Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 10-13)
Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى ذكره : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } إلى قوله : { مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } . أي : ولقد أعطينا داود منا فضلاً ، وقلنا للجبال { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } أي : سبحي معه إذا سبح ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد . والتأويب في كلام العرب : الرجوع ، ومبيت الرجل في منزله وأهله ، وأصله من سرعة رجع أيدي الإبل وأرجلها في السير الحثيث ، وهو التأويب . وَقُرِئَتْ " أوبِي " بالتخفيف . من آب يؤوب ، بمعنى تصرفي معه . ثم قال : { وَٱلطَّيْرَ } فمن نصب فعلى معنى : سخرنا له الطير ، هذا قول أبي عمرو . وقال الكسائي : هو معطوف على " داوود " أي : وآتيناه الطير . ونصبه عند سيبويه على موضع يا جبال . ويجوز أن يكون مفعولاً معه ، فيكون المعنى : يا جبال أوبي معه ومع الطير . وقد قرئ بالرفع / على العطف على لفظ الجبال أو على المضمر في " أوبي " وحسن ذلك لما فرقت بـ معه . وقوله : { أَنِ ٱعْمَلْ } أن لا موضع لها بمعنى أي ، ويجوز أن تكون في موضع نصب على معنى : لأن اعمل . وقيل : التقدير : وعهدنا إليه بأن أعمل ، وقاله الطبري . ثم قال : { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } . قال قتادة : سخر الله له الحديد بغير نار ، فكان يسويه بيده ولا يدخله ناراً ولا يضربه بحديد . وروي أنه كان في يده بمنزلة الطين . وهو أول من سخر له الحديد . وقيل : أعطاه الله قوة يثني بها الحديد . قال الحسن : كان داود يأخذ الحديد فيكون في يده بمنزلة العجين . وقوله : { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ } أي : دروعاً كوامل توام . قال قتادة : كان داود أول من صنع الدروع ، وكانت قبل ذلك صفائح . ثم قال تعالى : { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ } . قال قتادة : كان يجعلها بغير نار ولا حديد ، والسرد : المسامير . وقال ابن عباس : السرد حَلَق الحديد . وقاله ابن منبه . والسرد في اللغة كل ما عمل متسقاً متتابعاً يقرب بعضه من بعض ومنه سرد الكلام . ومنه قيل للذي يعمل الدروع زَرَّادٌ وِسِرَّاد . قال وهب بن منبه : كان داود يخرج متنكراً يسأل عن سيرته في الناس فيسمع حسن الثناء عليه ، فيزداد تواضعاً لله ، وعلى الخير حرصاً ، قال : فخرج ذات يوم وبعث الله ملكاً إليه في صورة آدمي ، فقال له داود : كيف ترى سيرة هذا العبد داود - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يظن أنه آدمي ، فقال له الملك : نِعْمَ العبد داود ، ما أنصحه لربه وأقربه من المساكين ، لولا خصلة في داود ما كان لله عبد مثل داود ، قال له داود : وما تلك الخصلة ؟ قال : إنه يأكل من بيت المال وما من عبد أقرب إلى الله جل ذكره من عبد يأكل من كد يمينه ، فانصرف داود ودخل محرابه وابتهل إلى ربه وسأله أن يرزقه عملاً بيده يغنيه عن بيت المال ، فعلمه الله صنعة الدروع ، فكان أول من عمل الدروع وألان الله له الحديد فكان في يده بمنزلة العجين . والمعنى على قول مجاهد : وقدر المسامير في حلق الدرع حتى تكون بمقدار لا يضيق المسمار وتضيق الحلقة فتقسم الحلقة ، ولا توسع الحلقة وتصغر المسمار وتدقه فتسلس الحلقة . ثم قال : { وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أيْ اعمل يا داود أنت وأهلك عملاً صالحاً ، إني بعملكم بصير . والطير وقف ولا تقف على الحديد أن ما بعده متعلق به . ولا تقف على " بصير " إلاّ على قراءة من رفع . " الريح " . فإن نصبته فهو معطوف عند الكسائي ، على " وألنا " . والتقدير عند الزجاج : سخرنا له الريح . ثم قال : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } أي : سيرها به إلى انتصاف النهار مسيرة شهر ، وسيرها به من انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر ، قاله قتادة وغيره . قال ابن زيد : كان لسليمان مركب من خشب ، وكان له فيه ألف ركن ، في كل ركن ألف بيت ، يركب معه فيه الإنس والجن ، تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ظل المركب هم والعُصَّارُ - والعصار الريح العاصف - فإذا ارتفع ظله أتت الرُّخاء فسارت به وصاروا معه ، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ، ويمسي عند قوم بينهم وبينه شهر فلا يدري القوم إلاّ وقد أظلم معه الجيوش والجنود . ثم قال تعالى : { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ } أي : وأذبنا له عين النحاس كانت بأرض اليمن ، قاله قتادة ، قال : وإنما ينتفع الناس اليوم مما أخرج الله لسليمان . ثم قال : { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : منهم من يطيعه ، يأتمر لأمره فيعمل بين يديه لما يأمره به طاعة لله جل ذكره . فمعنى { [ بِإِذْنِ ] رَبِّهِ } : أمر الله له بذلك ، وتسخيره له إياه . فأمن في موضع رفع بالابتداء ، والمجرور المتقدم الخبر ويجوز أن تكون " من " في موضع نصب على العطف على ما قبله . والتقدير : وسخرنا له من الجن من يعمل . فتقف على " القطر " في القول الأول ، ولا تقف عليه في القول الثاني . ثم قال : { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أي : ومن يزل ويعدل من الجن عما أمر به من طاعة سليمان . { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } في الآخرة وهو عذاب النار المتوقدة . ثم قال تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ } أي : من كل شيء مشرف . والمحراب في اللغة كل شيء مشرف مرتفع ، وكل موضع شريف ، ومنه قيل / للموضع الذي يصلي فيه الإمام محراب لأنه يعظم ويشرف ويرفع . وقيل : المحراب مقدم كل بيت ومسجد ومصلى . قال مجاهد : المحاريب في الآية : بنيان دون القصور . وقال قتادة : " محاريب " : قصور ومساجد . قال الضحاك : " محاريب " : مساجد . وقال ابن زيد . محاريب مساكن وقراء قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } [ آل عمران : 39 ] . أي : في مسكنه ، وقد تقدم ذكره . ثم قال : { تَمَاثِيلَ } قال مجاهد : تماثيل من نحاس . وقال الضحّاك تماثيل : تماثيل الصور . وهذا عند أكثر العلماء منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل الصورة ، وتوعده لمن عملها أو اتخذها . وكان في ذلك صلاح في الدين أنه بعث على الله عز وجل والصور تعبد ، فكان الأصلح إزالتها . وقد قال قوم : عمل الصور جائز بهذه الآية وبما صح عن ( المسيح ) عليه السلام . ثم قال تعالى : { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ } أي كالحياض . كانوا ينحتون له ما يشاء من جفان كالحياض ، وهو جمع حابيَّة يجبى فيها الماء ، أي يجمع . وروي عن مجاهد أن الجوابي جمع جوبة وهي الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها الماء . وقاله أيضاً ابن عباس . وعنه : كالحياض . وهو قول الحسن وقتادة والضحاك . وقيل : إنها كانت تُعمل له كهيئة الطير . ثم قال : { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } أي : ثابتات لا تحرك من موضعها لعظمها قال ابن القاسم : قال مالك : " وجفان كالجواب : " كالجوبة من الأرض . قال : " وقدور راسيات " هي قدور لا تحمل ولا تحرك . والجوبة من الأرض : الموضع يستنقع فيه الماء . قال ابن زيد : قدور أمثال الجبال من عظمها يعمل فيها الطعام لا تحرك ولا تنقل ، كما قال للجبال راسيات . وعن ابن زيد أيضاً : أنها قدور من نحاس تكون بفارس . وقال الضحاك : هي قدور كانت تعمل من الجبال حجارة . ثم قال تعالى : { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } أي : اعملوا لله الشكر ، أي : من أجل الشكر على نعمه عليكم ، فيكون شكراً مفعولاً من أجله . ويجوز أن يكون مصدراً على معنى : اشكروا له شكراً ، وقام " اعملوا " مقام اشكروا . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد يوماً إلى المنبر قائلاً : " " اعملوا آل داود شكراً " فقال : ثلاثة مَنْ أُوتيهن فقد أُوتي مثل ما أوتي آل داود : العدل في الغضب والرضى ، والقصد في الفقر والغنى ، وَخَشية الله في السر والعلانية " . وقال مجاهد : لما قال الله جل ذكره : { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } ، قال داود لسليمان : إن الله قد ذكر الشكر ، فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل ، قال : لا اقدر ، قال : فاكفني صلاة الظهر قال : نعم ، فكفاه . قال الزهري : اعملوا آل داود شكراً ، قولوا : الحمد لله . وروي أن داود عليه السلام كان قد جزأ الصلاة على أهل بيته وولديه ونسائه وأهله ، فلم تكن تأتي ساعة من الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داود يصلي فعمتهم هذه الآية { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } . وروي أن محراب داود صلى الله عليه كان لا يخلو من مصل ، فإذا أراد المصلي حاجة لا يخرج حتى يأتي غيره من آل داود يصلي في المحراب . وقال محمد بن كعب : الشكر تقوى الله والعمل بطاعته . وقيل : كل عمل من الخير شكر . وروي أن داود صلى الله عليه قال : إلهي كيف لي أن أشكرك ولا أصل إلى شكرك إلا بمعونتك ، فأوحى الله إليه : يا داود ، ألسْتَ تَعْلَمُ أن الذي بك من النعم مني ؟ قال بلى يا رب ، قال : [ فإن الرضى بذلك منك ، شكر ] . ثم قال تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } أي : قليل منهم الموحدون المخلصون العمل لله . وذكر أبو عبيد في كتاب " مواعظ الأنبياء " أنه لما نزل على داود { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } قال داود : يا رب كيف أشكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر ، فالنعمة منك والشكر منك ، فكيف أطيق شكرك ؟ قال : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي . قال أبو عبد الرحمن الحبلي : الصلاة شكر والصوم شكر ، وكل عمل يعمل لله شكر ، وأفضل الشكر الحمد . قال محمد بن كعب : كل عمل يبتغى به وجه الله فهو شكر . وأجاز أبو حاتم الوقف على " داوود " ، ويبتدئ / بـ " شُكْراً " ، على معنى : أشكروا شكراً . ولا يجوز عند غيره لأن اعملوا قام مقام اشكروا فلا يفرق بينهما .