Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 17-31)
Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا قوله تعالى ذكره : { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } - إلى قوله - { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } منسوخ بالأمر بالقتال ، أمر الله جل ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على قول المشركين والاحتمال منهم ، وقد علم تعالى أنه سيأمره بقتالهم في وقت آخر ، فينسخ الآخر الأول . ثم قال : { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ } ، أي : ذا القوة والبطش الشديد في ذات الله عز وجل والصبر على طاعته . يقال : أيد وآد للقوة , كما يقال : العيب والعاب قال قتادة : " أُعْطِيَ داود قوة في العبادة وفقهاً في الإسلام ، وذُكِرَ أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر . وقوله : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } ، أي : رَجَّاعٌ عما يكره الله عز وجل إلى ما يرضاه أواب وهو فعَّال للتكثير من آب يئوب إذا رجع . قال مجاهد : أواب : رجاع عن الذنوب . قال قتادة : كان مطيعاً لله عز وجل كثير الصلاة . وقال السدى : الأوَّاب : المسبح . ويروى أنه قام ليلة إلى الصباح فكأنه أُعْجِبَ بذلك فقيل لضفدع كلميه في أصل مِحْرَابِه ، فقالت له : يا داود ، تَعْجَبُ لقيام ليلة ! هذا مقامي منذ عشرين سنة شكراً لله عز وجل حين سلَّم / بيضي . قال وهب : كان داود قد قسم الدهر أثلاثا ، فيصير : يوم للعبادة ، ويوماً للقضاء بين الناس ، ويوما لقضاء حوائج أهله . ثم قال تعالى : { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } ، أي : يسبحن مع داود من وقت العصر إلى الليل ، ومن صلاة الصبح إلى وقت صلاة الضحى . يقال : أشرقت الشمس : إذا أضاءت وصفت ، وشرقت إذا طلعت . قال قتادة : كان داود إذا سبح سبحت الجبال معه . واستدل ابن عباس على نص صلاة الضحى في القرآن بهذه الآية { بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } ، لأنه من أشرقت الشمس إذا صفت وأضاءت . فإذا صلى داود العصر وسبَّحَ سبحت الجبال معه ، وإذا صلى الضحى ( سبح وسبحت ) الجبال معه . ثم قال : { وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً } ، أي وسخرنا الطير مجموعة تسبح معه . { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } ، أي : رجاع لأمره ومطيع له . فالهاء لداود وقيل : إلهاء لله عز وجل . والمعنى كل لله مطيع ، مسبح له . فكل " في القول الأولى للطير ، وفي هذا الثاني : يجوز أن يكون للطير ، ويجوز أن يكون لداود والجبال والطير . ورُوي أنه كان إذا سبح أجابته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه . وقال قتادة : محشورة : مسخرة . ثم قال : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } . قال السدي : كان حرسه في كل يوم وليلة أربعة آلاف . وذكر ابن عباس أن الله جل ذكره شدد ملكه هيبة لقضية قضاها في بنى إسرائيل وذلك أن رجلاً استعدى على رجل من عظمائهم فاجتمعا عند داود ، فقال المُسْتَعْدَى : إن هذا غصبني بقراً لي . فسأل الرجل عن ذلك فجحده ، فسأل الآخر البيِّنة فلم تكن له بينة ، فقال لهما : قُوَما حتى أنظر في أمركما فقاما . فأوحى الله عز وجل إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي ستُعدي عليه . فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ، فأَوْحَى إليه مرة أخرى أن يقتُلَه ، وأوحى إليه ثالثة ( أن يقتله ) أو تأتيه العقوبة من الله عز وجل ، فأرسل داود إلى الرجل أن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك ، فقال الرجل : تقتلني بغير بينة ولا تثبت ! فقال له داود : نعم ، والله لأنفِّذْنَ أمر الله عز جل فيك . فلما عرف الرجل أنه قاتله قاله له : لا تعجل عليّ حتى أخبرك ، إني والله ما أُخِذْتُ بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت وَلَدَ هذا فقتلته فبذلك قُتِلتُ . فأمر به داود ، فَقُتِلَ . فاشتدت هيبته في بني إسرائيل لذلك وشد الله به ملكه . ثم قال تعالى : { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ } . قال السدى : هي النبوة . وقال قتادة : الحكمة : السُّنَّة . وقوله : { وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } . قال ابن عباس ومجاهد والسدي : فصل الخطاب : الفهم في علم القضاء . وقال ابن زيد : أعطي فصل ما يتخاطب الناس به بين يديه في الخصومات . وقال شريح : فصل الخطاب : الشاهدان على المدعي ، واليمين على المنكر ، وهو قول قتادة . وقال الشعبي : يمين وشاهد ، وعن الشعبي : هو : أما بعد . ثم قال تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } ، أي : وهل أتاك يا محمد خبر الخصم . والخصم هنا يراد به الملكان ، لكن لا تظهر فيه تثنية ولا جمع لأنه مصدر من خصمته خصماً . والأصل فيه : وهل أتاك نبأ ذوي الخصم ويجوز أن يثنى ويجمع ، ودل على ذلك قوله : خصمان . وقوله : { إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } ، أي إذ دخلوا عليه من غير بابه . والمحراب : مقدم كل شيء ومجلسه وأشرفه . ثم قال تعالى : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ } ، أي : لما دخلوا على داود المحراب . { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } ، أي : فراعه دخولهما من غير مدخل الناس عليه . وقيل : إنما فزع لأنهما دخلا عليه ليلاً من غير وقت نظره بين الناس . { قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ } ، أي : قال الملكان : لا تخف منا نحن خصمان . { بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ } ، أي : تعدَّى أحدنا على صاحبه . { فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ } ، أي : فاقض بيننا بالعدل . { وَلاَ تُشْطِطْ } ، أي : لا تجر ، وقال قتادة ولا تمل ، وقال السدى : لا تخف . وقرأ الحسن وأبو رجاء : " ولا تَشْطُطْ " بفتح التاء وضم الطاء الأولى . بمعنى : ولا تبعد عن الحق . يقال : أَشَطَّ يُشِطُّ إذا جار في القول والحكم ، وشَطّ يَشُطُّ إذا بَعُد . ثم قال تعالى : { وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } / ، أي : وارشدنا إلى قصد الطريق المستقيم في الحق . ثم قال تعالى : { إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } ، الآية . هذا مثل ضربه الملكان لداود ، وذلك أن داود كان له تسع وتسعون امرأة ، وكانت للرجل الذي أعزاه داود حتى قُتل ، امرأة واحدة ، فلما قتل تزوجها فيما ذكر . قال وهب بن منبه : إن هذا أخي ، أي على ديني . والعرب تُكَنِّي عن المرأة بالنعجة والشاة . وقرأة الحسن بفتح التاء من " تَسع وتَسعين " وهي لغة قليلة . وقرأ ابن مسعود : " تِسْعٌ وتَسِعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى " على التأكيد ، كقولهم : رجل ذَكَر ؟ . ولا يؤنث بهذا التأنيث إلا ما تأنيثه وتذكيره في نفسه كالرجل والمرأة ، فإن كان تأنيثه وتذكيره في اسمه ( لم يُقَلْ ) فيه أنثى ولا ذكر ، نحو : دار ، وملحفة ، وشبه ذلك . وقيل : عنى بذلك أنها حسنة . فأنثى تدل على أنها حسنة . ثم قال تعالى ذكره : { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } ، أي : أنزل عنها وضُمَّها إليَّ . قال ابن زيد : أكفلنيها : أعطنيها ، أي : طلقها لي أنكحها . { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } ، أي : صار أعزَّ مني في مخاطبته إياي لأنه إن تكلم فهو أبين مني ، وإن بطش كان أشد مني فقهرني وغلبني . قال قتادة : وعزني في الخطاب : ظلمني وقهرني . وقرأ ابن مسعود : " وَعَازَّنِي " . يقال : عَازَّه ( إذا غالبه ، وَعَزَّهُ ) : إذا غلبه ، ومنه قولهم : " مَنْ ( عَزَّ بَزَّ ) " . ثم قال تعالى : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ } ، أي : قال داود للمتكلم منهما : لقد ظلمك صاحبك بسؤاله إياك أن يضم نعجتك إلى نعاجه . { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } ، أي : وإن كثيراً من الشركاء