Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 84-95)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ } [ أي : إلى مدين أرسلنا ] { أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } هذا قد ذكرنا فيما تقدم : أن كل نبي أول ما دعا قومه إنما دعا إلى توحيد الله ، وجعل العبادة له . وفي قوله : { أَخَاهُمْ شُعَيْباً } وما ذكر في غيره من الأخوة دلالة على أن الرسل من قبل كانوا يبعثون من جنس قومهم لا من الملائكة حيث قال : { أَخَاهُمْ شُعَيْباً } ، ومعلوم أنهم لم يكونوا إخوة لهم في الدين ، وفيه أن المؤاخاة لا توجب فضيلة المؤاخى له ؛ [ لأنه ذكر أن الرسل ] إخوة أولئك الأقوام ، ومنهم كفرة ، وذلك يرد قول الروافض في تفضيل عليّ على أبي بكر بالمؤاخاة التي كانت بين رسول الله وبين علي ؛ والخلة توجب الفضيلة ، وقد جاء عنه عليه السلام [ أنه قال ] : " لو اتخذت سوى ربي خليلاً ، لاتخذت أبا بكر خليلاً " . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } ، ذكر أنهم [ كانوا ] ينقصون المكيال والميزان ، ولا يوفون الناس حقوقهم ، فنهاهم عن ذلك ، فهو - والله أعلم - لوجهين : أحدهما : أنهم إنما نهوا عن ذلك ؛ لحق الربا ؛ لأن النقصان إذا كان برضا من صاحبه يجوز ؛ فدل أنه إنما نهاهم بحق الربا ، وفيهما يجري الربا . والثاني : فيه أن [ هبة ] المشتري للبائع ، وتقلبه [ فيه ] قبل قبضه على قيام البيع فيما بينهما غير جائز ؛ والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } قيل : [ في سعة ] من المال . وقيل : في رخص من السعر ، وإنما يحمل المرء على النقصان والظلم على آخر - عز الشيء وضيق [ الحال ] ، فكيف تنقصون أنتم في حال السعة ورخص السعر . أو يقول : { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } في غير هذا ، فلا تظلموا الناس في هذا ، و [ لا ] تمنعوا حقوقهم ، { وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } ، أي : يوم يحيط بهم العذاب إن كانت الإحاطة مضافة إلى اليوم فهو محيط بالكل ، وإن كانت الإحاطة مضافة إلى العذاب ، فهو محيط بالكفرة خاصة ، وهو - والله أعلم - أنه ما من جارحة من ظاهرة وباطنة إلا وقد يصيبها العذاب ، ويحيط بها ، ليس كعذاب الدنيا يأخذ جزءاً دون جزء ، بل يحيط به ، والنهي بتخصيص نقصان الكيل والميزان لا يدل على أن لم يكن فيهم من المآثم والإجرام سوى ذلك ، لكنه خص هذا ؛ لما كان الظاهر فيهم نقصان الكيل والوزن ، فذكر ذلك ، وهو ما خص قوم لوط بقوله : { أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 165 ] و { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ … } الآية [ العنكبوت : 28 ] ، ذكر هذا وخصهم ، ليس على أنهم لم يكونوا يأتون من الفواحش غيرها ، لكن خص هذا ؛ لأن الظاهر فيهم هذا ؛ فعلى ذلك نقصان الكيل والميزان في قوم شعيب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } خص المكيال والميزان [ والله أعلم ] - لما كانوا يطففون المكيال وينقصون الميزان ؛ رغبة فيهما ، وفيهما يجري الربا ، كما ذكرنا . وقوله - عز وجل : { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } ، فيه دلالة أن المشتري يملك المبيع قبل أن يقبضه ؛ لأنه قال : { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } أضاف إلى الناس أشياءهم ، فلو كان لا يملك ، لم يكن أشياء الناس ، إنما كان [ أشياء البائع ] ، فإنما نقص ماله . [ وقوله ] : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } ، وهو ما ذكر في موضع آخر : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } [ الأعراف : 85 ] . وقوله - عز وجل - : { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال بعضهم : ما أبقى الله لكم من ثوابه في الآخرة خير لكم إن آمنتم به ، وأطعتموه مما تجمعون من الأموال . [ و ] قال بعضهم : { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : ما جعل الله لكم مما يحل خير لكم مما يحرم عليكم من نقصان الكيل والوزن ، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } بالحلال أو بالآخرة . وقال بعضهم : طاعة الله - وهو ما يأمركم به ، ويدعوكم إليه - خير لكم مما تفعلون . وقال الحسن : رزق الله خير لكم من بخسكم الناس حقوقهم ، لكن هذا يرجع إلى ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } يحتمل : ما أنا عليكم بحفيظ ، أي : لست أشهد بياعاتكم وأشريتكم حتى أعلم ببخسكم الناس المكيال والميزان ، لكن إنما أعرف ذلك بالله ، وفيه دلالة إثبات [ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ] . والثاني : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : بمسلط عليكم ، إنما أبلغ إليكم ، كقوله : { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ المائدة : 99 ] . وقوله - عز وجل - : { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } قال بعض أهل التأويل : صلاتك ، [ أي ] : قراءتك تأمرك هذا . وقال ابن عباس : قالوا ذلك له ؛ لأن شعيباً كان يكثر الصلاة ، كأنه [ يخرج ] على الإضمار يقولون : أصلواتك تأمرك بأن تأمرنا بترك عبادة ما عبد آباؤنا . وقوله : و { أَصَلَٰوتُكَ } يحتمل [ أنها كانت صلوات ] معروفة يفعلها ، فيقولون : أصلواتك التي تفعلها تأمرك أن نترك كذا ، أم صلاة واحدة تكثرها ، فقالوا : { أَصَلَٰوتُكَ } ، وخصوا الصلاة من [ بين ] غيرها من الطاعات ؛ لما لعلها كانت من أظهر طاعاته عندهم ، فقالوا له هذا . ثم يحتمل وجهين : [ أحدهما : كأنهم ] قالوا : { أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ … } كذا على التسفيه له [ والتجهيل ] كمن يوبخ آخر [ ويسفهه ] ، [ فيقول له ] : أعلمك يأمرك [ بذلك ] ، أو إيمانك يأمرك بهذا ، كقوله : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ } [ البقرة : 93 ] ، ونحوه من الكلام يخرج على [ التسفيه له أو التجهيل ] . والثاني : يقال ذلك على الإنكار ، يقول الرجل لآخر : إيمانك يأمرك بذلك ، أو علمك يأمرك بهذا ، [ أي : لا يأمرك بذلك ] ، فعلى ذلك يحتمل قول هؤلاء : { أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } [ أي : لا تأمرك بذلك ] هذا إذا كانت الصلاة التي ذكروها مرضية عندهم ، فإن لم تكن مرضية ، فالتأويل هو الأول . وقوله - عز وجل - : [ { مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } ] الآية ، حبب إليهم تقليد آبائهم في عبادة الأصنام واتباعهم إياهم والأموال التي كانت لهم ، [ فمنعهم هذا ] عن النظر في الحجج والآيات ؛ [ لما ] حبب إليهم ذلك ، وهكذا جميع الكفرة إنما منعهم عن النظر في آيات الله و [ التأمل في ] حججه أحد هذه الوجوه التي ذكرنا : حب اللذات ، ودوام الرياسات ، والميل إلى الشهوات ، ظنوا أنهم لو اتبعوا رسل الله وأجابوهم إلى ما دعوهم إليه - لذهب عنهم ذلك . ثم قوله : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } يحتمل : قضاء جميع الشهوات . ويحتمل : ما ذكر من نقصان المكيال والميزان ، يقولون : أموالنا لنا ليس لأحد فيها حق ، نفعل فيها ما نشاء . وقال بعضهم : قوله : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ } : الألف صلة " وأن نفعل في أموالنا ما نشاء " . وقوله - عز وجل - : { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } قال [ بعضهم من ] أهل التأويل : قالوا ذلك له ؛ استهزاء به وسخرية ، كنوا بالحليم عن السفيه ، وبالرشيد [ عن ] الضال ، أي : أنت السفيه [ الضال ] ؛ حيث سفهت آباءنا في عبادتهم الأصنام ، [ الضال ] حيث تركت ملتهم ومذهبهم . وقال بعضهم : على النفي والإنكار ، أي : ما أنت الحليم الرشيد . ويشبه أن يكون على حقيقة الوصف له بالحلم والرشد ؛ لأنهم لم يأخذوا عليه كذبا قط ، ولا رأوه على خلاف و [ لا على ] سفاهة قط ؛ فقالوا : { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } ، أي : كنت هكذا ؛ فكيف تركت ذلك ، وهو ما قال قوم صالح لصالح حيث قالوا : { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً } ، وقوله - عز وجل - : { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي : على [ علم و ] بيان وحجج وبرهان من ربي ، على ما ذكرنا فيما تقدم ، أي : تعلمون أني كنت على بيان من ربي وحجج ، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } : [ يحتمل هذا منه مكان ما قال أولئك الأنبياء : { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } أي : قال شعيب : { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } ] الدين والهدى ، [ و ] النبوة على ما ذكر وأمكن أن يكون الرزق الحسن هو الأموال الحلال الطيبة التي لا تبعة عليه فيها فقال ذلك ؛ وما رزق أولئك عليهم تبعة في ذلك ؛ لأنهم اكتسبوها من وجه لا يحل . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } من الناس من يقول : قال لهم ذلك بإزاء ما قالوا فيما ذكر في الأعراف : { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ الأعراف : 88 ] يقول : أأدعوكم إلى الإيمان بالله والتوحيد له ، وأنهاكم عن الكفر به ، ثم أرتكب ما أنهاكم عنه ، وأترك ما أدعوكم إليه ؟ ! وقال قتادة : لم أكن لأنهاكم عن أمر [ وأرتكبه ] ، وهو واحد { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ } [ أي : ما أريد إلا الإصلاح لكم ما استطعت ] ، وفيه دلالة [ على ] أن الاستطاعة تكون مع الفعل [ لا غير ] ، أما أن يكون أراد : استطاعة الإرادة أو استطاعة الفعل ، فكيفما كان ، فقد أخبر أنه يريد لهم من الصلاح ما استطاع ، فيه ما ذكرنا ، وهو ينقض على المعتزلة مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : الاستطاعة تتقدم [ على ] الفعل ، وهي لا تبقى وقتين ؛ فيصير على قولهم إرادة الصلاح لهم [ في غير زمن ] الاستطاعة . وقوله - عز وجل - : { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ } ، قال بعضهم : التوفيق : هو صفة كل مطيع ، والخذلان : هو صفة كل عاص . وقال بعضهم : التوفيق : هو ما [ يوفق بين فعله وقوله ] في الطاعة ، والخذلان ما يفرق بين قوله وفعله في المعصية . وقال الحسين النجار : التوفيق : هو قدرة كل خير وطاعة ، والخذلان : هو قدرة كل شر ومعصية . وعندنا : التوفيق : هو أن يوفق بين عمل الخير والاستطاعة ، والخذلان : هو أن يفرق بين عمل الخير والاستطاعة . أو أن نقول : هو أن يوفق بين عمل الشر والاستطاعة ، وهما واحد . وقوله - عز وجل - : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : عليه اعتمدت في جميع أمري ، وإليه توكلت ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ، أي : أرجع . أو يقول : إليه أقبل بالطاعة . وقوله - عز وجل - : { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ } [ بالغرق ] { أَوْ قَوْمَ هُودٍ } [ بالريح الصرصر ] { أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } بالصيحة على ما ذكر . قال بعضهم : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أي : لا يحملنكم { شِقَاقِيۤ } قيل : خلافي أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك . وقال بعضهم قوله : [ { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أي : لا يؤثمنكم { شِقَاقِيۤ } أي : عداوتي أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك . وقيل : ] { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } [ أي : ] لا يكسبنكم عداوتي . وقال الحسن : { شِقَاقِيۤ } : ضراري . لكن كله يرجع إلى معنى واحد ؛ لأنه إذا ثبت العداوة ، ثبت المخالفة والبغض والضرر ، فكل ما ذكروا فهو واحد . واصل الجرم : الإثم والذنب . ثم يخرج إنذاره إياهم بمن هلك من الأمم على وجهين : أحدهما : أن قوم شعيب قوم لا يؤمنون بالبعث وبالقيامة ، فأنذرهم بمن هلك من الأمم السالفة ؛ لأنه لو كان ينذرهم بالبعث ، لكان لا ينجح فيهم ؛ لأنهم لا يؤمنون به . والثاني : أنذرهم بأولئك ؛ لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان ، ويتبعونهم ، فيقول : إنكم تقلدون آباءكم وتتبعونهم في عبادة الأوثان فاتبعوهم - أيضاً - فيما بلغوا إليكم من هلاك أولئك بعبادتهم الأوثان ، وتكذيبهم الرسل ، فإذا قلدتموهم في العبادة [ فهلا ] تقلدونهم وتتبعونهم فيما أصابهم بم أصابهم ؟ أو يقول : [ لهم ] : إنكم تقلدون آباءكم الذين عبدوا الأوثان وقد هلكوا ، فهلا تقلدون من لم يعبد منهم ونجا وقد [ عرفتم أن ] من هلك منهم [ بم ] هلك ؟ ومن نجا منهم [ بم ] نجا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أي : إن نسيتم من مضى منهم ، فلا تنسوا ما نزل بقوم لوط ، وليسوا هم ببعيد منكم . وقوله - عز وجل - : { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي : اطلبوا من ربكم المغفرة ؛ أي : اطلبوا السبب الذي يقع لكم المغفرة من ربكم ، وهو التوحيد { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي : ارجعوا إليه ، ولا تعودوا إلى ما كنتم [ من ] قبل . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي : ارجعوا إليه رجوعاً حتى لا تعودوا إلى مثل صنيكعم أبداً { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ } يرحم من تاب إليه ، والله يرحمه { وَدُودٌ } يحتمل وجهين : أحدهما : ودود : أي : حق أن يؤدّ ؛ إذ منه كل شيء وكل إحسان ، والناس جبلوا على حب من أحسن إليهم . والثاني : ودود لمن توسل إليه وتقرب . وقوله - عز وجل - : { يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } قوله : { مَا نَفْقَهُ } يحتمل : ما نفهم وما نعقل كثيراً مما تقول ؛ كأنهم يقولون ذلك على الاستهزاء والهزء به ؛ كأنهم نسبوه إلى الجنون ؛ يقولون : لا نفهم ما تقول ؛ لأن كلامك كلام مجانين . وهذه هي عادة القوم ؛ كانوا ينسبون الرسل إلى الجنون . ويحتمل : ما نفقه : ما نقبل كثيراً مما تقول ، فإن كان على الفهم فهو كقوله : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] وهم كانوا فريقين : فريق كانوا يقولون : قلوبنا أوعية للعلم ؛ كقولهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [ البقرة : 88 ] فإن كان ما تقول حقّاً نفهم ونعقل كما نعقل غيره ، وفريق قالوا : { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [ فصلت : 5 ] كانوا يعقلون أنهم لا يفهمون ولا يفقهون ؛ لأن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقر ، والفريق الأول يقولون : إن قلوبنا أوعية للعلم ، فلو كان حقّاً لعقلناه كما عقلنا غيره ، فهؤلاء كانوا يصرفون العيب إلى الرسول ، وأولئك إلى أنفسهم ، فعلى ذلك قوم شعيب يحتمل أن يكون قولهم كذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } يحتمل هذا وجهين : أحدهما : أي : إنك لست من كبرائنا وأجلتنا ، إنما أنت من أوساطنا ، وعلى ذلك الأنبياء إنما بعثوا من أوساط الناس ، لا من كبرائهم في أمر الدنيا ، فالقوي والعزيز عند أولئك القوم من عنده الدنيا والمال ، وأما من لم يكن عنده المال فهو عندهم ضعيف ذليل ؛ لأنهم لا يعرفون الدين ، ولا يؤمنون بالآخرة ، لذلك قالوا ما قالوا . والثاني : لست أنت بذي قوة وبطش في نفسك ، وقد ذكر أنه كان ضعيفاً في بصره ونفسه . ويحتمل وصفهم بالضعف لهذين الوجهين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ } أي : قبيلتك . وقيل : عشيرتك { لَرَجَمْنَاكَ } الرجم : يحتمل : القتل ، ويحتمل : اللعن والشتم . ثم يحتمل قوله : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } وجهين : أحدهما : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ } أي : لولا حرمة رهطك وإلا لرجمناك ؛ كأنهم كانوا يحترمونه لموافقة رهطه إياهم في العبادة أعني عبادة الأوثان ، وعلى ما هم عليه . والثاني : لولا رهطك لرجمناك خوفاً منهم لما ذكر أنه كان كثير العشيرة ، والقبيلة ؛ كانوا يخافون عشيرته فلم يؤذوه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي : ما أنت من أجلتنا وكبرائنا ، إنما أنت من أوساطنا أو { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي : ما أنت من أجلتنا ؛ لأن العزيز عندهم من كان عنده المال والدنيا ، لا يعرفون [ العز في غير ] ذلك ، ولم يكن عند شعيب الدنيا لذلك نسبوه إلى ما ذكر : أو أنت ذليل عندنا ، لست بعزيز ، فيكون صلة قوله : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ } هذا يخرج على وجهين : يحتمل يا قوم ، أرهطي أعظم حقّاً عليكم من الله وأكثر حرمة حتى تركتم ما أوعدتموني من النقمة لحقهم وحرمتهم ؟ ! والثاني : قوله : { يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم } أي : رهطي أشد خوفاً عليكم وأكثر نكاية من الله ؛ لأنا قلنا في قوله : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } أنه يخرج على وجهين : أحدهما : الاحترام لرهطه لموافقتهم إياهم في جميع ما هم عليه ، والمساعدة لهم . والثاني : على الخوف والنكاية لقوتهم ، وكثرتهم ، وفضل بطشهم تركوا ما وعدوا له خوفاً من رهطه ، فقال : خوفكم من رهطي أشد وأكثر عليكم من الخوف من الله ، وقد بلغكم من نكاية الله ونقمته فيما حل بالأمم الماضية . أو حرمة رهطي عندكم وحقهم أعظم من حق الله وحرمته ، وقد تعلمون إحسانه إليكم وإنعامه عليكم . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } قال بعضهم : [ قوله ] : { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي : حملتموه على ظهركم وحملهم إياه على ظهرهم إسخاطهم إياه ، قال : تقول : العرب : فلان حمل الناس على ظهره : أي : أسخطهم على نفسه . ولكن لا ندري أيقال هذا أم لا . فإن قيل هذا فهو يحتمل ما قال ، وهو قول أبي بكر الأصم . وقال غيره من أهل التأويل : قوله : { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي : نبذتم الله وراء ظهركم ، أي : نبذتم حق الله وأمره وكتابه الذي أنزله إليكم وراء ظهركم ، لا تعملون به ، ولا تكترثون إليه ، هو كالمنبوذ وراء ظهركم ؛ هذا على التمثيل أي : جعلوا أمر الله ودينه الذي دعوا إليه كالمنبوذ وراء ظهرهم ، لا يعملون به ولا ينظرون إليه ، ولا يكترثون وهو ما ذكر في قوله : { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } [ الأنفال : 48 ] وقوله : { ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } [ آل عمران : 144 ] على التمثيل ، أي : الذي أنتم عليه في القبح كالانقلاب على الأعقاب { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } هذا يخرج على وجهين - أيضاً - : أي : إن ربي بما تعملون من الأعمال الخبيثة محيط فيجزيكم بها ، أو يقول : إن ربي بما تعملون من الكيد برسول الله والمكر به محيط فينصره عليكم . وقوله - عز وجل - : { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ } هذا يخرج على وجهين : أحدهما : أن كونوا على دينكم الذي أنتم عليه ، وأنا أكون على ديني ؛ كقوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] لأن قوم شعيب قالوا لشعيب : { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ الأعراف : 88 ] فقال لهم [ هذا ] عند ذلك ، وهذا إنما يقال عند الإياس عن إيمانهم ، كقوله : { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } [ الشورى : 15 ] وأمثاله . والثاني : قوله : { ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ } أي اعملوا في كيدي ، والمكر في هلاكي ، إني عامل ذلك بكم ، وهو كما قال غيره من الرسل : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ هود : 55 ] وقوله : { فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ } [ الأعراف : 71 ] ونحوه . وقوله - عز وجل - : { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } في العاقبة وعيد من يأتيه عذاب يخزيه ، أو سوف تعلمون في العاقبة من يأتيه منا عذاب يخزيه نحن أو أنتم ومن هو كاذب ، وتعلمون - [ أيضاً - في العاقبة ] من الكاذب منا نحن أو أنتم ؛ لأن كل واحد من الفريقين يدعي على الفريق الآخر الكذب والافتراء على الله ، فيقول : سوف تعلمون في العاقبة [ من ] الكاذب منَّا والمفتري على الله ، والصادق عليه { وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي : ارتقبوا هلاكي ، وأنا أرتقب هلاككم ، أو ارتقبوا لمن العاقبة منا لنا أو لكم إني معكم رقيب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } هذا قد ذكرناه فيما تقدم . وقوله - عز وجل - : { وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } قيل : الصيحة صيحة جبريل ؛ أي : هلكوا بصيحته . وقال بعضهم : الصيحة : اسم كل عذاب ، وكذلك الرجفة ؛ سمي العذاب بأسماء مختلفة : مرة صاعقة ، ومرة صيحة ، ومرة رجفة . وقوله - عز وجل - : { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } هذا - أيضاً - قد ذكرناه فيما تقدم . قال بعض أهل التأويل : قوله : { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ } في الهلاك { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } : كما أهلكت ثمود ؛ لأن كل واحد منهما هلك بالصيحة فمن ثم اختص ذكر ثمود من بين الأمم . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : لم يعذب بعذاب واحد إلا قوم شعيب وصالح ؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وقوم شعيب من فوقهم . قال : فنشأت لهم سحابة فيها عذابهم ، فلم يعلموا كهيئة الظلة فيها ريح ، فلما رأوها أتوها يستظلون تحتها من حر الشمس ، فسال عليهم العذاب من فوقهم ، فذلك قوله : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ } [ الشعراء : 189 ] . وقوله : { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ } من رحمة الله { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } من رحمته . ويحتمل الهلاك الذي ذكرناه ، والله أعلم .