Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 14-20)
Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى ذكره : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ } إلى قوله : { إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . أي : فلما جاء أجل سليمان فمات ، ما دّلَّ الجن على موته إلا دابة الأرض ، وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئاً عليها فأكلتها ، وهي المنسأة . قال قتادة : أكلت عصاه حتى خر . وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما . وأصل المنسأة الهمز لأنها مشتقة من نسأت الدابة إذا ضربتها بعصا أو غيرها لتسير . ولكن نافعاً وأبا عمرو أبدلا من الهمزة ألفاً لغة مسموعة . وليس البدل في نحو هذا بالمطرد إلا في الشعر . وقد كان أبو عمرو يقول : لست أدري مِمَّ هي إلا أنها غير مهموزة . فرأى ترك همزها على طريق الاحتياط مع نقله ذلك عن أئمته أولاً وإنما كان ترك الهمزة للاحتياط ، إذ جهل الاشتقاق لأن كل ما يهمز يجوز ترك همزه ، وليس كل ما لا يهمز يجوز همزه . ثم قال : { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ } أي : فلما سقط سليمان عند انكسار العصا تبينت الجن . { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } أي : علم أن الجن لم تكن تعلم الغيب ، لأنها لو كانت تعلم الغيب ما بقيت في العمل والتعب لسليمان وهو ميت . قال قتادة : كانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون الغيب ، فلما مات سليمان ولم تعلم الجن بموته وبقيت في السخرة بجهد طائعة لميت عاملة له ، فعند ذلك تبينت الجن للإنس أنهم لا يعلمون الغيب . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان سليمان نبي الله إذا صلى ، رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسْمُكِ ؟ فإن كانت تُغرَسُ غُرِسَتْ وإن كانت لِدَواءٍ كُتِبَتْ ، فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه فقال : ما اسمك ؟ قالت الخروب فقال لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب أهل هذا البيت ، فقال : اللهم عَمّ على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولاً ، ومات وهو متوكئ وهم لا يعلمون ، فسقطت فعُلِمَ أن الجن لا يعلمون الغيب ، فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة فشكرت الجن الأرضة " . وفي مصحف عبد الله : " تبيَّنَتِ الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " . وأن في قوله : " أن لو كانوا " في موضع رفع على البدل من الجن . وقيل : هي في موضع نصب على معنى بأن . قيل : المعنى : فلما خرَّ تبين أمر الجن ، فأن بدل من الأمر على المعنى . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل : " أن سليمان كان يَتَجَرَّد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر ، يُدْخِلُ طعامَه وشرابه ، فأدخله في المرة التي مات فيها ، فمات متكئاً على عصاه لا يعلم أحد بذلك ، والشياطين يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم ، وكانت الشياطين تَجتَمِع حول المِحراب ، وكان المحراب له كوى بين يديه ومن خلفه فدخل شيطان من أولئك فمر ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق ، فمر ولم يسمع صوت سليمان ثم رجع ولم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ، ونظر إلى سليمان قد سقط ميتاً ، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ففتحوا عليه فأخرجوه ووجدوا مِنْسَأتَهُ - وهي العصا بلسان الحبش - قد أكلتها الأرضة . ولم يعلموا منْذُ كَمْ مات ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة " . وروي أن الجن كانت تظن أن الشياطين كانوا يعلمون الغيب ، فأحب الله أن يبين لهم أن الغيب لا يعلمه غيره ، فمات سليمان صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على عصاه ، والشياطين دائبة في العمل له وفي الطاعة ، فأقام أربعين يوماً متكئاً على العصا فبعث الله عز وجل الأرضة - وهي السُّوسَة - فأكلت العصا فانكسرت فخر سليمان ، فلما خر تبينت الجن أن الشياطين لا يعلمون