ليَتَعَدَّى بعضهم على بعض { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } . قوله تعالى ذكره : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } - إلى قوله - { ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } أي : وأيقن داود أنما اختبرناه . { فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } ، أي : سائل ربه المغفرة . { وَخَرَّ رَاكِعاً } ، أي : ساجداً لله . { وَأَنَابَ } ، أي : رجع عن خطيئته وتاب منها . وكان سبب اختبار الله عز وجل له - فيما ذكر ابن عباس - أن داود قال : يا رب ، قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لَوَدِدْتُ أنك أعطيتني مثله . فقال الله جل ذكره له : إني ابتليتهم بما لم أبتلك به ، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به ، وأعطيتك كما أعطيتهم ، قال : نعم ، فأقام ما شاء الله أن يُقيم وطال ذلك حتى كاد أن ينساه . فبينما هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة كانت في المحراب ، فذهب ليأخذها ، فطارت . فاطلَّع من الكوة فرأى امرأة تغتسل . فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم من المحراب وأرسل إليها ، فجاءته ، فسألها عن زوجها وعن شأنها ، فأخبرته أن زوجها غائب ، فكتب إلى أمير تلك السَّرِيَّةِ أن يُؤْمِّرَهُ على السرايا لِيَهْلَكَ زوجها ، ففعل . فكان يصاب أصحابه وينجو وربما نصروا . وإن الله لما رأى الذي وقع فيه داود أراد أن يستنفذه ، فبينما داود ذات يوم في محرابه إذ تسور عليه الخصمان من قبل وجهه . فلما رآهما وهو يقرأ فَزِعَ وسكت ، وقال : لقد اسُتضعفت في مُلكي حتى إن الناس يتسورون علي في محرابي ، قالا له : لا تخف ، خصمان بغى بعضنا على بعض فلم يكن لنا بد من أن نأتيكا فاسمع منا . قال أحدهما . { إِنَّ هَذَآ أَخِي } - إلى { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } . قال له داود : أنت كنت أحوجَ إلى نعجتك منه ، لقد ظلمك بسؤاله إياك نعجتك ونسي نفسه صلى الله عليه وسلم . فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك ، فتبسم أحدهما إلى الآخر فرآه داود فعلم أنه فتن ، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب أربعين ليلة حتى نبتت الخضرة من عينيه ثم شدد الله له ملكه . روى ابن أبي الدنيا أن وهب بن منبه قال : لم يرفع داود عليه السلام رأسه من السجود حتى قال له الملكان : أول أمرك ذنب وآخره معصية ، ارفع رأسك ، فرفع رأسه . وعن وهب أنه قال : لما رفع داود رأسه من ( السجدة رفع رأسه ) وقد زَمِنَ ورعش . قال : فاعتزل نساءه ثم بكى حتى خددت الدموع وجهه . وقال عطاء الخراساني : " إن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها ، فكان إذا رآها اضطربت يداه . وقال وهب بن منبه : كتب داود في كفه : داود الخطاء . وقال يحيى بن أبي كثير لما أصاب داود الخطيئة نفرت / الوحوش من حوله ، فنادى : إلهي ، رُدَّ عليَّ الوحش كي آنس بها فرد الله تبارك وتعالى عليه الوحش فَأَحَطْنَ به وأصغين بأسماعهن نحوه . قال : ورفع صوته يقرأ الزبور ويبكي على نفسه فنادته هيهات هيهات يا داود ، ذهبت الخطيئة بحلاوة صوتك . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَثَلُ عَيْنَيْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَثَلُ الْقِرْبَتَينِ تَنْظِفَانِ بالمَاءِ . لَقَدْ خَدَّدَتِ الدُّمُوعُ وَجْهَ دَاودَ خَديدَ المَاءِ في الأرْضِ " . وروى أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال : قالو : لو جُمِعت دموع أهل الأرض إلى دموع آدم صلى الله عليه وسلم لكانت دموع آدم أكثر ، ولو جمعت دموع أهل الأرض ودموع آدم إلى دموع ابن آدم الذي قتل أخاه لكانت دموع ابن آدم أكثر ، ولو جمعت دموع أهل الأرض ، ودموع آدم ، ودموع ابن آدم إلى دموع يعقوب لكانت دموع يعقوب أكثر ، ولو جمعت دموع أهل الأرض ودموع آدم ودموع ابن آدم ودموع يعقوب إلى دموع داود لكانت دموع داود أكثر . قال سعيد : " كان داود