Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 45-59)

Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى ذكره : { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ } - إلى قوله - { وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } ، أي : إذا أفرد الله عز وجل بالعبادة والذكر فقيل : لا إله إلا الله نفرت وانقبضت قلوب الذين لا يؤمنون بالبعث . { وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } ، يعني : الأصنام . { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } ، أي : يفرحون . عنى بذلك ما ألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في سورة " والنجم " إذ قرأ : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى . قال قتادة : " اشمأزت ، أي : كفرت واستكبرت " . وقال مجاهد : اشمأزت انقبضت وهو قول المبرد . وقال مجاهد : وذلك يوم قرأ عليهم " والنجم " عند باب الكعبة . وقال السدي : اشمأزت : نفرت ، وهو قول أبي عبيدة . ثم قال تعالى : { قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } ، أي : قل يا محمد : يالله ، يا خالق السماوات والأرض ، يا عالم ما غاب وما ظهر . { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ } ، أي : تفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من تقبضهم عند توحيدك ، واستبشارهم عند ذكر الأوثان وفي غير ذلك . ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } ، أي : كفروا بالله عز وجل ، { مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } يعني : يوم القيامة . { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } لفدو به أنفسهم لو قُبِل ذلك منهم ، فكيف وهم لا يكون لهم شيء من ذلك يوم القيامة ، ولو كان لهم لم يقبل منهم . ثم قال : { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } ، ( أي : وظهر لهؤلاء الكفار يوم القيامة من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون ) انه أعده لهم . وقال مجاهد : معناه : أنهم عملوا / أعمالاً توهموا ( أنها حسنات ، فإذا هي سيئات . وقيل : معناه : أنهم " عملوا أعمالاً توهموا ) أنهم يتوبون قبل الموت منها فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا ، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة " . وقيل : معناه أنهم توهموا أنهم يغفر لهم من غير توبة فبدا لهم من الله دخول النار على ما قدموا . وقيل : معناه أنهم عملوا أعمالاً توهموا أنها تنفعهم فأحبطها الشرك . قال محمد بن المنكدر : وعملوا أعمالاً كانوا يظنون أنها تنجيهم ( فإذا بها ) قد أهلكتهم وأوبقتهم . ثم قال : { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ } ، أي : وبدا لهم عقاب سيئات أعمالهم . وقيل : المعنى : وظهر ذكر سيئات عملهم في كتبهم إذا أُعْطُوْهَا بشمائلهم . ثم قال تعالى : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ، أي : وجب عليهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزءون به إذا ذكر لهم ، وخوفوا به تكذيباً له وإنكاراً . ثم قال : { فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا } ، أي : إذا أصابه بؤس وشدة دعا الله مستغيثاً به ، فإذا خوّله نعمة منه وفرج عنه { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } ، أي : قال : إنما الرخاء والسعة في المعيشة والصحة في البدن على علم من الله بأني له أهل ومستحق لشرفي ، ورضاه بعملي . وقيل : المعنى : أوتيته على علم عندي بالتجارة والطلب وغير ذلك . وقيل : المعنى : أوتيته على علم عندي ، أي : إذا أوتيت هذا في الدنيا إن لي عند الله منزلة . فرد الله تعالى عليه ذلك فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً } [ القصص : 78 ] وقد مضى ذكر هذا في " القصص " . وقوله : { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } ، معناه : بل أعطينا إياهم تلك النعمة ابتلاء ابتليناهم بها واختباراً . { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : لا يعلمون أنه ابتلاء واختبار لسوء رأيهم وجهلهم . ثم قال تعالى : { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ، أي قد قال في نعم الله عز وجل عليه ، أي : إنما أوتيته على علم الذين كانوا من قبل هؤلاء من القرون الخالية لرسلهم تكذيباً لهم واستهزاءً ، فلم يغن عنهم حين أتاهم بأس الله عز وجل ما كانوا يكسبون من الأعمال ، يعني : عبادتهم الأوثان لم تغن عنهم شيئاً ، ولم تشفع لهم كما يقول هؤلاء أنها تشفع لهم عند الله سبحانه ، ولكنها أسلمتهم لما أتاهم من العذاب . ثم قال تعالى : { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } ، أي : فأصاب الأمم الخالية الذين قالوا مثل مقالة هؤلاء وبال عملهم فعذبوا في الدنيا ، يعني : قارون وشبهه حين قال : إنما أوتيته على علم عندي فخسف به وبداره الأرض . ثم قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } ، أي : والذين كفروا من قومك يا محمد سيصيبهم أيضاً وبال عملهم السيء كما أصاب أولئك . { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } ، أي : بفائتين ربهم هرباً في الأرض من عذابه إذا نزل بهم فأحلّ الله عز وجل عليهم عذابه فقتلوا بالسيف يوم بدر . ثم قال تعالى : { أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ } ، أي : أَوَلَمْ يعلم هؤلاء الذين قالوا إنما أوتينا المال والصحة وغير ذلك على علم أن الله يوسع على من يشاء من عباده في الرزق ، ويضيّق على من يشاء . ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ، أي : إن في توسيع الله عز وجل على خلق ، وتقتيره على خلق لحججاً ودلالات لقوم يؤمنون ، أي : يصدقون بالحق . ثم قال تعالى ذكره : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } . قال ابن عباس : قال بعض أهل مكة : يزعم محمد أنه من عبد الأوثان ، ودعا مع الله إلهاً آخر ، وقتل النفس لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك ، فأنزل الله عز وجل { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ } الآية . وقيل : إنها نزلت في نفر من المشركين خلا الإيمان في قلوبهم فقالوا في أنفسهم : ما نظن أن الله عز وجل يقبل توبتنا وإيماننا وقد صنعنا بمحمد صلى الله عليه وسلم كل شر : أخرجناه ، وقتلنا أصحابه ، وقاتلناه . فأباح الله تعالى لهم التوبة ونهاهم أن يقنطوا من رحمته . / قال مجاهد : الذين أسرفوا على أنفسهم هو قتل النفس في الجاهلية . وقال عطاء بن يسار : نزلت هذه الثلاث الآيات في وحشي وأصحابه ، وروى ذلك عن ابن عباس ، قال : فكان النبي لا يطيق أن ينظر إليه لأنه قتل حمزة فظن وحشي أن الله عز وجل لم يقبل إسلامه فنزلت هذه الآيات . وقيل : نزلت في قوم أسلموا بمكة وخلفوا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فأقاموا بمكة يفتنهم المشركون عن دينهم فافتتنوا ، فكان بعضهم يقول : إن رجعت إلى الإسلام لم يقبلني محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقبل الله توبتي فأنزل الله عز وجل هذه الآيات فيهم . فمعنى أسرفوا على أنفسهم على هذا القول ، أي : أسرفوا على أنفسهم بإقامتهم مع الكفار بمكة ، وظنهم أن الله عز وجل لا يقبل توبتهم ورجوعهم عن دينهم . وقال قتادة : ذكر لنا أن قوماً أصابوا ذنوباً عظاماً في الجاهلية فلما جاء الإسلام أشفقوا إن لم يتب عليهم ، فدعاهم الله بهذه الآية . قال السدي : هي في المشركين ، كقول ابن عباس : وهو قول ابن زيد . وكان ابن مسعود يقول : إن أكثر آية فرجاً في القرآن : { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ } الآية . وروي عن عمر رضي الله عنه أنها نزلت في أهل الإسلام . قال : كنا نقول : لمن افتن من توبة . وكانوا يقولون : ما الله بقابل منا شيئاً ، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل فيهم : { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ } الثلاث الآيات . قال عمر : فكتبتها بيدي وبعثتها إلى هشام بن العاصي . قال هشام : فجعلت أقرؤها ولا أفهمها فوقع في نفسي أنها نزلت فينا لِمَا كُنّا نقول ، قال : فجلست على بعيري ثم لحقت بالمدينة . وروي عن ابن عمر : أن هذه الآيات نزلن في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد ابن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا ، فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً ، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به ! فنزلت هذه الآيات . وقال ابن عمر : هذه أرجى آية في القرآن . فرد عليه ابن عباس وقال : بل أرجى آية في القرآن . { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] . وروى شهر عن أسماء أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في هذه الآية : " إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي ، إنه هو الغفور الرحيم " . وقال القرظي هي للناس أجمع . وقيل : المعنى : يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب . ( وهذا لجماع ) من تاب من كفره أو من ذنوبه فالله يغفر له ما تقدم من ذنوبه كلها . وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] الآية ، وبقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 و 116 ] . والصواب أن الآية خبر لا يجوز نسخه فهي محكمة على ما بينَا من المعنى الذي ذكرنا . وقوله : { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ } يدل على أن الآية نزلت فيمن هو على غير الإسلام ، وأن بالإسلام تغفر الذنوب كلها التي اكتسبت في الكفر . وروى ثوبان مولى رسول صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية . فقال رجل : يا رسول الله ، ومن أشرك ؟ ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ألا ومن أشرك ( ألا ومن أشرك ) - ثلاث مرات " . وروي عن ابن عمر أنه قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول : إنه ليس من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت هذه الآية : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش . قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها ، قلنا : قد هلك ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } و { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 و 116 ] . فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحد أصاب منها شيئاً خِفْنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له . وعن عبد الله بن مسعود أنه قال : القنوط من رحمة الله من الكبائر . واختار الطبري أن / تكون الآية عامة في أهل الإيمان وأهل الشرك لأن الله عز وجل عَمَّ المُسرفين ولم يُخصِصّ به أحداً ، فالشرك أعظم الذنوب وهو مغفور مع التوبة منه والرجوع عنه . وكان ابن عباس يقرأ : " يغفر الذنوب جميعا لمن شاء " . وقد قيل : إن قوله : { يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } منسوخ بقوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] ، وقيل : بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 و 116 ] . والصواب أنها محكمة لأنها خبر ، والأخبار لا تنسخ ، والله يغفر كل الذنوب لمن يشاء من المؤمنين ، فلا نسخ فيه . ومعنى " لا تقنطوا " : لا تيئسوا . { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } ، أي : يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها إذا تابوا منها . { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ } ، أي : الساتر لذنوب التائبين . { ٱلرَّحِيمُ } بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها . ثم قال تعالى : { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ } ، أي : ارجعوا إلى طاعة ربكم ، وأقبلوا على عبادته ، واخضعوا له ، وأجيبوا داعيه . { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ } على كفركم . { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } ، أي : لا ينصركم ناصر فينقذكم من عذاب الله عز وجل . والإنابة هنا : الإيمان والتوبة من الكفر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الإيمان إذا وقع في القلب انفسح له وانشرح . فقيل له : يا رسول الله ، فهل لذلك من آية يعرف بها ؟ فقال : الإنابة إلى دار الخلود . والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت " . ثم قال : { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } ، أي : اعملوا بما في كتاب الله . وقيل : معناه : إن الله أباح الانتصار بعد الظلم وأعلمنا أن العفو أحسن . وقيل : المعنى : إن الله عز وجل قد أخبر عن قوم أنهم عصوا ، وعن قوم أنهم أطاعوا فأمر أن تتبع الطاعة دون المعصية . وقيل : المعنى : إن الله عز جل قد نسخ أحكاماً بما شاء فأمرنا أن نتبع الناسخ دون المنسوخ . وقوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً } ، أي : فجأة . { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } ، أي : لا تعلمون ، وهذا توعد من الله جل ذكره لمن لم يَتُبْ . ثم قال تعالى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } " أن " مفعول من أجله . والأصل في " حسرتا " : يا حسرتي ، ثم أبدل من الياء ألف . والفائدة في نداء الحسرة أن حرف النداء يدل على تمكن القصة من صاحبها وملازمتها له . فذلك أبلغ في الخبر . وأجاز الفراء في الوصل : " يا حسرتاه " بضم الهاء وكسرها . ولا يجيز النحويون إثبات الهاء في الوصل وقد جاء ذلك في الشعر . والمعنى : اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن تصيروا إلى حال الندامة غداً . ومعنى { عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } ، أي : على ما ضيّعته من العمل بما أمرني الله به ، وقصّرت فيه في الدنيا . قال مجاهد والسدي " في جنب الله " ، أي : في أمر الله . وقال الضحاك : " في ذكر الله ، قال : يعني القرآن والعمل به " . وقال أهل اللغة : المعنى : في جنب الله . وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما جلس رجل مجلساً ولا مشى ممشىً ولا جَلَسَ اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه إلا كانت عليه ترة يوم القيامة ، أي : حسرة " . وقال إبراهيم التيمي : من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله عز وجل يوم القيامة في ميزان غيره قد ورثه وعمل فيه بالحق كان له أجره وعلى الآخر وِزْرُه . ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوله الله في الدنيا ( أقرب منه ) منزلة من الله جل ذكره ، أو يرى رجلاً يعرفه في الدنيا أعمى قد أبصر يوم القيامة وعمي هو . وأصل الحسرة الندامة التي تلحق الإنسان حتى يصير معها حسيراً ، أي : معيباً . وروى مجاهد عن عبد الله بن عمر أنه قال : ما تفرق قوم قط من مجلسهم ، ولم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما جلس رجل ولا قوم مجلساً ، ولا مشىً رجل ممشى ، ولا اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه ، إلا كانت عليه يوم القيامة حسرة " . وقوله : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } ، أي : وما كنت إلا من الساخرين ، أي : كنت من المستهزئين بأمر الله سبحانه وكتابه . قال قتادة : ( لم يكفه ) أن ضيع طاعة الله عز وجل حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله سبحانه . قال قتادة : هذا قول صنف منهم / ، فقال صنف آخر : { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي … } الآية ، وقال صنف آخر : { لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً … } الآية ، أي : رجعة . قال ابن عباس : أخبر الله جل ذكره ما العباد قائلون قبل أن يقولوا ، وما هم عاملون قبل أن يعملوا ( فقال { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 14 ] وقال : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . وقال : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] . ومعنى : { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } ، أي : وفقني للرشاد . ثم قال : { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا } دخلت ( هنا " بلى " ) لأن معنى لو أن الله هداني ( ما هداني ) . ودخلت جواباً للنفي حملاً على المعنى : ( بلى هداني ) . ومعنى الآية أنها تكذيب من الله جل ذكره للقائل : " لو أن الله هداني " ، { لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً } ، فأعلمهم أن كتابه وحججه قد أتاهم فكذبوا واستكبروا عن الإيمان به وكانوا من الكافرين به . وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ } بكسر الكاف والتاء على مخاطبة النفس . وبذلك قرأ الجحدري . وقرأ الأعمش : " بلى قد جاءته " بالهاء . وقيل : يلزم من كَسَرَ التاء والكاف ( أن يُقْرَأَ وكنت ) من الكوافر والكافرات . وهذا لا يلزم لأنه يحمل على المعنى .