الغيب ، إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وقت موت سليمان ، ولم يتمادوا في العمل والسُخرة له وهو ميت . ويروى أن الشياطين قالت للأرضة لو كُنْتِ تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب / ، ولكننا سننقل إليك الماء والطين ، فهم ينقلون لها ذلك حيث كانت ، وذلك هو الطين الذي يكون في جوف الخشب تأتيها به الشياطين شكراً لها . وذكر ابن وهب عن أبي شهاب : أنه لما توفي داود عليه السلام أقبلت الطَّيْرُ فصفت عليه حتى حبست عن الناس الرَّوْحَ ، ووجدوا غماً شديداً ، فقالوا لسليمان : يا نبي الله هلكنا الغنم ، وأمر سليمان الطيرَ فقبضت جناحاً وأرسلت جناحاً فدخل عليهم الرَّوْح . ثم قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } . أي : كان لهم في ذلك دلالة وعلامة انه لا رب لهم إلا الذي أنعم عليهم تلك النعم " وجنتين " بدل من آية . " وسبأ فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو اليَمَنِ ، كان لَه عشرة من الولد ، تَيامن منهم سِتَّةٌ : كندة وَحِمْيَرُ والأزْدُ وَالأشْعَرِيُّونَ ومَذحِجُ وَأنْمَارُ الذين منهم بجيلة وخثعم ، وتشاءم منهم أربعة : عَامِلَةُ وجُذام ولخم وغسان " . قال قتادة : كانت لهم جنتان بين جبلين ، وكانت المرأة تخرج بمكتلها على رأسها تمشي بين جبلين ، فيمتلئ مِكتَلُها وما مسّت بيدها شيئاً ، فلما طغوا بعث الله عليهم دابة يقال لها حدب فنقبت عليهم - يعني السد - فغرقتهم ، فما بقي لهم إلا أثلٌ وشيء قليل من سدرٍ . وقيل : إن قريتهم كان لا يُرى فيها ذبابة ولا بعوض ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، وكان الرّكْبُ يأتون في ثيابهم القمل والذباب فما هو إلا أن ينظروا إلى بيوتهم فيموت ذلك ، قاله ابن زيد قال : وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت القفة بأنواع الفاكهة ولم يتناول شيئاً بيده . ثم قال : { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ } إي : كلوا مما أنعم عليكم به من هاتين الجنتين وغيرهما ، واشكروا نعمه على ذلك . ثم قال : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } أي : هذه بلدة طيبة لا سبخة . { وَرَبٌّ غَفُورٌ } لذنوبكم إن أطعتموه . ثم قال تعالى : { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } أي : فأعرضت سبأ عن طاعة الله وقبول ما أتاهم به الرسل ، فأرسلنا عليهم سيل العرم . قال وهب بن منبه : بعث الله جل جلاله إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً ، فكذبوهم فأرسل عليهم سيل العرم . قال ابن عباس : " العرم " الشديد السيل . وقال عطاء اسم الوادي . وروي ذلك عن ابن عباس قال : وَادٍ كان باليمن وكان يسيل إلى مكة . قال قتادة : ذكر لنا أن العرم وادي بسبأ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية فعمدوا فَسَدُّوا ما بين الجبلين بالقارِّ والحجارة ، وجعلوا عليه أبواباً وكانوا يأخذون من مائة ما احتاجوا ويسدون ما لا يحتاجون . قال الضحاك : كانت أودية اليمن تسيل كلها إلى واد سبأ وهو العرم فسَدُّوا ما بين الجبلين فحجزوه بالصخر والقار ، فاستد زماناً من الدهر . قال قتادة : فأرسل الله عليهم جُرَذَاً فهدم عرمهم ، أي سدهم ، ومزق الله جناتهم وخرب أرضهم عقوبة لهم . وقيل : بل كثر الماء عليهم وغلب حتى هدم السد فغرق الجنات وأفسدها . وعن ابن عباس : أنه إنما حاد السيل الذي كان يسقي جنتيهم عن مجراه فلم يسقها فهلكت . وروي أن العرم مما بنته بلقيس صاحبة سليمان ، وذلك أن قومها اقتتلوا على الماء فاعتزلتهم ، فسألوها الرجوع على أن يطيعوها فرجعت وأمَرَتْهُم فسدوا ما بين الجبلين فحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبَنَتْ من دونه بِرْكَةً ضخمة ، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم ، فإذا أتى المطر احتبس السيل من وراء السد ، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فيجري ماؤه في البركة ، ثم كذلك حتى ينتفعوا بجميع الماء . والعرم بكلام اليمن المِسْنَاة . وقال المبرد : العرم كل ما حاجز بين شيئين . وروي أن الله جل ذكره أرسل