يجلس على ستة أفرشة فيبكي فيبل الأول فيُرفع حتى يبللها كلها ، كلما بَلَّ واحداً رُفِع ؛ وإن كان ليؤتى بالإناء ليشرب فما يفرغ منه حتى يتدفق من دموعه وروى إسماعيل بن عبيد الله : " إن داود النبي صلى الله عليه وسلم كان يعاتب في كثرة البكاء ، فيقول : ذروني أبكي قبل يوم البكاء ، قبل تحريق العظام واشتعال اللحى ، وقبل أن يؤمر بي { مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . قال محمد بن المنكدر مكث آدم صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعين سنة ما يبدي عن واضحة ولا ترقئ له دمعة . فقالت له حواء : إنَّا قد استوحشنا إلى أصوات الملائكة فادع ربك فيسمعنا أصواتهم . فقال لها : ما زلت مستحيياً من ربي عز وجل أن أرفع طرفي إلى أديم السماء مما صنعت . وقال محمد بن خوات : إن داود النبي صلى الله عليه وسلم لما أطال البكاء على نفسه ، قيل له : اذهب إلى قبر زوج المرأة فاستوهبه ما صنعت ، فأتى القبر ، وأَذِنَ الله لصاحب القبر أن يتكلم ، فناداه : أنا داود ولك عندي مظلمة ، قال : قد غفرتها لك ، قال : فانصرف داود وقد طابت نفسه ، فأوحى الله عز وجل إليه أن ارجع فبين له الذي صنعت فرجع ، فأخبره ، فناداه صاحب القبر يا داود ، هكذا يفعل الأنبياء ! قال بكر بن عبيد الله المُزني : مكث داود النبي عليه السلام ساجداً أربعين يوماً يبكي على خطيئته حتى نبت البقل من دموعه ، ثم زفر زفرة فهاج العودة فاحترق ، فنودي أظمآن أنت فَتُسقَى ؟ أجائع فتطعم ؟ أعاري فتُكسى ؟ قال : لا ، ولكن خطيئتي أثقلت ظهري ، فلم يُرْجَعُ إليه بشيء ، فازداد بكاء حتى انقطع صوته ، فكان لا يُسمع له إلاّ كهيئة الأنين ، فعند ذلك غُفِرَ له . وقال الحسن : بكاء داود عليه السلام بعد ما غُفرت له الخطيئة أكثر من بكائه قبل المغفرة ، فقيل له : أليس قد غُفر لك يا نبي الله ؟ ! قال : فكيف بالحياء من الله عز وجل . قال كعب : كان داود عليه السلام يختار مجالسة المساكين ، ويُكثر البكاء ويقول : رب اغفر للمساكين والخطائين حتى تغفر لي معهم ، وكان قبل ذلك يدعو على الخطائين . قال أبو عبد الرحمن الحبلي : ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد خطيئته حتى مات . ورُوي أنه كان إذا ذكر عقاب الله عز وجل تخلعت أوصاله ، فإذا ذكر رحمة الله تراجعت . وروى أشهب عن مالك أنه قال : بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريباً من داود وهي من ذهب ، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها ، فكانت قرب يده ، ثم طارت فَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ ، فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغسل ولها شعر طويل . فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجداً حتى نبت العشب من دموع عينيه . ويراد بالركوع في هذا الموضع : السجود . قال السدي : كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام : يوماً يقضي فيه بين الناس ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه عز وجل ، ويوماً يخلو فيه لنسائه ، وكان له تسع وتسعون امرأة ، وكان فيما يقرأ من الكتب : فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم . فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب قال : يا رب ، إن الخير قد ذهب / به آبائي ، فأعطني مثل ما أعطيتهم . فأوحى الله إليه أن آباءك ابتلوا ببلاء لم تبتل به ، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه فصبر ، وابتلي إسحاق بذهاب بصره ، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف ، وإنك لم تبتل أنت من ذلك الشيء . فقال : يا رب ، ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم . قال : فأوحى الله عز وجل إليه أنك مبتلى فاحترس ، قال : فمكث ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي قال : فمد يده ليأخذه فتنحى ، فتبعه فتباعد حتى وقع في كوة ، فذهب ليأخذه ، فطار من الكوة فنظر أين ( يقع فيبعث ) في أثره ، قال : فأبصر