Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 36-42)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ } . قيل : عبدين للملك ؛ غضب عليهما الملك . { قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً } . وقال بعضهم : أرض يُدعى العنب بها خمرا ، أو سمي خمراً باسم سببه وباسم أصله ، [ وجائز في اللغة تسمية الشيء باسم سببه وباسم أصله ] . { وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً } كان أحدهما خبازاً للملك ، والآخر ساقيه . { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } قال بعضهم : إحسانه في السجن ؛ لما كانوا رأوه يداوي المرضي ، ويعزّي حزينهم ، ويجتهد في نفسه في العبادة لربّه . هذا يحتمل لعله كان يبرّ أهل السجن ويصلهم ، ويجتهد في العبادة لله في الصلاة له والصوم ، وأنواع العبادة التي تكون فيما بينه وبين ربه ، فسمياه محسناً لذلك . ويشبه أن يكون قالوا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } لما رأوا به سيما الخير وآثاره ، أو يدعوهم إلى توحيد الله والعبادة له ، وخلعهم عن عبادة الأصنام والأوثان والانتزاع من ذلك ، فسمياه محسناً لذلك . ويحتمل قوله : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } لما رأوه أحسن إلى أهل السجن ، ويحتمل الإحسان - هاهنا - : العلم ؛ أي : نراك من العالمين ؛ وهو قول الفراء . وقوله - عز وجل - : { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } . سمى التعبير : تأويلا ؛ لأن التأويل : هو الإخبار عن العواقب ؛ لذلك سموه تأويلا ، ثم خرج تأويل الذي كان يعصر الخمر على العود إلى ما كان في أمره ؛ من السقي للملك ؛ وهو كان ساقيه ؛ على ما ذكر ، فلما رأى أنه دام على أمره ، أول له بالعود إلى أمره الذي كان فيه . والآخر كان خبّازاً ؛ على ما ذكر ، وهو إنما كان يخبز للناس ، فلما رأى أنه حمل الخبز على رأسه ، وأنه يأكل الطير - علم أنه يخرج من الأمر الذي كان فيه ، وخروجه يكون بهلاكه ؛ لأنه كان من قبل يخبز للناس ، فصار يخبز لغيرهم ؛ فاستدل بذلك على خروجه من أمره وعمله ، لكنه أخبر أنه يصلب ؛ لأنه كان قائماً منتصباً ، فأول على ما كان أمره . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } هذا - والله أعلم - كان يقول لهم ذلك ؛ ليعرفهم أن عنده علم ذلك ؛ علم ما لا يُحتاج إليه ؛ فعلم ما يحتاج إليه أحرى أن يعلم ذلك ، وهذا - والله أعلم - منه احتيال ؛ لينزعهم عما هم فيه من عبادة الأوثان ، وعبادتهم غير الله ، وليرغبهم في توحيد الله ، وصرف العبادة إليه ؛ ولهذا قال : { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } هذا باللطف ما أضاف إليه أنه علمه ، وإلا التعليم لا يكون إلا باختلاف الملائكة إليه ، وذلك لطف من الله تعالى للرسل عليهم السلام . وقوله : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } . تأويله - والله أعلم - أي : لا يأتيكما طعام رأيتما آثار ذلك في المنام إلا نبأتكما بتأويل ذلك قبل أن يأتي ذلك . وقوله - عز وجل - : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } . أخبر أنه ترك : { مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ … } الآية . وقوله : { تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } ليس أنه كان فيه ثم تركه ، ولكن تركه ابتداء ؛ ما لو لم يكن تركه كان آخذاً بغيره ؛ وهو كقوله : { رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ } [ الرعد : 2 ] ليس أنها كانت موضوعة فرفعها ، ولكن رفعها أول ما خلقها . وكذلك قوله : { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا } [ الرحمن : 10 ] ليس أنها مرفوعة ثم وضعها ؛ أي أنشأها مرفوعة وموضوعة . وكقوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] ليس أنهم كانوا فيها فأخرجهم ، ولكن عصمهم حتى لم يدخلوا فيها . فعلى ذلك الأول . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } . قال في الآية الأولى : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } ، وأخبر أنهم كافرون بالله واليوم الآخر ، وفيه أن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر ، فهو كافر ، فهذا ينقض على المعتزلة ؛ حيث جعلوا بين الكفر والإيمان رتبة ثالثة ، ويوسف يخبر أن من لم يؤمن بالله فهو كافر ؛ وهم يقولون : صاحب الكبيرة غير مؤمن بالله ، وهو ليس بكافر . ثم أخبر أنه ترك ملة أولئك الذين لا يؤمنون بالله ، واتبع ملة آبائه إبراهيم ومن ذكر ، ثم أخبر عن ملة آبائه وهو ما ذكر . { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } . عرفهم ملة آبائه ودينهم ؛ وهو على ترك الإشراك بالله ، وجعل الألوهية له ، وصرف العبادة إليه . وفيه : أن الملة ليست إلا ملتين : ملّة كفر ، وملة إسلام . وأخبر أن من لم يكن في ملة الإسلام كان في ملة الكفر . ثم خص بذكر هؤلاء : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ لأن هؤلاء كانوا مكرمين عند الناس كافة ، كل أهل الدين يدّعون أنهم على دين أولئك ؛ فأخبر أنهم على دين الإسلام . والحنيف : المخلص ، ليس على ما تزعمون أنتم ؛ ولهذا قال : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ آل عمران : 67 ] . وفي قوله : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } دلالة أن الكفر كله ملة واحدة ؛ حيث أخبر أنه ترك ملة قوم لا يؤمنون على اختلاف مذاهبهم . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ } . أي : ذلك الدين والملة التي أنا عليها وآبائي من فضل الله علينا وعلى الناس ؛ لأنه - عز وجل - فطر الناس على فطرة ؛ يعرفون وحدانية الله وربوبيته بعقول ركبت فيهم ؛ ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضل الله وما ركب فيهم من العقول ، أو ذلك الدين والهداية الذي أعطاهم من فضل الله ؛ لكن أكثر الناس يتركون ذلك الدين وتلك الهداية ، والله أعلم . وقول الله - عز وجل - : { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } . يوسف - لما سئل عن تأويل الرؤيا - دعاهم إلى توحيد الله ودلهم عليه ؛ فقال : { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } ، وقال : { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } ، أي : عبادة رب واحد وإرضاؤه خير أم عبادة عدد وإرضاء نفر ؟ لأنه إذا عبد بعضاً واجتهد في إرضائهم أسخط الباقين ؛ فلا سبيل إلى الوصول إلى مقصوده والظفر بحاجته ؛ إذ لا يقدر على إرضائهم جميعاً ، وإن اجتهد ، وأما الواحد : فإنه يقدر على إرضائه ؛ إذ لا يزال يكون في عبادته وإرضائه ؛ فيصل إلى حاجته والظفر بمقصوده . والثاني : يخبر أن الواحد القهار يقهر غيره من الأرباب ومن تعبدون ؛ فعبادة الواحد القهار خير من عبادة عدد مقهورين . وقوله - عز وجل - : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ } . من الأصنام والأوثان . { إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ } . آلهة . { أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ } . ولا يستحقون العبادة ولا التسمية بالألوهية ؛ إنما المستحق لذلك : الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض . { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } . أي : ما أنزل الله على ما عبدتموهم وسميتم أنتم وآباؤكم آلهة من حجة ولا برهان . { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } . أي : ما الحكم - في الألوهية والربوبية والعبادة - إلا لله [ ليس كما تقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] . وقولهم : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] يقول : ما الحكم في العبادة والألوهية إلا لله ] . أو يقول : ما الحكم في الخلق إلا لله ؛ كقوله : { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [ الأعراف : 54 ] أي : له الخلق وله الأمر في الخلق . و { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } . حكمه هذا : أمر ألا تعبدوا إلا إياه . