Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 100-108)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } قوله : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ } : ذلك ما سبق من ذكر القرى والقرون في هذه السورة من أنباء الغيب نقصه عليك ؛ [ لتفهم رسالتك بها ] ، ولتكون آية لنبوتك ؛ لأنك لم تشاهدها ، ولا اختلفت [ إلى أحد ] منهم فتعلمت منهم ، ولا كانت الكتب بلسانك فيقولون : نظرت فيها فأخذت ذلك منها ، ثم أنبأت على ما كان وقصصت عليهم ؛ ليعلم أنك إنما عرفت بالله ، فتكون آية لرسالتك . وقوله : { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } قال بعض أهل التأويل { مِنْهَا قَآئِمٌ } : ترى مكانها وتنظر إليها ، ومنها حصيد لا ترى له أثراً ولا مكاناً . وقال بعضهم : قائم : أي : خاوية على عروشها ، وحصيد : مستأصلة . وعن الحسن قال : منها قائم وما حصد الله أكثر ، أي : وما أهلك الله من القرى أكثر . وأصله عندنا : منها قائم ؛ نحو قرى عاد وثمود ومدين ، أهلك أهلها وبقيت القرى لأهل الإسلام ؛ لأنه يقول في قرى عاد : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } الآية [ الأحقاف : 25 ] ، ومنها حصيد : ما أهلك أهلها والقرى جميعاً نحو قوم نوح ؛ أهلكوا ببنيانهم ، ونحو قريات قوم لوط أهلكت بأهلها أيضاً حتى لم يبق لا الأهل ولا البنيان ، فذلك - والله أعلم - تأويل قوله : { مِنْهَا قَآئِمٌ } هلك أهلها وبقي البنيان ، ومنها حصيد : هو ما أهلك البنيان بأهله ، حتى لم يبق لها أثر ، وفيه وجوه ثلاثة : أحدها : آية لرسالته ؛ لما ذكرناه وعبرة لأهل التقوى ، وهو ما ذكر في آخره : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ } أي : عبرة لمن خاف عذاب الآخرة ، وزجراً لأهل الشرك والكفر ؛ لأنهم يذكرون ما نزل بأولئك فينزجرون عن صنيعهم فيه . هذه الوجوه التي ذكرناها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } قوله : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } فيه وجهان : أي : لم نظلمهم ؛ لأنهم وبنيانهم ملك لله - تعالى - وكل ذي ملك له أن يهلك ملكه ، ولا يوصف بالظلم من أتلف ملكه ، وهم ظلموا أنفسهم إذ أنفسهم ليست لهم في الحقيقة وكذلك بنيانهم ، ومن أتلف ملك غيره فهو ظالم . والثاني : أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ؛ يقول : وما ظلمناهم بالعذاب ؛ إذ هم يستوجبون ذلك بما ارتكبوا ، فلم نضع العذاب في غير موضعه ؛ بل هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها ؛ حيث صرفوها إلى غير مالكها وعبدوا غيره ، فهو ظلم ؛ هذا التأويل في أنفسهم ، وأما البنيان فهو ، أنه إنما جعله لهم ، فإذا هلكوا هم أهلك ما جعل لهم ، إنما أبقي لهم ما داموا ، فأما إذا بادوا هم فلا معنى لإبقاء البنيان . وما ذكر من ظلمهم أنفسهم يحتمل وجوهاً : أحدها : ظلموا أنفسهم بعبادتهم غير الله . والثاني : ظلموا أنفسهم بصرفهم الناس وصدهم عن سبيل الله وعن عبادة الله وتوحيده إلى عبادة غير الله . والثالث : ظلموا أنفسهم بسؤالهم العذاب . وقوله : { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } في هذا وجهان : أحدهما : ما أغنت عنهم عبادة آلهتهم التي عبدوها من دون الله لما جاء أمر ربّك ؛ أي : عذاب ربك ؛ كقولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ … } الآية [ الزمر : 3 ] ، يخبر أن عبادتهم الأصنام لا تنفعهم المنفعة التي طمعوا . والثاني : فما أغنت عنهم أنفس آلهتهم في دفع العذاب عنهم في أحوج حال إليها ؛ لعجزهم في أنفسهم وضعفهم ؛ كقولهم : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] فإذا لم يملكوا ذلك في وقت الحاجة إليهم فكيف يملكونه في غيره من الحال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } يحتمل : ما زاد عبادتهم إياها غير تتبيب ، أو ما زاد آلهتهم التي عبدوها غير تتبيب . والتتبيب : قال عامة أهل التأويل : هو التخسير . وقال أبو عوسجة : غير تتبيب : غير فساد ، والتتبيب : الفساد . وكذلك قال في قوله : { وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } [ غافر : 37 ] أي : فساد . وقال غيره : إلا في خسار وقال غيره : غير تخسير . [ وكذلك قالوا في قوله : { تَبَّتْ } [ المسد : 1 ] أي : خسرت . وقال أبو عبيدة : غير تتبيب : غير تدبير وإهلاك ] . وكذلك قالوا في قوله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] وكذلك قالوا في قول الناس : تبّاً لك . وقال بعضهم : غير تتبيب غير شر ، والتتبيب : الشر ، والتبّ : الشر والخسران ، وهما واحد . وقوله - عز وجل - : { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ } أي : هكذا يأخذ كفار هذه الأمة كما أخذ أولئك ، أي : كما عذبنا الأمم الخالية وهي ظالمة مشركة كافرة ، كذلك نعذب هذه الأمة [ لكن أخر عن هذه الأمة ] ، وفيه رحمة أن { أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ، أي : أن أخذه بالعذاب أليم شديد ، الأخذ نفسه يوصف بالشدة ، ولكن لا يوصف بالألم ، والعذاب يوصف بالألم ، لكن لما وصف بالألم والشدة دل أن الأخذ أخذ بعذاب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ } هو ما ذكرناه : فيه عبرة لأهل التقوى ولمن خاف عذاب الآخرة . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ } خصّ الناس بالذكر وإن كان الجمع لهم ولغيرهم ؛ لأن الآية التي ذكر تكون لهم آية ، أو لما هم المقصودون بالجمع بذلك اليوم - والله أعلم - قيل : يجمع فيه الأولون والآخرون { وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } . قال بعضهم : يشهده أهل السماء وأهل الأرض للعرض والحساب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي : ما نؤخر العذاب عن هذه الأمة إلا لأجل معدود ، وذكر هذا - والله أعلم - جواب ما استعجلوه من العذاب بقولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ونحوه ، فقال : وما نؤخر العذاب عنهم إلا لأجل معدود ، إلا لوقت موقوت ؛ أي : إلا لأجل معدود عند الله ، ولو كان ما ذكر ابن عباس أنه سبعة آلاف فيكون معدوداً عند الناس ، ويكون وقت القيامة معلوماً على قوله ، وقد أخبر الله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي : لا تكلم نفس بالشفاعة لأحد إلا بإذنه ؛ كقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [ الأنبياء : 28 ] أو لا تكلم نفس لأهوال ذلك اليوم ولفزعه ؛ كقوله : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [ إبراهيم : 43 ] وكقوله : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] أو لا تكلم نفس من الأجلة والعظماء لأحد من دونهم بالشفاعة إلا بإذنه ، وهو ما ذكرناه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } : فمنهم شقي بأعماله الخبيثة التي إذا اختارها وعملها أدخلته [ النار ، ومنهم سعيد بما أكرم من الطاعة والخيرات التي إذا اختارها وعملها أدخلته ] الجنة ، وكل عمل يعمله فيدخله الجنة فهو سعيد به ، وكل عمل يعمله فيدخله النار فهو شقي به . روي في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عن عمر - رضي الله عنه - قال : " لما نزلت هذه الآية : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبي الله ، فعلام نعمل ، على شيء قد فرغ منه أو شيء لم يفرغ منه ؟ قال : " بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كل ميسر لما خلق له " فإن ثبت هذا فهو يدل لما ذكرناه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ } لما ذكرناه { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } قال بعضهم : الزفير هو كزفير الحمار في الصدر ، وهو أول ما ينهق ، وأمّا الشهيق فهو كشهيق الحمار في الحلق ، فهو آخر ما يفرغ من نهيقه ، فهو شهيق . وقال بعضهم : الزفير هو ما لا يفهم منه شيء إنما هو كالأنين والجزع من شيء يصيبه لا يتبين منه ؛ كقوله : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] والشهيق هو ما يرتفع منه الصوت يسمى شهيقاً . ويحتمل ما ذكر من الزفير والشهيق أنهم يصيرون بعد كثرة دعائهم وندائهم حتى يكون منهم الزفير والشهيق لا يفهم ؛ كصوت الدواب إذا أصابها ألم . وقوله - عز وجل - : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } عن الحسن قال : { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } : تبدل سماء غير هذه السماء ، وأرض غير هذه الأرض ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض ؛ لأن السماء هذه أخبر أنها تنشق وتطوى وتبدل ؛ كقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ } [ الفرقان : 25 ] و { يَوْمَ نَطْوِي } [ الأنبياء : 104 ] و { يَوْمَ تُبَدَّلُ } [ إبراهيم : 48 ] ونحوه . وقال بعضهم : قوله : { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } إنما هو صلة الكلام ؛ كأنه قال : خالدين فيها إلا ما شاء ربك ، وقد يتكلم بمثل هذا على الصلة . وقال بعضهم : يدوم لهم العذاب أبداً ما دامت السماوات والأرض [ لأهل الدنيا ما كانوا فيها ؛ لأنهما إنما تفنيان بعد فناء أهلها وإحياء الأهل والبعث ، فأخبر أن العذاب يدوم لهم كما يدوم لأهل الدنيا السماء والأرض ] . وقال بعضهم : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } أي : ما دامت سماء الجنة وأرض الجنة ، وسماء النار وأرض النار ، لكن ذكر هذا لئلا يتوهم أهل الجنة والنار قبل هلاك سمائها وأرضها على ما يتوهم في توهم هلاك أهل الدنيا قبل هلاك سمائها وأرضها . وقال بعضهم : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } أي : ما دامت الأرض أرضاً والسماء سماء ، يتكلمون على ما بعد من أوهامهم فناؤهما ، أو على الصلة ؛ يقول الرجل لآخر : لا أكلمك ما دام الليل والنهار : أي أبداً . هذا تأويل قوله : { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } وأما قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } قال بعضهم : إن ناساً من أهل التوحيد يعذبون في النار على قدر ذنوبهم وخطاياهم ثم يخرجون منها . وقد روي في ذلك آثار ؛ روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الاستثناء في الآيتين كلتيهما لأهل الجنة " ، يعني : الذين يخرجون من النار من أهل التوحيد { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } يقول : لم يشقوا شقاء من يخلد في النار وقال في الذين سعدوا إلا ما شاء ربك هم أولئك الذين لم ينالوا من السعادة ما نال أهل الجنة الذين لم يدخلوا النار . وفي بعضها [ عن النبي ] صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أما من يريد الله إخراجه [ من النار ] فإنهم يماتون فيها إماتة " . وقال في خبر آخر : " أما من يريد الله له الخلود فلا يخرجون منها " وأمثال هذا من الأخبار ، فإن ثبت هذا فهو المعتمد . وقال بعضهم : قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } أي : قد شاء لأهل النار الأبد والخلود ، وشاء لأهل الجنة عطاء غير مجذوذ ؛ أي : غير منقطع . ويؤيد هذا التأويل ما ذكر في حرف ابن مسعود وأبي : { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } في الآيتين ؛ وفي الآية الأولى : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وفي الأخرى : ( ما دامت السماوات والأرض عطاء غير مجذوذ ) وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي أنهما لم يذكرا الثنيا في أهل الجنة ، وأصل هذا ما ذكر أبو عبيد قال : الاستثناء الذي هو في أهل السعادة فهو المشكل ؛ لأنه يقال : كيف يستثني وقد وعدهم خلود الأبد في الجنة . وقال في ذلك أقوالا لا أدري إلى من تسند ، إلا أن لها مخارج في كلام العرب وشواهد في الآثار ، وإنما يتكلم الناس في هذا على معاني العربية ، والله أعلم بما أراد . قال : فأحد هذه الوجوه في الاستثناء فيما يقال كالرجل يوجب على نفسه الشيء ليفعلنه ، ثم يقول : إن شاء الله ، وعزمه [ و ] ضميره مع استثنائه أنه فاعله ، لا يريد غيره . ومما يقوي هذا المذهب قول الله - تعالى - : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] فاستثنى ، وقد علم أنهم داخلوه ألبتة . ومنه ما روي في حديث مكة عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : " ولا تحل لقطتها إلا لمنشد " . وقال بعضهم : استثنى المنشد وهي لا تحل له ، كما لا تحل لغيره . والوجه الثاني بأن يكون " إلا " في معنى سوى ؛ فإن العرب تفعل ذلك ؛ تقول : عليك ألف درهم من قبل كذا وكذا ، إلا الألف التي قبل ذلك ؛ أي : سوى الألف التي قبل ذلك [ وغير الألف التي قبل ذلك ، وإلا الألف التي قبل ذلك ] ، فيكون المعنى على هذا أنه وعدهم خلود الأبد سوى ما أعد لهم من الزيادة في الكرامة والمنزلة التي لم يذكرها لهم . ومما يقوي هذا التأويل ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله - تعالى - : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما اطلعتم عليه " ثم قرأ : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ … } الآية [ السجدة : 17 ] ؛ أفلا ترى أن هاهنا من الزيادة ما لم يطلعهم عليه . والوجه الثالث : أن يكون الاستثناء من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين البعث والحساب ، وقد قيل ما ذكرناه أنه ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ الذي ذكر ، إلى أن يصيروا إلى الجنة ، ثم هو خلود الأبد ؛ يقول : فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في الحساب . ومما يقوي هذا المذهب ما قيل في قوله : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الأنبياء : 100 ] قيل : ما بين الموت والبعث ، والله أعلم بذلك . وقوله - عز وجل - : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ } فقد اختلف القراء في قراءتها ؛ قرأها الكسائي وحمزة . بضم السين ( سُعِدُواْ ) وأما أبو عمرو وأهل المدينة وغيرهم من القراء قرءوا بفتح السين ( سُعِدُواْ ) على قياس ( شَقُواْ ) . قال أبو عوسجة : لا أعرف سعدوا بضم السين ، وإنما هو سعدوا بفتح السين . وقال أبو عوسجة ( غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) أي : غير مقطوع ؛ كقوله : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } [ الأنبياء : 58 ] أي قطعاً ، وقد ذكرنا قولهم في الزفير والشهيق على قدر حفظنا له .