عليهم ماء أحمر فشق السد وهدمه وحفر الوادي ، فارتفعت حفتاه عن الجنتين فغاب عنهما الماء فيبستا ، ولم يكن الماء الأحمر من السد ، إنما كان عذاباً أرسله الله عليهم من حيث شاء . ثم قال تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } أي : جعلنا / لهم مكان الجنتين اللتين كانتا تثمر عليهم أطيب الفواكه { جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } . قال ابن عباس : هو الأراك . وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك . وقال ابن زيد : أُبْدِلُوا مكان العنب أرَاكاً ، ومكان الفاكهة أثْلاً ، وبقي لهم شيء من سدر قليل . فالأثل على هذا ثمر الأراك . وقال الخليل : الخَمْطُ الأراك ، فهذا يدل على قطافه كأنه قال ثمر أراك . ومن نون جعل الثاني بدلاً من الأول . قال المبرد : الخَمْطُ كل ما تغير إلى ما لا يشتهى ، يقال خمط اللبن إذا حمض . وقال أبو عبيدة : الخمط كل شجرة فيها مرارة ذات شوك . وقال القُتَبِي : يقال للحامضة خمطة ، وقيل : الخمطة التي قد أخذت شيئاً من الريح . والأثْلُ : الطرْفاء ، قاله ابن عباس . وقيل : هو شجر يشبه الطرفاء . وقيل : هو السَّمُرُ . ثم قال : { ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } أي : عاقبناهم بكفرهم بالله ورسله ، أي : هذا الذي فعلنا بهم جزاءً منا لهم بكفرهم . وقيل : التقدير : وجزيناهم ذلك بكفرهم . فـ { ذَٰلِكَ } في موضع نصب على هذا ، وفي موضع رفع على القول الأول على الخبر للابتداء المحذوف . ثم قال : { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } أي : وهل يكافأ إلا من كفر بالله ، فأما جزاء المؤمنين فهو تفضل من الله لا مكافأة ، لأنه جعل لهم بالحسنة عشراً ، فذلك تفضل منه ، وجعل للمسيء بالواحدة واحدة مكافأة له على جرمه ، فالمكافآت لأهل الكبائر والكفر ، والمجازاة لأهل الإيمان مع التفضل . قال مجاهد : { نُجَٰزِيۤ } يعاقب . قال قتادة : إذا أراد بعبد كرامة يقبل حسناته ، وإذا أراد بعبد هواناً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافى بها يوم القيامة . وقيل : المعنى : ليس يجازى بمثل هذا الجزاء الذي هو الاصْطِلاَمُ والهلاك إلا من كفر . وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ حُوسِبَ هَلَكَ ، قالت : فقلت يا نبي الله ، فأين قوله : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ؟ } قال : إنما ذلك العرض ، ومن نوقِش الحِسَابَ هَلَكَ " . ثم قال تعالى ذكره : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } أي : ومما أنعم الله به على هؤلاء ، أي : جعل بينهم وبين القرى التي بارك فيها - وهي الشام - قرى ظاهرة ، قاله مجاهد وقتادة . قال ابن عباس : هي الأرض المقدسة . وقوله : { قُرًى ظَاهِرَةً } أي : متصلة متقاربة تتراءى ، من كان في قرية رأى القرية التي تليها لقربها منها . قال الحسن : كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية ويروح إلى قرية أخرى . قال الحسن : كانت المرأة تضع زنبيلها على رأسها تشتغل بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ من كل الثمار ، يرقد من غير أن تحترف شيئاً ، بل يمتلئ الزنبيل مما يتساقط من الثمار في حال مسيرها تحت الثمار لاتصال بعض الثمار ببعض . وقال ابن عباس : { قُرًى ظَاهِرَةً } أي : عربية بين المدينة والشام ، وهو قول الضحاك . وقال ابن زيد : كان بين قريتهم وبين الشام قرى ظاهرة . قيل : وإن كانت المرأة لتخرج ومعها مغزلها ومِكْتَلها على رأسها ، تروح من قرية إلى قرية وتغدوا أو تبيت في قرية ، لا تحمل زاداً ولا ماءً فيما بينها وبين الشام . وقال المبرد : الظاهرة : المرتفعة . ثم قال : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } أي : جعلنا بين قراهم والقرى التي باركنا فيها مسيراً مقدراً من منزل إلى منزل ، لا ينزلون إلا في قرية ولا يغدون إلا من قرية . وقال الفراء : جعل الله لهم بين كل قريتين نصف يوم . ثم قال : { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } أي : سيروا في هذه القرى التي قدرنا فيها المسير إلى القرى التي باركنا فيها - وهي بيت المقدس - آمنين ، لا تخافون ظلماً ولا جوعاً ولا عطشاً . قال قتادة : آمنين لا يخافون ظلماً ولا جوعاً ، إنما يغدون فيقيلون في قرية ويروحون ، فيأتون قرية أهل خير ونهر ، حتى لقد ذكر لنا : أن المرأة كانت تضع مكتلها على رأسها وتمتهن بيدها فيمتلئ مكتلها من الثمرة قبل أن ترجع إلى أهلها من غير أن تحترف بيدها شيئاً ، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زاداً ولا سِقاءً مما بسط الله للقوم . فهذا الذي ذكر الله من قصة سبأ وغيرها ، إنما ذكره لنا ليبين لنا إحسان المحسن وثوابه ، وإساءة المسيء وعقوبته / ، ليتجافى الناس عن المعاصي ويرغبوا في الطاعة ويسارعوا إلى ما رغَّبهم فيه ، ويزدجروا عن ما نهاهم عنه ويخافوا أن يحل بهم ما حل بمن قص عليهم عقوبته ، ويبادروا إلى فعل من قص عليهم كرامة لهم ، فهي مواعظ وأمثال تكرر في القرآن ليتنبه لها الغافل ويجتهد المتنبه إحساناً من الله تعالى ونعمة علينا ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } [ الروم : 58 ] . وقال : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } [ إبراهيم : 45 ] . وهذا كثير مكرر للإفهام في القرآن . ثم قال تعالى : { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } . قرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية وأبو صالح : ( رَبُّنا ) بالرفع " بَاعَدَ بالفتح وألِفِ على الخبر . وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر : ( رَبُّنَا ) بالرفع " بَعَّدَ " بالتشديد وفتح العين والدال . وقد رويت عن ابن عباس وهو خبر أيضاً . وقرأ سعيد بن أبي الحسن أخو الحسن : " ربَّنَا " بالنصب " بَعُدَ " بضم العين وفتح الدال بين بالرفع . ورواه الفراء وأبو إسحاق الزجاج بفتح بَيْنَ وهو خبر أيضاً ، ومعانيها ظاهرة ، والمعنى على قراءة من جزم الفعل أنهم بطروا وجهلوا قدر النعمة عليهم ، فسألوا أن يجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز ليركبوا فيها الرواحل ويتزودوا لها ، فعجل لهم الإجابة كما عجل للقائلين : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقّ مِنْ عِندِكََ } [ الأنفال : 32 ] الآية فقتلهم يوم بدر ، فكذلك هؤلاء مزقوا بين الشام وسبأ . قال الشعبي : فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام ، والأزد بعمان وخزاعة بتهامة ، وفرقوا أيادي سبا وتقطعوا في البلدان بظلمهم لأنفسهم وكفرهم بنعمة الله . ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : فيما تقدم من النعم على هؤلاء والانتقام منهم لما بطروا النعمة وكفروا ، لدلالات وعظات لكل من صبر على طاعة الله ومحبته وشكر على نعمته . قال مُطَرِّف : نعم العبد الصبار الشكور ، الذي إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر . وصبار شكور بناءان للمبالغة . ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } أي : صدق عليهم في ظنه ، وذلك أنه ظن ظناً على غير يقين فكان ظنه كما ظن بكفر بني آدم وطاعتهم له ، منهم أهل الجنتين وغيرهم . ومن شدد " صدق " ونصب " ظنه " بوقوع صدق عليه ، لأن ظنه كان غير يقين ، فصدقه بكفر بني آدم واتباعهم له . قال الحسن : ما ضربهم بسوط ولا بعصاً ، وإنما ظن ظناً فكان كما ظن بوسوسته لهم . والمعنى : أن إبليس لما أنذره الله قال : لأغوينهم ولأضلنهم ولأحتنكن ذرية آدم ، وذلك ظن منه أنه يكون ، لم يتيقن ذلك . فلما وصل من بني آدم إلى ما أراد من إضلالهم صدق ظنه فيهم . وقرئ " صدق " بالتخفيف ، و " إبليس ظنّه " بالرفع فيهما على أن الظن بدل الاشتمال من إبليس . وقوله : { إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : لم يصدق فيهم ظنه ولا أطاعوه ، وثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس . قال ابن عباس : هم المؤمنون كلهم . وقيل : هم بعض المؤمنين لقوله : " إلا فريقاً " ولم يقل إلا المؤمنين . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ولقد اتبعوا إبليس فصدق عليهم ( ظنه ) لأنه لم يصدق عليهم ظنه حتى اتبعوه . ومن خفف صدق ونصب الظن فعلى تقدير حرف الجر ، أي في ظنه .