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } . أي : عبادة الله وتوحيده هو الدين القيم ؛ لأنه دين قام على الحجة والبرهان ، وأمّا سائر الأديان فليست بقيمة ؛ إذ لا حجة قامت عليها ولا برهان . والقيم : هو القائم الذي قام بحجة وبرهان ، وقال أهل التأويل : القيم : المستقيم . وقوله - عز وجل - : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } . يحتمل : لا يعلمون ؛ لما لم يتفكروا فيه ولم ينظروا ؛ فلم يعلموا ، ولو نظروا فيه وتفكروا لعلموا ، وهذا يدلّ أن العقوبة تلزم - وإن جهل - إن أمكن له العلم به ؛ فلا عذر له في الجهل إذا أمكن العلم به . أو علموا لكنهم لم ينتفعوا بعلمهم ؛ فنفى عنهم العلم لذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } . هو ما ذكرنا أنه تأول رؤيا الساقي ، وعبرها على العود إلى ما كان يعمل من قبل ؛ لما رأى أنه كان عمل على ما كان يعمل من قبل . وعبر رؤيا الخبّاز بالهلاك ؛ لما رأى أنه حمل الخبز على الرأس ، والخبز إذا خبزه الخباز لا يحمله على رأسه ؛ فرأى أنه قد انتهى أمره ؛ إذ عمل على خلاف ما كان يعمل من قبل ؛ فتأكل الطير من رأسه ، فعبّر أنه يصلب وتأكل من رأسه لما رأى أنه حمل الخبز على رأسه ؛ لما كان يخبز من قبل للعباد ، فلما رأى أنه يخبز لغيره عبر أنه يهلك فتأكل الطير من رأسه . وقوله - عز وجل - : { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } . قال بعض أهل التأويل : إنه لما عبر لهما رؤياهما ، قال الذي عبر له الصلب والقتل : لم أر شيئاً ؛ إنما كنا نلعب ، فقال لهما يوسف : { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي : فرغ وانتهى ، لكن هذا لا يعلم : أقالا ذلك أم لم يقولا ، سوى أن فيه أنه عَبّر رؤياهما ، وكان ما عبّر لهما ، وقد علم ذلك بتعليم من الله إياه ؛ بقوله : { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } . وقوله - عز وجل - : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا } . قال بعضهم : ظن الذي صدق [ يوسف : أنه يسقي ربه ، وأنه ناج . وقال بعضهم : قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما ، بجعل الظن ليوسف ، فإن كان الذي ظن ] هو ذلك الرجل ؛ فكان الظن في موضع الظن ؛ وإن كان الظانّ هو يوسف - فهو علم ويقين ؛ أي : علم وأيقن أنه ناج منهما ؛ لأنه لا يحتمل أن يشك فيما يعبر وقد علمه الله تأويل الأحاديث بقوله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } [ يوسف : 6 ] ، وقال : { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } [ يوسف : 37 ] . ويحتمل على حقيقة الظن من يوسف ؛ أي : وقال للذي ناج منهما ظن أنه يذكره عند ربه ، وهو على التقديم والتأخير . وقوله - عز وجل : { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } . قال بعض أهل التأويل : إن يوسف لما فزع إلى غير الله [ وطلب إخراجه من السجن من الملك أنساه الله فيه سنين وأقره فيه عقوبة له حين رجا غير ربه لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يكون يوسف يفزع إلى غير الله ] ؛ ويدفع قلبه عن الله ويشغله بمن دونه ، لكنه رأى - والله أعلم - أن الله - عز وجل - جعل سبب نجاته على يديه ، وأنه بقي فيه منسيّاً ؛ لما علم أنه لم يكن منه سبب يلزمهم الحبس في السجن ، سوى الاعتذار إلى الناس ، والاعتلال لهم على نفي ما اقترفت به زوجته ، أو لينقطع ذلك الخبر [ عن ألسن ] الناس ، ويبعد عن أوهامهم ، فرأى أنه إذا ذكّره ؛ لعله أخرجه من