امرأة تغتسل في سطح لها ، فرأى امرأة من أجمل الناس خَلْقاً ، فحانت منها التفاتة فأبصرته ، فألقت شعرها فاستترت به . قال : فزاده ذلك فيها رغبة . قال : فسأل عنها فأخبر أن لها زوجاً وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا . ( قال : فبعث إلى صاحب المسلحة وأمره أن يبعث به إلى عدو كذا وكذا ) . قال فبعثه ففتح له قال : فكتب إليه بذلك . قال فكتب إليه أن أبعثه إلى عدو كذا وكذا - أشد منهم بأساً - قال : فبعثه ففتح له أيضاً ، ثم كتب إليه ثالثة فبعثه فقتل . قال : وتزوج امرأته ، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيراً حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه ، فتسورا عليه المحراب . قال : فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين قال : { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } ، فقالا : { لاَ تَخَفْ } لا تخف ، إنما نحن { خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ } - إلى قوله - { سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } ، قال : قصّا قصتكما قال : فقال أحدهما : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ، وهو يريد أخذ نعجتي فيكمل بها نعاجه مائة ! فقال للآخر : ما تقول ؟ فقال : إن لي ( تسعاً وتسعين ) نعجة ولأخي هذا نعجة واحدة . قال : فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة ؟ ! قال : ( وهو كاره ) . قال : إذا ( لا ندعك ) وذلك . قال : ما أنت على ذلك بقادر . قال : فإن ذهبت تروم ذلك ( أو لم ترد ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يريد طرف الأنف ، وأصل الأنف ، والجبهة قال : يا داود ، أنت أحق أن يضرب منه هذا وهذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امراة ولم يكن لاوريا إلا امرأة واحدة ، ( فلم تزل ) تعرضه للقتل حتى قُتل ، وتزوجت امرأته . قال : فنظر داود الرجلين فلم ير شيئاً فعرف ما قد وقع فيه فخر ساجداً . - وهو موضع السجود عند مالك . وروي أن رجلاً من الأنصار - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل مستتراً بشجرة وهو يقرأ " ص " ، فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة ، فسمعها وهي تقول : اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجراً ، وارزقني بها شكراً ، وضع عني بها وزراً ، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته . فلما أصبح الرجل ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله : نحن أحق أن يقول ذلك . فكان صلى الله عليه وسلم إذا سجد يقول ذلك . قال عقبة بن عامر الجهني : من قرأ ( ص ) ولم يسجد فيها فلا عليه ألا يقرأ بها . قال : فبكى أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة ، ثم يقع ساجداً يبكي حتى نبت العشب من دموع عينيه ، قال : فأوحى الله عز وجل إليه بعد أربعين يوماً : يا داود ، ارفع رأسك فقد غفرت لك . قال : يا رب ، كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء ، إذا جاء أوريا يوم القيامة آخذ رأسه بيمينه ، أو بشماله ، تشخب أوداجه دماً ، يقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ قال : فأوحى الله عز وجل إليه : إذا كان ذلك ( دعوت أوريا ) . فاستوهبتك منه ، فيهبك لي ، فأثيبه بذلك الجنة . قال : رب ، الآن علمت أنك قد غفرت لي . قال : فما استطاع ان يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض صلى الله عليه وسلم . وقيل : اسم الرجل أوريا بن حيان . وقال الحسن : جزأ داود الدهر أربعة أجزاء : يوماً لنسائه ، ويوماً لعبادة ربه ، ويوماً لقضاء بني إسرائيل ، ويوماً لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ، ويبكيهم ويبكونه . قال : فلما كان يوم بني إسرائيل ، قال : ذَكَرُوا فقالو : هل أتى على الإنسان يوم / لا يصيب فيه ذنباً ؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك . فلما كان يوم عبادته أغلق أبوابه وأمر ألا يدخل عليه