عكرمة . وروي أيضاً عن مجاهد وهو قول ابن زيد . ومعنى إضافة ذكر اليوم إلى الاستعجال بالعذاب ، أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا التي أيامها قليلة قصيرة ، فاعملوا أن العذاب يحل بهم في وقتٍ اليوم منه كألف سنة من سني الدنيا ، فذلك أبقى لعذابهم وأشد . وقيل : المعنى ، أن الله جلّ ذكره أعلمهم أن الأيام التي بقيت لهم ويحل عليهم العذاب قليلة عنده ، إذ اليوم عنده كألف سنة مما تعدون فوقت العذاب عندكم بطيء أيها المشركون ، وهو قريب عند الله . وقيل معنى ذلك : وأن يوماً في الشدة والخوف في الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا فيها شدة وخوف وصعوبة ، وهذا قول حسن . وقيل : المعنى ، وإن مقدار يوم واحد من أيام الدنيا يعذب فيه الكافر في الآخرة كمقدار ألف سنة من الدنيا ، يعذب فيها الكافر لو عذبه فيها ذلك المقدار . وذلك في كثرة الآلام والغموم ، فالشدة على المعذبين ، أجارنا الله من ذلك . قال بعض المفسرين ، وكذلك سبيل المنعم عليه في الجنة ، ينال فيها من اللذة والنعيم في قدر يوم من أيام الدنيا مثل ما كان ينال في نعيم الدنيا ولذتها في ألف سنة لو نعم فيها منعماً مسروراً . ثم قال : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } : أي : وكم من أهل قرية أمهلتهم وأخرت عذابهم " وهم ظالمون " أي : مشركون بالله ، ثم أخذتهم بالعذاب . واستغنى عن ذكر العذاب لتقدم ذكره ، فعذبتهم في الدنيا بعد الإمهال وإلى المصير في الآخرة ، فيلقون عذاباً لا انقطاع له . وفي الكلام حذف . والتقدير : فكذلك حال مستعجليك بالعذاب يا محمد ، فإن أمليت لهم إلى آجالهم ، فإني آخذهم بالعذاب في الدنيا بالسيف والمصائب ثم يصيرون إلي في الآخرة فيصل بهم العذاب المقيم . كل هذا تخويف ووعيد وزجر للكفار من قريش وغيرهم . ثم قال : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } . أي : قل يا محمد لمشركي قومك إنما أنذركم عذاب الله أن يحل بكم في الدنيا والآخرة " مُبِينٌ " أي : أبين لكم إنذاري وأظهره لتحذروا وتزدجروا وتتوبوا من شرككم لم أملك لكم غير ذلك ، فأما استعجالكم بالعذاب ، فليس ذلك إلي ، إنما هو إلى الله جلّ ذكره . ثم وصف مَنْ قبل إنذاره وآمن به فقال : { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } : أي ، منكم ومن غيركم { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } أي ، ستر من الله على ذنوبهم التي سلفت ، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي : الجنة . ثم وصف من لم يقبل إنذاره وتمادى على كفره فقال : { وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي : عملوا في الصد عن أتباع النبي عليه السلام ، وترك الإقرار بما جاء به ورد آيات الله ، والتكذيب بهما . ومعنى : { مُعَاجِزِينَ } : معاندين ، قاله : الفراء . وقال ابن عباس : معاجزين : مشاقين . وقال قتادة : سابقين ، قال : ظنوا أنهم يعجزون الله ولن يعجزوه . وقيل : معناه معاندين للنبي صلى الله عليه وسلم مغالبين له ، يفعلون من ذلك ما يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يعجز عن رده وإنكاره . ومن قرأه مُعْجِزِينَ بغير ألف مشدداً ، فمعناه مثبطين مبطئين . تأويله يتبطون الناس ويبطئونهم عن اتباع النبي عليه السلام . ثم قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } . قوله : " من رسول ولا نبي " : يدل على أن النبي هو المرسل ، وأن المرسل نبي ، لأنه أوجب في الآية للنبي الرسالة ، لأن معنى نبي : أنبأ عن الله ، ومعنى أنبأ عن الله : هو أخبر عن الله بما أرسله به ، فالنبي رسول والرسول نبي . وقد قال قوم : / كل رسول نبي وليس كل نبي رسول ، وهذه الآية تدل على القول الأول . ومعنى الآية عند أهل القول الثاني : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى أمة ولا نبي محدث ليس بمرسل . وكان نزول هذه الآية ، أن الشيطان ألقى لفظاً من عنده على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما كان يتلوه من القرآن ، فاشتد ذلك على رسول الله فسلّى الله بهذه الآية . قال محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نادٍ من أندية قريش ، كثير أهله ، يتمنى ألا يأتيه من الله شيء ، فينفروا عنه ، فأنزل الله تعالى : { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [ النجم : 1 ] فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا بلغ . " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " ، ألقى الشيطان في تلاوته كلمتين " تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهم ترجى " . فتكلم بها ثم مضى فقرأ إلى آخر السورة كلها فسجد وسجد القوم معه جميعاً ورضوا بما تكلم به وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك . فلما أمسى النبي أتاه جبريل عليه السلام ، فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال جبريل صلى الله عليه وسلم : ما جئتك بهاتين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افتريت على الله ، وقلت على الله ما لم يقل ، فأوحى الله تعالى إليه { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } [ الإسراء : 73 ] إلى قوله : { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } [ الإسراء : 75 ] فما زال النبي صلى الله عليه وسلم مغموماً بذلك حتى نزلت : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } إلى قوله : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وعلى هذا المعنى ذكره ابن جبير وأبو معاد . وقال ابن عباس في الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب ، فجعل يتلوها ، فسمعه المشركون ، فقالوا : إنا سمعناه يذكر آلهتنا بخير ، فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، ألقى الشيطان أن تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فجعل يتلوها ، فنزل جبريل عليه السلام فنسخها قال له : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } إلى { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وكذلك رواه ابن شهاب على هذا المعنى وان اختلفت الألفاظ . وقيل : معنى الآية : هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو والغلط إذ قرأ فينتبه إلى ذلك أو ينبهه الله عليه ، فيرجع عنه كما يعرض له من السهو في الصلاة ، فنسخ الله لذلك هو تنبيه نبيه عليه . وقوله : { ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ } . هو رجوع النبي صلى الله عليه وسلم عن سهوه وغلطه إلى الصواب ، كل بلطف الله وتيسيره له . وقوله : { وَأَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } أي : وسوس إليه فغلطه في قراءته . وقوله : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } . هو أن المشركين والمنافقين كانوا يطلبون على النبي عليه السلام زلة أو غلطاً يطعنون بذلك عليه . فإذا غلط في قراءته أو سهى ، تلقوا ذلك بالقبول ، وقالوا : رجع عن بعض ما قرأ ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يبين فيها أن الغلط والسهو لا حجة فيهما على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا طعن ، لأنه شيء يجوز على جميع الخلق ، ولا يمتنع من ذلك أحد إلا رب العالمين ، فأخبرهم أن الأنبياء قبل محمد والرسل هكذا كانوا ، فلا نقص في ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم . وقد استدل بعض الناس على أن كل نبي رسول وكل رسول نبي بهذه الآية ، لأنه قال في النبي والرسول : إذا تمنى ، أي قرأ ما أرسل به إلى قومه ، فكلاهما مرسل ونبي ، وقال : إن الأنبياء إنما يصيرون أنبياء إذا أرسلهم الله إلى عباده ، ومن لم يرسله الله إلى عباده فليس بنبي ، كما لا يكون رسولاً . والذي عليه أكثر الناس ، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً . والرسل قليلون ، والأنبياء كثيرون . وقد ذكرنا عدة هؤلاء وهؤلاء في غير هذا الموضع ، وعلى هذا دلائل كثيرة تدل على صحته يطول ذكرها . ومعنى : " إذا تمنى " إذا تحدث في نفسه . وقال ابن عباس : " إذا تمنى " إذا حدث . وقال الضحاك : إذا قال . وقال مجاهد : إذا تلا وقرأ . وقيل : إن قوله : ( والغرانيق العلى ) عنى بها الملائكة ، وكذلك الضمير في وأن شفاعتهم ترتجى ، هو للملائكة / . واختار الطبري أن يكون تمنى ، بمعنى حدث ، إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه . وقيل : معنى الآية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدث نفسه ، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة فيقول : لو سألت الله أن يغنمك كذا ليتسع المسلمون ، ويعلم الله الصلاح في غير ذلك ، فيبطل ما يلقى الشيطان . وحكى الكسائي والفراء " تمنى " بمعنى حدّث نفسه . وقوله : { فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ } أي : يبطله ، من قولهم : نسخت الشمس الظل . وقوله : { ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ } أي يخلصها من الباطل الذي ألقى الشيطان . والله عليم بما يحدث في خلقه من حدث ، حكيم في تدبيره إياهم .