ذلك لما رأى أنه جعل سبب نجاته على يديه ؛ لا أنه رأى ذلك منه ورفع قلبه عن الله . وهكذا جعل الله تعالى أمور الدنيا كلها بأسباب . وعلى ذلك تعبّد عباده ؛ باستعمال الأسباب مع اعتقاد القلب القدر من الله ؛ نحو : ما جعل الأنزال والزراعة بأسباب يكتسبونها ، ونحو الأسلحة التي اتخذت للحرب والقتال بها مما يكثر عدد ذلك ، وإنما يحاربون بالله ، وبه يقاتلون ، ومن عنده يُنصرون . وقد أمر بذلك كله وبتلك الأسباب ؛ فقال : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 ] وليس كل من فعل هذا كان فزع إلى غير الله ، أو رأى النصر والنجاة من ذلك الشيء والسبب ؛ بل رأى ذلك كله من الله ومن عنده ؛ فعلى ذلك يوسف لا يجوز أن يتوهم أنه فزع إلى مخلوق مثله ، ورأى نجاته من عند ذلك ، ولكن للوجه الذي ذكرناه . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } . يحتمل وجهين : أحدهما : اذكرني عند ربك ؛ لعلي حبست بلا علم منه وبغير أمره ؛ لأن تلك المرأة هي التي أوعدت له السجن ؛ فوقع عنده أنها هي التي احتالت في حبسه ؛ فقال لذلك ما قال . والثاني : يقول : اذكرني بالذي رأيت مني وسمعت ؛ لأنه دعاهما في السجن إلى التوحيد ؛ حيث قال : { ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } . وقوله - عز وجل - : { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } . قال بعض أهل التأويل : أنسى الشيطان يوسف دعاء ربه الذي أنشأه وخلقه ؛ فلم يدع ربه الذي هو في الحقيقة ربّ . وقال بعضهم : قوله : { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ } الذي قال له يوسف : اذكرني عند ربك ذكر ربه ، وهذا أشبه ، والأوّل بعيد ؛ لأنه قال في آخره : { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، أي : بعد حين { أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ يوسف : 45 ] دل هذا أنه إنما أنسى الشيطان على ذلك الرجل فلم يذكره عنده حيناً . وقال بعضهم : لم ينسه الشيطان ، ولكن تركه عمداً ؛ لم يذكره عنده ؛ لعله يتذكر ما تقدم من المقال فيزداد غضباً عليه ، فتركه عمداً إلى أن جاء وقته - والله أعلم - وأضاف الإنساء إلى الشيطان ، وكذلك قال موسى : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ } [ الكهف : 63 ] ، فهو - والله أعلم - لأن بدء كل شرّ يكون من الشيطان ؛ لأنه يخطر بباله ويقذف في قلبه ويوسوسه ، ثم يكون من العبد العزيمة على ذلك والفعل ، وفائدة النسيان - والله أعلم - هو أن الله تعالى أراد أن يظهر آية رسالته وحجة نبوته ؛ بكونه في السجن ويظهر براءته في شأن تلك المرأة بشهادة أولئك النسوان ، وذلك علم الأحاديث التي ذكر والرؤيا التي عبرها . وقوله - عز وجل - : { فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } . قال بعضهم : خمس سنين . وقال بعضهم : سبع سنين ؛ ونحو ذلك . ولكن لا نعلم ذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى [ أنه ] لبث فيه حيناً . وقال أبو بكر الأصم : قوله : { ٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ } [ سماهم : أصحاب السجن ؛ لأنه كانوا في السجن ، كما يقال : أصحاب النار ، وأصحاب الجنة ، ونحوه ، لكنه لو كان ما ذكر لقال : يا صاحبا السجن ] بالألف ؛ فلما لم يقل هذا دل أنه أضافه إلى نفسه ؛ كأنه قال : يا صاحبي في السجن ؛ لأنهما كانا معه في السجن . وقوله : { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } . قيل : فرغ . وقيل : انتهى الأمر الذي فيه تستفتيان وأنهي ؛ كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ … } الآية [ الإسراء : 4 ] . وقوله : { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } كأنه بلغ إليهما وحياً أوحي إليه وأمر به ؛ أي : هو كائن من غير رجوع كان منهما ؛ على ما يقوله أهل التأويل ، والله أعلم .