أحد ، وأكب على التوراة . فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب ، فيها من كل لون ( حَسَنٍ ، قد وقعت بين يديه ، فأهوى إليها ليأخذها ، قال : فطارت فوقعت غير بعيدة من غير أن تؤيسه من نفسها . قال : فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها . قال : فلما رأت ظله في الارض جللت نفسها بشعرها فزاده ذلك إعجاباً بها . وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه ، فكتب إليه أن يسر إلى مكان كذا وكذا - مكانٌ إذا صار إليه لم يرجع - قال : ففعل ، فأصيب ، فخطبها ، فتزوجها . قال قتادة : بلغنا أنها أم سليمان . قال الحسن : فبينما هو في المحراب إذ تسور الملكان عليه - وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب - ففزع منهم حين تسوروا المحراب ، فقالا : لا تخف ، خصمان بغى بعضنا على بعض . وذكر نحو الحديثين المتقدمين . وقيل : إن خطيئته هي قوله : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه من غير ثبت بينة ولا إقرار من الخصم ولا سؤال لخصمه : هل كان هذا هكذا أو لم يكن . وهو قول شاذ . وقال ابن الأعرابي : قال كعب : سجد داود نبي الله صلى الله عليه وسلم أربعين ليلة لم يرفع رأسه حتى رقأ دمعه ويبس رأسه . فكان من آخر دعائه وهو ساجد أن قال : يا رب رزقتني العافية ، فسألتك البلاء ، فلما ابتليتني لم أصبر فإن تعذبني فأنا أهل ذلك ، وإن تغفر لي فأنت أهل ذلك - يقولها في نفسه - فعلم الله عز وجل ما قال فإذا جبريل عليه السلام على رأسه قائم يقول له : يا داود ، إن الله قد غفر لك فارفع رأسك فلم يلتفت إليه ، وناجى ربه وهو ساجد فقال : يا رب ، وكيف تغفر لي وأنت الحكم العدل ، وقد فعلت بالرجل ما فعلت ؟ قال : فنزل الوحي عليه : صدقت يا داود أنا الحكم العدل ، ولكن إذا كان يوم القيامة دفعتك إلى أوريا سلماً ، ثم استوهبتك منه ، فيهبك لي ، فأثيبه الجنة . قال داود : الآن أعلم أنك قد غفرت لي . قال : فذهب داود يرفع رأسه فاذا هو يابس لا يستطيع . قال : فمسحه جبريل عليه السلام بريشة فانبسط . قال : فأوحى الله عز وجل إليه بعد ذلك : يا داود : قد أحللت لك امرأة أوريا فتزوجها ، فتزوجها داود صلى الله عليه وسلم ، فولدت له سليمان عليه السلام ، لم تلد قبله شيئاً ولا بعده . قال كعب : فوالله لقد كان داود بعد ذلك ليظل صائماً في اليوم الحار فيقرب إليه الشراب فإذا قربه إلى فيه ذكر خطيئته فيبكي في الشراب حتى يفيض ثم يرده ولا يشربه . وروى الأوزاعي عن بعض أهل المدينة أنه قال : مثل عيني داود كمثل القربتين تنطفان الماء ، لقد خدد الدمع في وجهه كخديد الماء في الأرض . ويروى أن داود بات لربه عز وجل مصلياً حتى أصبح فذهب الى نهر ليتوضأ ، فقال : الحمد لله ، لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد إياها من أهل الأرض . فكَلَّمَه ضفدع من الماء فقالت : جلا يا أبا سليمان ، فوالله إن لي لثلاثاً من الدهر ما جمعت بين فقمي تسبيحاً لله . وروي عن ابن مسعود وابن عباس أن داود عليه السلام ما زاد على أن قال للرجل : انزل لي عن امرأتك ، فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه . ثم قال تعالى : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } ، أي ذلك الذنب . { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } ، أي : لقربة يوم القيامة . قال الضحاك : لمنزلة رفيعة . ثم قال : { وَحُسْنَ مَـآبٍ } ، أي : حسن مصير . قال السدي : حسن منقلب . وقال الضحاك : حسن مرجع . وقال مجاهد : يبعث داود النبي عليه السلام وذكر خطيئته ، ووجلُه منها في قلبه ، منقوشةٌ في كفه . فإذا رأى أهاويل الموقف لم يجد منها متعوذاً وا محرزاً إلا برحمة الله تبارك وتعالى وقربه ، فيلجأ إليه تبارك وتعالى ، فيشار إليه أن هاهنا عن يسار العرش ، ثم يعلق فيقال له هاهنا عن يمين العرش . وذلك قوله تعالى : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ } . وقال مالك بن دينار : يقام داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش ، ثم يقول : يا داود ، مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به / في الدنيا . فيقول يا رب ، كيف وقد سلبتنيه ؟ ! فيقول : إني سأرده عليك . قال : فيدفع داود بصوت يستفرغ به نعيم أهل الجنان . { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } : تمام حسن . ثم قال تعالى : { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } ، أي : فغفرنا له ذلك الذنب ، وقلنا له : يا داود ، إنا جعلناك خليفة في الأرض ، أي استخلفناك في الارض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكماً بين أهل الارض . { فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } ، أي : بالعدل والإنصاف . { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ } ، أي : لا توثر هواك في قضائك على العدل فتجور في الحكم فيضلك هواك عن سبيل الله . { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } ، أي : يميلون عن الحق الذي أمر الله به . { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ } ، أي : يوم القيامة . { بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } ، أي : بتركهم العمل ليوم القيامة . قال عكرمة : هذا من التقديم والتأخير . والتقدير عنده : لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا أي : بما تركوا أمر الله والقضاء بالعدل . فالعامل في " يوم " في القول الأول : " نسوا " هو مفعول به والعامل فيه في القول الثاني " لهم " وهو ظرف . وكان ابن عباس يسجد عند قوله : " وأناب " ، ويقول : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } . ثم قال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } ، أي : عبثاً ولعباً بل خُلِقَا ليُعمل فيهما بالطاعة . ثم قال تعالى ذكره : { ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، أي : خلق السماء والأرض وما بينهما لغير حساب ولا بعث ولا عمل ، هو ظن الذين كفروا فويل لهم من النار . ثم قال : { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ } . هذا رد لقول الكفار ، لأنهم كانوا يقولون : ليست ثمَّ عقوبة ولا نار ، فالكافر والعاصي يَسْعَدَان باللذات ، والمطيع يشقى ، ومصيرهما إلى شيء واحد فرد الله عليه بأنه لم يجعل المتقين كالفجار في الآخرة ، ولا الصالح كالمفسد . ثم قال : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } ، ( أي : هذا القرآن كتاب أنزله الله إليك يا محمد مبارك ) على من آمن به ، أنزله : { لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } ليعتبروا آياته وليتذكر به أولوا العقول . ثم قال : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ } ، أي : وُلِدَ إليه . { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ } ، أي : ممدوح في طاعة ربه . { إِنَّهُ أَوَّابٌ } ، أي : رجاع إلى طاعة الله عز وجل تواب إليه سبحانه ، وقيل : الأواب : الكثير الذكر . وقال ابن عباس : الأواب : المسبح . وقال قتادة : مطيعاً كثير الصلاة . وقال ابن المسيب : هو الذي يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب . وقيل : هو الذي يذكر ذنبه في الخلاء ، ثم يتوب منه ويستغفر . ثم قال تعالى : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } ، أي : هو تواب في هذا الوقت . والصافنات : جمع صافن من الخيل ، والأنثى : صافنة . والصافن : الذي يجمع بين يديه ، ويثني طرف سنبك إحدى رجليه . وقيل : هو الذي يجمع بين يديه . وزعم الفراء أن الصافن هو القائم . وقال مجاهد : صفون الفرس : " رفع إحدى يديه حتى تكون على طرف الحافر " . وقال قتادة : صفونها : قيامها وبسطها قوائمها . وقال ابن زيد : الصافنات : الخيل ، أخرجها الشيطان لسليمان من مرج من مروج البحر . والصفن أن تقوم على ثلاث وترفع رجلاً واحدة تكون على طرف الحافر على الأرض . قال ابن زيد : وكانت لها أجنحة . ( والجياد : السريعة . روي أنها كانت عشرين فرسا ذات أجنحة ) .