Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 8-10)

Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى ذكره : { لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } إلى قوله : { بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } . أي : أخذنا من النبيئين ميثاقهم ليسأل الله المؤمنين منهم عما أجابتهم به أمهاتهم . ومعنى سؤال الله جل ذكره عن ذلك الرسل ، وهو عالم به ، أنه على التبكيت والتوبيخ للذين كفروا كقوله لعيسى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ } [ المائدة : 116 ] الآية . ثم قال : { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } أي : أعد للمكذبين الرسل عذاباً مؤلماً ، أي موجعاً . ثم قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : اذكروا تفضل الله عليكم فاشكروه على ما فعل بكم . { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } يعني جنود الأحزاب من قريش وغطفان . ويهود بني قريظة وغيرهم . { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } كانت الريح التي نُصِِرَ بها النبي صلى الله عليه وسلم : الصبا . قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي تنصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت الشمال : إن الحرة لا تسري بالليل . قال : فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا . قال أبو سعيد الخدري : " قُلْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ ، قَال : قُولُوا اللهُمَّ اسْتُر عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا . قَال : فَضَرَبَ اللهُ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرّيحِ ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ بِالرّيح " . قال ابن عمر : كانت معي يوم الخندق تُرْسٌ وكان فيها حديد فضربتها الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد . قال مجاهد : أُرْسِلَتْ على الأحزاب يوم الخندق ريح حتى كفأت قدورهم على أفواهها ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم . قال قتادة : { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } يعني : الملائكة ، قال : نزلت هذه الآية يوم الأحزاب وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً ، فخندق رسول الله حوله وحول أصحابه خارج المدينة ، وأقبل أبو سفيان بقريش ومن تبعه من الناس حتى نزلوا بِعُصْرَةِ رسول الله . [ وأقبل عيينة بن حصن أحد بني بدر ومن تبعه من الناس حتى نزل بعصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ] . وكاتبت اليهود أبا سفيان وظاهروه بذلك ، حيث يقول تعالى ذكره : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } فبعث الله عليهم الرعب والريح فذكر لنا أنهم كل ما بنوا بناء قطع الله أطنابه ، وكلما ربطوا دابة قطع الله رباطها ، وكلما أوقدوا ناراً . أطفأها الله حتى لقد ذُكِرَ لنا أن سيد كل حي يقول : يا بني فلان هَلُّم إِلَيَّ ، حتى إذا اجتمعوا عنده قال : النَّجَاءُ أتيتم ، لِمَا بعث الله عليهم من الرعب . قال ابن إسحاق : كانت الجنود قريشاً وغطفان وبني قريظة ، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح : الملائكة ، وكانت الريح مع قوتها شديدة البرد ، وكان في ذلك أعظم آية النبي صلى الله عليه وسلم . وكان سبب الأحزاب : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير إلى خيبر ، وكانوا قد سادوا العرب وعرفوا بكثرة المال ، وهم من بني هارون النبي عليه السلام ، فلما انتقلوا إلى خيبر ، وحول خيبر من العرب أسد وغطفان حزبت اليهود على النبي العَرَبُ من أسد وغطفان وغيرهم . وخرجوا في ستة آلاف ، ثم تدرج كبراء اليهود إلى مكة فحزبوا قريشاً على النبي عليه السلام ، وأتبعتهم كنانة واجتمعوا في نحو عشرة آلاف وأتوا المدينة ، فنزلوا عليها ، فخندق النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ، وكان إخوة بني / النضير من قريظة وَادَعُوا النبي عليه السلام فلم يزل بهم بنو النضير حتى نقضوا العهد وعاونوهم على النبي عليه السلام ، وفيهم نزل : { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ } [ الأحزاب : 26 ] ، أي من حصونهم فأرسل الله على جميعهم الريح فزعزعتهم وانقلبوا خائبين ، ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم إلى محاصرة قريظة الذين أعانوا عليه ونقضوا عهده فحاصرهم ونزلوا على حكم سعد ، وكانوا ست مائة ، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم وقسم عقارهم بين المهاجرين دون الأنصار . قال مالك : كانت وقعة الخندق سنة أربع . وقال ابن إسحاق : فكانت وقعة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة خمس . قال مالك : كان الخندق وقريظة في يوم واحد ، انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من وقعة الخندق ، وقد انصرف المشركون ، فاغتسل فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم ، فقال له : أَوَضَعْتَ الَّلأْمَةَ ولم تضعها الملائكة ، إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة ، فخرج إليهم ، فحكموا سعداً فيهم ، فحكم بسبي الذراري وقتل الرجال ففعل بهم ذلك . وروى ابن وهب عن مالك أنه قال : كانت وقعة أحد على رأس أحد وثلاثين شهراً من الهجرة ، وعند منصرف النبي عليه السلام من أحد خرج إلى بني النضير وأجلاهم إلى خيبر وإلى الشام على صلح وقع بينهم قد ذكر في غير هذا الموضع . ثم قال : { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } أي : بأعمالكم في ذلك اليوم وغيره ، بصير لا يخفى عليه شيء . ثم قال تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } . العامل في إذ عند الطبري { تَعْمَلُونَ } ، أي : وكان الله بصيراً بعملكم إذ جاؤوكم . وقيل : التقدير : اذكر إذ جاؤوكم . وقيل : هي بدل من إذ الأولى . والاختيار لمن قرأ " الظنونا " و " الرسولا " و " السبيلا " بألف أن يقف عليها لأنها إنما جيئ بالألف في هذا على التشبيه بالقوافي والفواصل التي يوقف عليها بالألف فيجب أن تجري مجرى ما شبهت به . وهي مع ذلك تمام ووقف حسن . وقيل : إن هذه الألِفَات إنما جيئ بها لبيان حركة ما قبلها كهاء السكت ، فهذا مؤكد الوقف عليها لمن أثبتها في الوصل والوقف . ويدل على قوة الوقف عليها لمن أثبتها ، قراءة الكسائي وابن كثير وحفص بألف فيهن في الوقف دون الوصل . ومعنى الآية : واذكروا إذ جاءتكم جنود الأحزاب من فوقكم ومن أسفل منكم . قال يزيد بن رومان : الذين جاؤوهم من فوقهم بنو قريظة ، والذين جاؤوهم من أسفل منهم قريش وغطفان . ومعنى { وَمِنْ أَسْفَلَ } من ناحية مكة . " وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر بني قريظة ولم يؤذهم وكتب لهم عهوداً ، وكتبوا له في الموادعة والصلح ، فنقضوا العهود وجمعوا عليه الجموع ونافقوا [ عليه ] مع قريش ، وكان المتولي لذلك حُيي بن أخطب ، استمد على النبي صلى الله عليه وسلم بقريش ومن اتبعه من العرب ، واستمدت قريش بعيينة بن بدر فأقبل بمن أطاعه من غطفان . واستمدت غطفان بحلفائهم من بني أسد ، واستمدوا الرجال من بني سليم فخرجوا في جمع عظيم ، فهم الذين سمّاهم الله الأحزاب ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خروجهم أخذ في حفر الخندق ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في العمل فعملوه مستعجلين يبادرون قدوم العدو ، ورأى المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بطش معهم في العمل ليكون أجد لهم وأقوى بإذن الله . فذكر أنه عرض لهم حجر في محفرهم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم معولاً من أحدهم فضرب به ثلاثاً ، فكسر الحجر في الثالثة ، فذُكِر أن سلمان الفارسي أبصر عن كل ضربة بُرْقَةً ذَهَبَتْ ثَلاَثَةَ وُجُوهٍ ، كل مرة يتبعها سلمان بصره ، فذكر ذلك سلمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قد رأيتُ كهيئة البرق وموج الماء عند كل ضربة ضربتها يا رسول الله ، ذهبت إحداهن نحو المشرق ، والأخرى نحو اليَمَن ، والأخرى نحو الشام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أَوَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلمَان ؟ قَالَ : نَعَمْ رَأَيْتُ ذَلِكَ / قَالَ : فَإِنَّهُ ابْيَضَّ إِحْدَاهُنَّ مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَدَائِنُ تِلْكَ البِلادِ ، وَفِي الأُخرى مَدِينَةُ الرُّومِ والشَّامِ ، والأخْرَى مَدَائِنُ اليَمَنِ وقُصُورُهَا ، والتِي رَأَيْتُ [ بِالبَصَرِ ] تَبْلُغُهُنَّ الدَّعْوةُ إِنْ شَاءَ اللهُ " . وكان حفر الخندق في شوال في سنة أربع من الهجرة ، فلما تم الحفر أقبل أبو سفيان ومن معه من المشركين فنزلوا بأعلى وادي [ فينا ] من تلقاء الغابة فحاصروهم قريباً من عشرين يوماً . وقيل أكثر من ذلك . فلما اشتد البلاء على المسلمين نافق كثير من الناس وتكلموا بكلام قبيح ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما الناس فيه من البلاء جعل يبشرهم ويقول : " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُفَرِّجَنَّ عَنْكُمُ مَا تَرَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ ، وَإنِي لأَرْجُو أَنْ أَطُوفَ بِالبَيْتِ العَتِيق آمِناً ، وَأَنْ تُدْفَعَ إِلَيَّ مَفَاتِيحُ الكَعْبَةِ ، وَلَيُهْلِكَنَّ اللهُ قَيْصَراً وَلَنُنْفِقَنَّ أمْوَالَهُمْ فِي سَبيلِ اللهِ " . فقال رجل من المنافقين : ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق ، وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن هاهنا لا يأمن أحدنا أن يذهب لغائط ، ما يعدنا إلا غروراً . وقال آخرون منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ، وقال آخرون : إئذن لنا فإن بيوتنا عورة ، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ليذكرهم حلفهم ويناشدهم ، فسبوا الرسل وعندوا عن الحق وأبوا إلا نقض العهد والخلاف عليه فشقَّ ذلك على النبي عليه السلام والمسلمين ، فلما اشتدّ الأمر على المسلمين قال النبي عليه السلام : " اللهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ عَهْدكَ وَوَعْدَكَ ، اللهُمَّ إِنْ تَشَاء لاَ تُعْبَد " . وأقبل نوفل بن عبد الله المخزومي ، من المشركين على فرس له ليقحمه على الخندق ، فوقع في الخندق فقتله الله وَكَبتَ به المشركين ، وعظم في صدورهم ، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يعطوه الدية على أن يدفعه إليهم ليدفنوه فأبى أن يأخذ منهم شيئاً ، ولم يمنعهم من دفنه . ورمي يومئذ سعد بن معاذ رمية قطعت الأَكْحَلَ من عضده ، فقال : اللهم اشْفِنِي من بني قريظة قبل الممات ، فرقاً الدم بعدما انفجر . وكان هو الذي وجهه النبي عليه السلام إلى بني قريظة يذكرهم العهد ويناشدهم الله فيما عقدوا مع النبي ، فسبوه وأبلغوا فيه ، فرجع إلى النبي مغضباً عليهم ، فلما فرج الله تعالى عن المسلمين وتفرقت الأحزاب عنهم ، أمر الله نبيه بقتال بني قريظة ، فخرج النبي عليه السلام إليهم فقاتلهم ، فتحصنوا في حصونهم ، فحاصرهم بضع عشر ليلة فعظم عليهم البلاء ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيهم رجلاً ، وأن يختاروا من شاؤوا من أصحابه ، فاختاروا سعداً فنزلوا على حكمه ، فحكم فيهم سعد بأن يقتل مقاتلهم وتسبى نساؤهم وذراريهم وتقسم أموالهم ، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد : " حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ " . فقتل رسول الله مقاتلهم - وكانوا ست مائة مقاتل - ، وسبى ذراريهم ، ثم أعقب الدم على سعد فلم يَرْقأ حتى مات رضي الله عنه ، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام حَيْثُ قُبِضَ سَعْدٌ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ مُعْتَجِراً بِعِمَامَةٍ مِنِ اسْتَبْرَقٍ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدَ مَنْ هَذَا الحَبِيبُ الذِي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوابُ السَّمَاءِ واهْتَزَّ لَهُ العَرْشُ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيعاً يَجُرُّ ثَوْبَهُ إِلى سَعْدِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ ، وقَالَ حَمَلَةُ نَعْشِ سَعْدٍ : إِنْ كَانَ لَبَادِناً وَمَا حُمِلَتْ جَنَازَةٌ أَخَفَّ مِنْهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنَّ لَهُ حَمَلَةً غَيْرُكُمْ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدِ اسْتَبْشَرَتِ المَلاَئِكَةُ بِرُوحِ سَعْدٍ واهْتَزَّ لَهُ العَرْشُ " . ابن القاسم عن مالك قال : حدثني يحيى بن سعيد : لقد نزل لموت سعد سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبلها . ثم قسم رسول الله أموالهم بين من حفر من المسلمين المهاجرين خاصة ، وكان جميع الخيل التي مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة وثلاثين فرساً ، فقسم لكل فرس سهمين ، وأخرج حيي بن أخطب فقال له النبي عليه السلام / : " هَلْ أَخْزَاكَ اللهُ ؟ فَقَالَ : قَدْ ظَهَرْتَ عَلَيَّ ، وَمَا لمتُ نَفْسِي فِي جِهَادِكَ وَالشِّدَّةِ عَلَيْكَ ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ ، كُلُّ ذَلِكَ بِعَيْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ " " . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كاتبهم ، وذلك أنه دس على الأحزاب من قال لهم : إن بني قريظة أرسلوا إلى النبي يدعونه إلى الصلح على أن يرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم ويدفعون إليه الرهن الذي عندهم من رجال قريش ، وذلك أن بني النضير قالت لقريش : لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين رجلاً منكم رهناً عندنا ، فلما بلغ ذلك قريشاً عظم عليهم الأمر ووجهوا إلى بني النضير أن يقاتلوا معهم ، فقالت بنو النضير : وجهوا إلينا الرهن ، ونقاتل ، فتحقق الأمر عند قريش ، فعملوا على الانصراف [ عن ] النبي عليه السلام مع ما حلَّ بهم من الريح ، وما دخل قلوبهم من الرعب ، فكان ذلك كله من سبب تفرقهم عن النبي لطفاً من الله بالمؤمنين . وروي أن الرجل الذي مضى بذلك إلى قريش هو نعيم بن مسعود ، فلما قضى الله قضاءه في بني قريظة وصرف المشركين عن النبي نزل القرآن يعرف الله المؤمنين نعمته التي أنعم عليهم من الريح والجنود التي أرسل على عدوهم . وقوله : { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } هو ما كان المنافقون يخوضون فيه في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقولهم : ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غروراً ، وقولهم : لا مقام لكم ، فأمر بعضهم بعضاً بالانصراف عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر الله تعالى المسلمين وصبرهم على البلاء ، وأن منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، ولم يبدلوا ديناً ولا نية على ما كانوا عليه . وروي أن قوله : { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ } ، نزلت في قوم من المؤمنين تخلَّفوا عن بدر لعذر منعهم ، فعاهدوا الله لئن جاءهم مثل يوم بدر ليرين مكانهم ، فلما كان يوم أحد قاتل بعضهم حتى مات ، ووفى بعهده ، فهو قوله جل ذكره : { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } ، وبقي بعضهم سالماً ، وهو قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } ، ثم أخبر عنهم أنهم ما بدلوا ، يعني : عهدهم بم ينقضوه . ثم ذكر أنه تعالى رد الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وأنه كفى الله المؤمنين قتالهم ، ثم ذكر بني قريظة ونصره للمؤمنين عليهم ، فقال : { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي : عاونوا قريشاً ومشركي العرب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه . { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي : من حصونهم ، يعني بني قريظة ، وأنه قذف في قلوبهم الرعب . { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } أي تقتلون المقاتلة ، وتسبون النساء والأطفال ، وأنه أورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم وأنزل الله في ذلك تسعاً وعشرين آية أولها : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } . ومعنى : { زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ } : شخصت من الخوف . والبصر الناظر ، وجملة العين المقلة وهي شحمة العين : البياض والسواد ، وفي المقلة الحدقة ، وهي السواد الذي في وسط المقلة ، وفي الحدقة الناظر ، وهو موضع البصر يسمى الإنسان ، والعين كالمرآة يرى فيها الوجه وفيها الناظر ، وهما عرقان على حرفي الأنف يسيلان من المؤقين إلى الوجه ، وفيها أشياء كثيرة قد ذكرت في خلق الإنسان . وقوله : { وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } أي نَبَتْ عن أماكنها من الرعب . قال قتادة : لولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت . والمعنى كادت تبلغ الحناجر . وقيل : المعنى بلغ وجفهَا من شدة الفزع الحلوق ، فهي بالغة الحلوق بالوجيف . ثم قال تعالى : { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } أي : ظننتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغلب . هذا خطاب للمنافقين ، ظنوا ظنوناً كاذبة فأخلف الله ظنهم بنصره للمؤمنين .