Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 26-44)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } وقال في آية آخرى : { خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ } [ الأنعام : 2 ] ، وقال : { مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] ، وقال في آية أخرى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] ، وقال : { خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الحج : 5 ] ، ذكر مرة الحمأ المسنون ؛ وقيل : هو الطين الأسود المتغير ، وذكر مرة التراب ، ومرة الطين اللازب : وهو الملتزق ، ومرة من سلالة الطين ، فيشبه أن يكون على الأحوال ، واختلاف الأوقات : كان في حال الأول تراباً ، وفي حال طيناً لازباً ، وفي حال حمأ مسنوناً ؛ وهو الذي اسودّ وتغير ؛ لطول مكثه ، وصلصالا وفخاراً . فقبل أن يكون خلقاً مركباً الجوارح فيه والعظام - كان على هذه الأحوال الثلاثة على ما أخبر من تغير أحوال أولاده ؛ حيث قال : { خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } [ الحج : 5 ] ذكر فيه أحولا ثلاثة قبل أن يخلق لحماً وعظماً ، في حال كان نطفة ، ثم صار علقة ، ثم صار مضغة . فعلى ذلك يحتمل ما ذكر في آدم : من تراب ، وطين ، وحمأ ونحوه ، إن كان على اختلاف الأحوال على ما ذكرنا . أو أن يكون على التشبيه والتمثيل ، ووجه التمثيل بالطين : الذي ذكر ؛ وهو أن الطين الذي يكون كالصلصال ، والفخار ، واللازب ؛ ونحوه - هو الطين الطيب ؛ الذي يكون منه البنيان ، والأواني ، والقدور ، وجميع أنواع المنافع . وأما الطين الذي يخبث - فإنه لا يتخذ منه شيء مما ذكرنا ؛ ولا يتهيأ اتخاذ شيء من ذلك ، فشبه خلق آدم بالطين الذي يجتمع فيه جميع أنواع المنافع ، فعلى ذلك جمع في آدم جميع أنواع المنافع والخير ، كالطين الطيب . ثم فيه دلالة قدرته ، وسلطانه ، وذكر نعمه ؛ حيث أخبر أنه خلق آدم من تراب وطين ؛ وما ذكر ، وليس في التراب ، ولا في الطين - من أثر البشرية - شيء ، وكذلك ليس في النطفة التي خلق البشر منها [ من ] أثر البشرية شيء ؛ ليعلم أنه قادر على إنشاء الأشياء من شيء ، ومن لا شيء ؛ إذ ليس فيما ذكر من الطين والتراب ؛ الذي خلق منه أبا البشر من أثر البشرية فيه [ شيء ] ، ولا في النطفة التي خلق منها أولاده ؛ من أثر البشرية والإنسانية من اللحم ، والعظم ، والشعر ، وغيره ، وما ركب فيهم : من العقل ، والعلم ، والتدبير ، والجوارح ، وغير ذلك - شيء ؛ ليعلم قدرته وسلطانه على خلق الأشياء : لا من شيء ؛ وليعرفوا نعمه التي أنعمها عليهم ؛ حيث أخبر أنه خلق آدم من طين لازب ، وصلصال ، وما ذكر ، وذلك وصف الطين الطيب ؛ لأن ما خبث من الطين لا يبلغ المبلغ الذي وصفه ، ولا يصير إلى تلك الحال ، وإن طال مكثه ؛ لأنه لا ينتفع به [ لا ] من اتخاذ البنيان ، والأواني ، والقدور ، ولا ينبت الزروع أيضاً ، فيحتمل على التمثيل الذي ذكرنا لا على التحقيق ، أو على التحقيق على الأحوال المختلفة . فدل أنه إنما خلقه من طين [ لازب ] ؛ طاب أصله . فعلى ذلك يحتمل النطفة التي يخلق منها البشر تكون طاهرة ، وهي لا تصيب شيئاً ، وهي على غير الوصف الذي يخرج ؛ لأنه قال : { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] وقال : { مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ] . والصلصال : قال بعضهم : هو التراب اليابس . والحمأ : الطين الأسود . والمسنون : [ المنتن المتغير ] . وقال بعضهم : الصلصال : هو الذي إذا ضربته تصوت ؛ ومنه يقال : صلصلة اللجام والفرس ؛ إذا كان يصلصل ؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنه . وقال القتبي : الصلصال : الطين اليابس الذي لا يصيبه النار ؛ فإذا نَقَرْتَهُ صوّت ، فإذا مسته النار - فهو فخار : والمسنون : المتغير الرائحة ، والمسنون - أيضاً - : المصبوب ، وسننت الشيء : إذا صببته صبّاً سهلا ، وسنّ الماء على وجهك ، وهو قول القتبي . وقال أبو عوسجة : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } : الحمأ : التراب الأسود يكون في أسفل البئر ، ومن هذا سمّي الحمي ؛ لأنه يحمي أن يرعى ، ويقال : حميت الحرب ، والشمس ، والتنور ، يحمى : إذا اشتد حره . ومسنون : أي : مخلوق . وقال الحسن : المسنون : الذي سن عليه خلقة الخلق ؛ يعني أولاده على خلقته ؛ أي : على خلقته خلق الخلق ، وأمثال هذا . والله أعلم بذلك . وقوله تعالى : { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } . قال بعضهم : الجانّ : هو إبليس . وقال بعضهم : الجانّ : هو أبو الجن ، وإبليس : هو أبو الشياطين ؛ سمّوا شياطين لتمردهم في فعلهم ، ذلك مقتدر من فعلهم ، ألا ترى أنه ذكر من الإنس والجن شياطين ؛ وهو قوله : { شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [ الأنعام : 112 ] ؛ وذلك لتمردهم ، والجانّ مقتدر عن الجن . والله أعلم بذلك . والسموم : قال بعضهم : السموم : لهب النار ؛ وليس له دخان ؛ وهو المارج من نار ، والمارج هو المنقطع منها . وقال بعضهم : من جنس النار ؛ كأنه أراد لهبها ، وقال : { نَّارِ ٱلسَّمُومِ } : الحارّة التي تقتل ، فإذا كان السموم ، والمارج - ما ذكر بعضهم أنه لهب النار - فمن طبعه الارتفاع والعلوّ ، فعلى ذلك ما خلق منه طبعه الارتفاع والعلو ؛ وهو الجانّ الذي ذكر ، والطين طبعه التسفل والانحدار إلى الأرض ؛ فعلى ذلك ما خلق منه طبعه الهوى إلى الأرض ، والميل إليها . والجانّ : قال أبو عوسجة : الجنّ : واحدُ الجانّ ، والجمع : جانّ ؛ سمي ذلك لاستجنانه . وقال غيره : الجن : الجماعة ، والجانّ الواحد . وقوله - عز وجل - : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي أتممته { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } وقال في آية أخرى : { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] . لم يشتبه هذا على الناس ، ولم يفهموا [ من قوله ] : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } ، { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] ما فهموا من نفخ الخلق ، فما بالهم فهموا من قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الفرقان : 59 ] و { ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [ فصلت : 11 ] ونحوه - استواء الخلق ؟ بل فهم نفخه من فهم نفخ الخلق أكثر من استوائه ؛ لأنه أمكن صرف الاستواء إلى وجوه ؛ ولا يمكن صرف النفخ فيه ، لكنه اشتبه عليهم ؛ لأنهم اقتدروا فعل الله بفعل الخلق ، ولا يجب أن يقتدروا بالخلق على ما لم يقتدروا في قوله : [ حدود الله ، وحكم الله ] ، وعباد الله ، وخلق الله ، وأمثاله . وقد أخبر أنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] أو تلقين من الشيطان . وقوله : { رُّوحِي } { رُّوحِنَا } أي : الروح الذي به حياة الخلق ؛ أي : خلق الذي يكون به حياة الخلق على ما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } . يحتمل أن يكون قوله : { خَالِقٌ بَشَراً } ما ذكر خبر أنه سيفعل ، وأمر لهم بالسجود ؛ فيكون الأمر بالسجود بعد ما خلقه إياه ، فهذا يدلّ أنه قد يجوز تقدم الأمر عن وقت الفعل . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } . ظاهر الأمر بالسجود ؛ والاستثناء - الذي ذكر - يدل أن إبليس من الملائكة ؛ لأن فيهم كان الأمر بالسجود ، ومنهم وقع الثنيا ، وقد ذكرنا اختلافهم وأقاويلهم فيما تقدم ؛ مقدار ما حفظناه . قال : والأصل بأن كل ما خرج مخرج الاستثناء - فيجب أن يسقط اسم ما أجمل ؛ نحو قول الرجل الآخر : لك علي عشرة إلا درهماً ، يسقط [ الاستثناء ما ] أجمل من الاسم حتى [ صار ] تسعة ، وكذلك إذا قال : ألف إلا خمسين ، وإذا لم يسقط ذلك الاسم - فلا بد أن يكون الكل فيه مضمراً ؛ نحو قول الرجل : رأيت علماء بلدة كذا إلا فلاناً - يجب أن يضمر فيه حرف الكل ، حتى يقع على كل ؛ نحو أن يقول : رأيت كل علماء بلدة كذا إلا فلاناً ، فعلى ذلك تخصيص العموم . وقال الحسن : في قوله : { مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } قال : الصلصال : هو الطين الحرّ الذي يتصلصل من صلابته ويبوسته ، والحمأ الطين ، والمسنون : قال : مسنون خلقته ؛ فهو سنة للخلق بعده من ذريته ؛ أن يخلقوا على خلقته ؛ وكقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] يقول : استلها من بين ظَهراني الطين ؛ لا من كل طين خلقه ، وكذلك قال في تناسل ذريته ؛ وهو قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] ليس من كل ماءٍ خلقه ؛ ولكن استلها من بين ظهراني الماء . وقال : الجانّ : إبليس ؛ هو أبو الجن { خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } : أي : من قبل آدم { مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } : يقول : السموم : هو اسم من أسماء جهنم ، ولها أسماء كثيرة ، أخبر أنه خلقه من نار السموم ؛ أي : جهنم . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } { قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } وقال في موضع آخر : { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ } [ البقرة : 34 ] وقال له : { قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } ، وقال في موضع آخر : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] ، وقال في موضع آخر [ { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] ، وقال في موضع آخر ] : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] . ذكر مثل هذا على اختلاف الألفاظ ، ومعلوم أن هذه المخاطبات معه - لم يكن معه مراراً ؛ ولكن بمرة واحدة . وقال أبو بكر الأصم : ذكر الله تعالى قصة إبليس ، وقصة الأنبياء جميعاً في مواضع على اختلاف الألفاظ ؛ لأنها كذلك كانت في كتبهم ، فذكرها على ما في كتبهم ؛ ليعلموا أن نبي الله إنما عرف ذلك بالله ؛ ليدلهم على صدقه ، وفيه دلالة أن اختلاف الألفاظ وتغييرها - لا يوجب اختلاف الحكم بعد ألاَّ يغير المعنى ، فهذا يدل أن الخبر إذا أُدِّي معناه على اختلاف لفظه - فإنه يجوز ، وكذلك إذا قرأ بغير لسان الذي أنزل - فإنه يجوز إذا أتى بمعناه . الله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } . قوله : { فَٱخْرُجْ مِنْهَا } : قال بعضهم : اخرج من السماء إلى الأرض . وقال بعضهم : اخرج من الأرض إلى جزائر البحر . وقال بعضهم : اخرج من الجنة ، وأمثاله أو اخرج من صورة الملائكة إلى صورة الأبالسة ، وجائز أن يقال : اخرج من كذا : أي : تحول من مكان كذا إلى مكان كذا على حقيقة الخروج ، ولسنا ندري كيف كان كذلك . وقوله - عز وجل - : { رَجِيمٌ } قيل : الرجيم : الملعون . وقيل : الرجيم : ما يرجم بالكواكب . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } . اللعنة : هي الطرد - في اللغة - والخذلان ، طرد عن رحمته إلى يوم الدين ، حتى لا يهتدي إلى دين الله وهداه ، ثم يوم الدين له العذاب الدائم واللعنة القائمة . وقوله - عز وجل - : { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } . لعن اللعين ، وطرد عن رحمته إلى يوم الدين ؛ أي : لا تدركه الهداية ؛ لأن الهداية في الدنيا إنما تدركه برحمته ، والرحمة في الآخرة هي العفو عما لزمه ؛ ووجب عليه . مسألة تكلموا فيها : ما الحكمة في خلق الله تعالى إبليس ؛ مع علمه ما يكون منه : من إفساد خلقه ، والدعاء إلى المعاصي ، وإنظاره إلى يوم الوقت المعلوم ؛ وقد علم أنه إنما ينظره ؛ ليفسد عباده ، [ فمع ما ] علم أنه يكون منه فما الحكمة في خلقه ؟ قال بعضهم : خلق إبليس وأهل المعاصي ؛ مع علمه ذلك ؛ ليعلم أنه لم يخلق لمنافع نفسه ، ولا لحاجة نفسه ، وأن معاصيه لا تضره ، ولا تدخل نقصاناً في ملكه ، فخلقه - مع علمه بما يكون منه - ليعلم أنه لم يخلق الخلق لمنافع نفسه ولا لحاجته ، ولكن لمنافع أنفسهم ولحاجاتهم . وقال بعضهم : خلق الأعداء والأولياء ؛ نظراً للأولياء ؛ ليعلم أولياؤه الاختصاص الذي اختصهم به ، ولو كانوا جميعاً أولياءه - لم يعرفوا فضيلة الله ؛ واختصاصه إياهم ، وهكذا النعم وإحسان الله ، لا يعرف بنفس النعم ونفس الإحسان ؛ وإنما يعرف بالبلايا والشدائد التي تحل ، فعلى ذلك الأولياء : لو لم يكن الأعداء لم يعرفوا اختصاص الله لهم ، وفضائله التي أكرمهم بها . وقال بعضهم : خلق الأعداء نظراً للأولياء على ما ذكرنا ، لكن من وجه آخر [ ] ، وأصله أن الله - عز وجل - جائز أن ينشئ أشياء فيها حكمة وسرية ؛ لا يبلغها علم الخلق ، ولا يدركها حكمة البشر ، على ما جعل النعم الظاهرة فيها - حكمة معنى لا يبلغه علم الخلق ؛ ولا حكمة البشر ، وكذلك البلايا والشدائد فيها حكمة لا يبلغها علم الخلق ، فعلى ذلك جائز أن خلق إبليس ، وعُصاة الخلق ؛ لحكمة جعل في ذلك ؛ حكمة لا يبلغها علم الخلق ، ولا يدركها حكمة البشر ، على ما ذكرنا : من النعمة الظاهرة ؛ والشدائد الظاهرة ، وأصله أن الله تعالى خلق الخلق على علم منه أنهم يعصون ؛ ويعاندون ، لكن مكن لهم من الاختيار والإيثار - ما به نجاتهم وهلاكهم ؛ إذا اختاروا ذلك ، فإذا اختاروا ما به نجاتهم - نجوا ، وإذا اختاروا ما به هلاكهم - هلكوا ، فيكون هلاكهم باختيارهم ، ونجاتهم باختيارهم . وأصله : ما ذكرنا في غير موضع ؛ أنه أنشأهم في هذه الدنيا ؛ ليمتحنهم فيها ، وفي خلق ما ذكر : من إبليس ؛ وغيره من الأعداء ؛ ليتم لهم المحنة ، وفي ترك خلق ذلك ذهاب المحنة ؛ وهي دار الامتحان . وقوله - عز وجل - : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } . قال بعض أهل التأويل : إلى النفخة الأولى وقيل : إلى النفخة الثانية ، ونحوه . لكنا لا نعلم ذلك ، وكأنه تعالى أنظره إلى الوقت المعلوم ؛ ولم يبين له ذلك الوقت ، ولم يطلعه عليه ؛ حيث قال : { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ … } الآية [ الأنفال : 48 ] أخبر أنه يرى ما لا يرون هم ، وأنه يخاف الله ، ولو كان بيّن له الوقت المعلوم - لكان لا يخاف هلاكه قبل ذلك الوقت ، فهذا يدل [ على ] ما ذكرنا . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } . قال الحسن : قوله : { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } : أي : لعنتني . وهذا منه احتيال وفرار عن مذهب الاعتزال ، وما يلزمهم في قوله : { أَغْوَيْتَنِي } يلزم في قوله : لعنتني ؛ لأن اللعن : هو الطرد ؛ فإذا طرده عن رحمته - فقد خذله ، فالطرد والإغواء والإضلال سواء ؛ فيلزم في اللعن ما يلزمهم في الإغواء . وقال أبو بكر الأصم : الإغواء واللعن من الله : شتم ، لكن هذا بعيد ، لا يجوز أن يضاف إلى الله الشتم أنه يشتم ؛ لأنّ الشاتم والسابّ لآخر - في الشاهد بما يشتمه - مذموم عند الخلق ؛ فلا يجوز أن يضاف إلى الله ما به يذم . وأصله : أن قوله : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } يحتمل أنه خلق فعل الغواية منه أو أغواه ؛ لما علم أنه يختار الغواية والضلال . وقوله : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } : كأنه يقول : ربّ بما أغويتني لأزيدن لهم في الغواية بما أغويهم ، وقد ذكرنا هذا وأمثاله فيما تقدم . فإن قيل : قوله : { أَغْوَيْتَنِي } قول إبليس ؛ وهو كاذب بالإضافة إليه . قيل : لو كان فيما أضاف إليه الإغواء كاذباً لكذبه فيه ، ورد عليه [ قوله ] ، كما كذبه في قوله ورد عليه : أنا خير منه خلقتني من كذا وخلقته من كذا ؛ حيث قال : { فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [ الأعراف : 13 ] فلما لم يردّ عليه ؛ ولم يكذبه فيما أضاف إليه حرف الإغواء دل أن [ إضافة الإغواء إليه ] والإضلال حقيقة أو أن يكون قوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] إنما ذلك منه ذكر فضله وإحسانه ؛ حيث أخبر أنه خلقه مما هو أفضل وأعظم مما خلق آدم ؛ فيخرج ذلك منه مخرج الشكر . وأما قوله : { أَغْوَيْتَنِي } ليس على ذلك ، فلا يحتمل ألا يكذبه ، ولا يرد عليه قوله إذا كان كاذباً فيه ؛ لأنه فعل شر أضافه إليه ، إذا لم يكن منه الإغواء ؛ لذلك اختلفا ، أو لو كان قول إبليس - لعنه الله - كذباً فما تصنعون بقول نوح - عليه السلام - حيث قال : { إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] وقول موسى : { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] . ثم قوله : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } يحتمل أن يكون منه عزم على ما ذكر ، دون أن تفوّه بذلك ، فأخبر - عز وجل - عنه ما كان عزم ؛ من الإغواء وغيره بالقول ، وذلك جائز ؛ يخبر عن العزم والقصد بالقول ؛ كقوله : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [ الإنسان : 9 ] لا يحتمل أن يكون هذا القول الذي أخبر عنهم قولا منهم ؛ لأنه لا أحد من المتصدقين يقول بمثل ذلك عند التصدق ؛ لكنه إخبار عما [ قصدوا وعزموا ] بالتصدق ؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون هذا من الله إخباراً عما عزم إبليس وقصد ؛ على غير التفوه به والقول ، وهو ما ذكر { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ المائدة : 99 ] أخبر أنهم كتموا فيه وأضمروا . ويحتمل أن يكون على التفوه بما ذكر ، قال ذلك ؛ لما قال له - عز وجل - : { وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } لما شهد الله عليه باللعن إلى يوم الدين أيس - لعنه الله - عن الهدى ؛ فقال : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } : أي : لعنتني وشهدت عليَّ بذلك { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } المخلص - بخفض اللام - : هو الذي أخلص له الاعتقاد ، والعمل والوفاء ، والمخلص - بنصب اللام - : هو الذي أخلصه الله ، وحفظه ، وعصمه ، واختصه بذلك . والمخلص