Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 30-35)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } . يشبه أن تكون استكتمت سرها عند نسوة في المدينة ، فأفشين سرها عند أهل المدينة ، ليبلغ ذلك الخبر الملك . أو أن لم تكن أعلمت تلك النسوة ، فلا بدّ من أن يعلم ذلك بعض خدمها ؛ فالخادم أعلمت سرها وأفشته عند نسوة في المدينة ، فقلن عند ذلك : { تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } أي : تدعو عبدها إلى نفسها . وقوله - عز وجل - : { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } . قال بعضهم : الشغاف : هو حجاب القلب وغلافه ، { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } أي : بلغ حبها إياه الشغاف ، ومنه يقال : مشغوف . والمشغوف : قيل : المجنون حبّاً ، وهو من العشق . قال الحسن : الشغف : أن يكون قد بطن لها حبه ، والشغف : أن يكون مشغوفاً به . قال أبو عوسجة : { شَغَفَهَا حُبّاً } أي : دخل الحبّ في شغاف القلب ، وهو غطاؤه . وقال : من قرِأها { شَغَفَهَا } أي : ذهب بعقلها ؛ أي : عشقها . لكن هذا قول أولئك النسوة ، فلا ندري ما أردن بذلك ، إنما ذلك خبر أخبر عن قول قلنه هن ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } . حيث خانت زوجها . أو { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ، أي : في حيرة من حبه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } . أي : بقولهن المكر : هو الأخذ في حال الأمن ، وهو الخيانة فيما اؤتمن واستكتم ؛ فهذه كأنها استكتمت سرّها وحبّها ليوسف عن الناس ، وأفشت ذلك لنسوة في المدينة ، على أن يستكتمن عن الناس ، فأفشين عليها ذلك ؛ فذلك المكر الذي سمعت ، والله أعلم . إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل . وأمكن أن تكون المرأة لم تفش سرها إليهن ، لكن بعض خدمها التي اطلعت على ذلك هي التي أفشت إليهن ، فأفشين هن ذلك ، فلما سمعت ذلك منهن أرسلت إليهن : إمّا تنويشاً ودعاء للضيافة ، وإما استزارة يزرنها ، وأما قول أهل التأويل : إن النسوة كانت امرأة الخباز والسّاقي ؛ ولا أدري من ماذا ، فذلك لا نعلمه ، وليس لنا إلى [ معرفة ] ذلك حاجة . وقال - عز وجل - : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } قال الحسن : متكأً : طعاماً وشراباً وتكأة . وقال بعضهم : الأترنج والترنج . وقال بعضهم : متكأً : وسائد وما يتكأ عليه . وقال أبو عوسجة : متكأً : ممدوداً ؛ يعني : هيئات المجلس وما يتكأ عليه . ومن قرأ : ( متكا ) مقصوراً ، وهو الأترنج وطعام ؛ على ما قال الحسن . وكذلك قال القتبي ؛ قال : ويقال : البزماورد . وقوله - عز وجل - : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } . أي : أعطت كل واحدة منهن سكيناً ؛ ظاهر . { وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } . هاهنا كلام أن كيف أطاع يوسف بالخروج على النساء بقولها إياه : { ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } فذلك مما لا يحل ، لكنه يخرج على وجوه : أحدها : أنه إنما يكره الدخول عليهن ، والخلوة بهن ، وأما الخروج عليهن فهو ليس بمكروه ؛ إذ فيه الخروج منهن ؛ لأنه إذا خرج عليهن كان يقدر أن يخرج منهن ؛ فكأنه لما أذنت له بالخروج عليهن خرج رغبة أن يخرج من عندهن ؛ إذ لم [ يكن ليقدر ] أن يخرج من البيت عليهن بغير إذن منها ؛ فالأمر بالخروج عليهن أفاد له إذناً بالخروج من البيت ؛ إذ لا سبيل له إلى الخروج منه بلا إذن له منها ، فخرج عليهن ثمت من عندهن إلى غيره من المكان ، وذلك مما لا يكره إذا كان مما لا سبيل إلى ما سواه . ويشبه أن يكون منها الأمر بالخروج حسب إذا خرج ولم تقل عليهن ، ولم يعلم يوسف أنها إنما تأمره بالخروج على النساء فخرج ، لكن الله - عز وجل - أخبر عن مقصودها ، وكان مقصودها من الأمر بالخروج [ خروجاً عليهن ] ، فأخبر عن مقصودها بقوله : { وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } [ ومثل هذا قد يكون في الكلام . وجائز أن يكون قوله : { ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } ] أي : عنهن ، وذلك جائز في اللغة : ( على ) مكان ( عن ) كقوله : { إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ } [ المطففين : 2 ] ، أي : عن الناس ، وأمثاله كثير . وفي هذه الآية دلالة أن مشتري يوسف كان يمنع يوسف عن أن يخرج إلى البلد والسوق ، ومن أن تخالطه الناس : إما إشفاقاً على نفسه ، أو لئلا يفتن به النساء ، أو لئلا يطلع على نفس يوسف ؛ لما وقع عنده أنه مسروق ، فكيفما كان ففيه : أن [ على المرء أن ] يحفظ ولده أو عبده إشفاقاً عليه . وقوله : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } . أي : أكبرنه وأعظمنه من حسنه أن يكون مثل هذا بشراً ؛ ألا ترى أنهن قلن : { حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } . وقوله : { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ؛ قيل : حزّاً بالسِّكِّين . قوله - عز وجل - : { وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } . { حَاشَ لِلَّهِ } : قال أهل التأويل : أي : معاذ الله . وقال بعضهم : { حَاشَ لِلَّهِ } : كلمة تنزيه من القبيح ، ودلّ هذا القول منهن أنهن كنّ يؤمِنَّ بالله ؛ حيث قلن : { حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } . قوله : { مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } . كان الملك وإن لم يرونه حَسناً عندهم ، ينسبون كل حسن إلى الملائكة ، والشيطان - لعنه الله - عندهم قبيح ؛ فنسبوا كل قبيح إليه . وقوله : { بَشَراً } . قرأه بعضهم : ( بشرًى ) بالتنوين ، أي : ما هذا بمشترى . وقوله - عز وجل - : { قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } . بقولهن : { ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } ، أي : إنكن لمتنني فيه أني أراوده عن نفسه ، وأنتن قطعتن أيديكن إذ رأيتنه ، وأنكرتن أن يكون هذا بشراً ؛ فذلك أعظم . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } . أي : دعوته إلى نفسي فاستعصم ؛ قيل : امتنع ؛ كقوله : { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [ هود : 43 ] أي : لا مانع ، ويشبه قوله : استعصم بالله أو بدينه أو نبوته أو بعقله ، هذا يدّل على أنه لم يكن منه ما قال أهل التأويل من حَلّ السراويل ونحوه ؛ حيث قالت : { فَٱسَتَعْصَمَ } . وقوله - عز وجل - : { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ } . قالت ذلك امرأة العزيز . { لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } . يشبه أن يكون قولها : ليسجنن وليكونن في السجن من الصاغرين ، أو ليسجنن وليكونن من المذَلّين الصَّاغرين : هو : الذليل لأنه قال لامرأته : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } ، فكان مكرماً عندها معظماً ؛ فلما أبي ما راودته فقالت : { لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } أي : من الذليلين . وقوله - عز وجل - : { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } . فيه دلالة أنه قد كان منهن من المراودة والدعاء ما كان من امرأة العزيز من المراودة والدعاء إلى نفسها ؛ حيث قال : { ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } ؛ ألا ترى أنه قال في موضع آخر : { مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } [ يوسف : 51 ] ، [ وكذلك قالت امرأة العزيز : { فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } أي : كنتن لمتنني فيه أني راودته عن نفسه ] ؛ وأنتن قد راودتنّه عن نفسه . وقول يوسف : { رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } . أي : ذلك الذل والصغار أحبّ إليّ ، أي : آثَر عندي وأخير في الدِّين مما يدعونني إليه ؛ وإن كان ما يدعونه إليه تهواه نفسه وتميل إليه وتحبه ؛ فأخبر أن السجن أحبّ إليه ، أي : آثر وأخير في الدين ؛ إذ النفس تكره السجن وتنفر عنه ؛ ألا ترى أنه قال : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ } ؟ ! فهذا يدل على أن ما قال : { ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } إنما أراد به : محبة الاختيار والإيثار في الدِّين ، لا محبّة النفس واختيارها ؛ بل كانت النفس تحب وتهوى ما يدعونه إليه ؛ دليله قوله : { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ } . وليس الدعاء في قوله : { رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } كما يقول بعض الناس : إنه إنما وقع في السجن ؛ لأنه سأل ربه السجن فاستجيب له في ذلك ؛ ولكن الدعاء في قوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } ، وهو كقول آدم وحواء : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا … } الآية [ الأعراف : 23 ] ليس الدعاء في قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } الآية [ الأعراف : 23 ] لأنه : إخبار عما كان منهم ، إنما الدعاء في قوله : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] وكذلك قول نوح : { رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ } [ هود : 47 ] . وفي قوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } دلالة على أن عند الله لطفاً لم يكن أعطى يوسف ذلك ؛ إذ لو كان أعطاه لكان كيدهن وشرهن مصروفاً عنه ؛ حيث قال : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } ولو كان أعطي ذلك لم يكن لسؤاله ذلك معنى ، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم ، حيث قالوا : إن الله قد أعطى كلا قدرة كل طاعة وقوة كل خير والدفع عن كل شر ، وقوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } أي : لا أحد يملك صرف كيدهن عنّي لو لم تصرفه أنت ، وكذلك قوله : { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ } [ هود : 47 ] وهو أبلغ في الدعاء من قوله : اللهم اغفر لي وارحمني . وقوله : { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } . قال بعضهم : أمل إليهن . وقال بعضهم : قال : لو لم تصرف عني كيدهن لأتابعهن . ويقال : الصبو : هو الخروج عن الأمر ؛ يقال : كل مَنْ خرج عن دينه فقد صبا . وبهذا كان المشركون يُسَمّون النبي صلى الله عليه وسلم : صابئاً ، أي : خرج مما نحن عليه . وقال أبو بكر الأصم : الأصب : هو الأمر المعجب . وقوله : { وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ } . أي : يكون فِعْلي فعْل الجهّال لا فِعل العلماء والحكماء ، إن لم تصرف عني كيدهن . وقوله - عز وجل - : { فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } . أي : أجاب له ربه ؛ فصرف عنه كيدهن . هذا يدل على أن الدعاء كان في قوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } ، ليس في قوله : { رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } ، إنما هو خبر أخبره ؛ حيث أخبر أنه أجاب له ربه فصرف عنه كيدهن . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } . السميع لكل قول وكلام ؛ خَفِيّاً كان على الخلق أو ظاهراً ، العليم به ؛ لا يخفى عليه شيء . وفي قوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } ، { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } . دلالة على أنهن كن يدعونه إلى ذلك من وجه كان يخفى عليه ولم يشعر به ؛ فالتجأ إلى الله في صرف ذلك عنه . وقوله : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ } . ذكر في بعض القصة أنها قالت لزوجها : ما زال يوسف يراودني عن نفسي فأبيت عليه فصدقها ؛ فحبسه في السجن . وقوله - عز وجل - : { مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ } . قال أهل التأويل : هو قَدّ القميص من دُبره وخمش الوجه وغيره ، ولكنه يشبه أن يكون الآيات التي رأوها هي آيات نبوته ورسالته . وقال بعضهم : حبسوه ، لينفوا عن المرأة ما رميت به ، ولينقطع ذلك عن الناس ، ويموت ذلك الخبر ويذهب ، فيه أنهم حبسوه بعد ما رأوا آيات عصمته وبراءته عما اتهموه ، وأنهم ظلمة في حبسه . والله أعلم .