لا يقال إلا بعد أن يكون لله فيهم صنع ، ولهم اختصاص ، وفضائل اختصهم بذلك ؛ برحمة الله وفضله . والمعتزلة يقولون : لا يستوجب أحد الاختصاص والفضيلة إلا بفعل يكون منه لا يستوجب بالله . ويقولون : الله لا يغوي أحداً لا إبليس ، ولا أحداً من أتباعه ؛ فإبليس أعرف بالله من المعتزلة ؛ حيث رأوا أن الله لا يغوي أحداً ولا يختص أحداً إلا بصنع يكون منه . وقوله - عز وجل - : { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } . قال بعضهم : قوله { عَلَيَّ } بمعنى إليَّ : أي : إليَّ صراط مستقيم ؛ يقول : هو بيدي لا بيد أحد وقال بعضهم : الحق يرجع إلى الله ، وعليه طريقه لا يعوج على شيء . ويحتمل قوله : { عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } : أي : عليَّ بيانه وهو مستقيم ؛ كقوله : { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } [ النحل : 9 ] : أي : بيان قصد السبيل . وقال بعضهم : لما قال إبليس : { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } قال الله تعالى : { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } يقول : عليَّ ممرّ من أغويته وتابعك ؛ كقولك لآخر - إذا أوعدته - : إن طريقك عليَّ . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } . يحتمل قوله : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أي : ليس لك عليهم حجة { إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } فإنهم يتبعونك بلا حجة ولا برهان . ويحتمل قوله : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } : تقهرهم وتضطرهم على ذلك إلا من اتبعك من الغاوين ؛ فإنهم يتبعونك على غير قهر واضطرار ؛ أي : من كان في علم الله أن يتبعك ويختار الغواية ؛ وإن لم يكن إغواؤك إياه ؛ فإن لك عليه سلطاناً . وقوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } . أي : لموعد إبليس وأتباعه . وقوله - عز وجل - : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } . يحتمل الأبواب المعروفة ، ويحتمل الأبواب : الموارد والجهات التي تكون لها ؛ ألا ترى أنه قال : { لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } فهذا يدل أن المراد بالأبواب : الموارد والدركات - لا نفس الأبواب ؛ إذ جزء مقسوم إنما يكون للدركات ؛ لا يكون للأبواب نفسها . قال الحسن ، والأصم : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } يعنون بالأبواب : الطبقات والدركات ، لكل باب منهم جزء مقسوم : لليهود باب ، وللنصارى باب ، وللمجوس باب ، وللذين أشركوا باب ، وللمنافقين باب ، ولأهل الكبائر باب وذكر أيضاً باباً لفريق أدخلوا أهل الكبائر فيها ، والصابئين والدهرية . وعندنا أن ظاهر الآية في الكافرين ؛ لأنه قال : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } والغاوون : هم الكافرون ، وكذلك قوله : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ } فإذا كان كذلك ؛ فالسبعة الأبواب - التي ذكر - كلها لأهل الكفر ، لا يدخل أهل الكبائر فيه . ويحتمل : باب للمتجاهلة ؛ وهم الذين ينكرون العالم الشاهد والغائب ، لا يقرون بشيء ، وباب للدهرية ؛ وهم الذين ينكرون الصانع ، وباب للثنوية ، وهم الذين يقولون بالاثنين ، وباب للذين أشركوا ؛ وهم يقولون بالواحد ؛ لكنهم يشركون فيه غيره ؛ يعبدون الأصنام والأوثان ، وباب لليهود ، وباب للنصارى ، وباب للمنافقين . فذلك سبعة أبواب ، وليس لأهل الكبائر باب مسمى معلوم ، إنما ذلك كله لأهل الكفر .