Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 106-111)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عزّ وجلّ - : { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } . قوله : { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } يحتمل وجهين - حيث ذكر من كفر بالله - : أحدهما : كفر بالله في زعم المكره ؛ لأنه أكرهه به ففي زعمه كافر بالله ؛ لطلبه ذلك منه ، وهو كقوله : { فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } [ الصافات : 91 ] : في زعمهم ؛ لأنهم لم يكونوا آلهة ، وكقوله : { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ } [ طه : 97 ] : سماه إلهاً ؛ لأنه - في زعم السامري - إله . والثاني : من كفر بالله شارحاً صدره بالكفر - هو الكافر به حقّاً ، وأما من أظهر الكفر بلسانه بالإكراه ، وقلبه معتقد بالإيمان على ما كان مطمئنّاً به - فهو ليس بكافر . وأصله : أن من اعتقد مذهباً [ أو ديناً ] أن يعتقده بخصال ثلاث : إحداها : يقلد آخر ؛ لما رآه أبصرَ وآخذ وأعلم فيه ، وهو لا يبلغ ذلك ، فيقلده ؛ لفضل بصره وعلمه فيه ورأيه . والثانية : يعتقد للشبهة ؛ لما يتراءى عنده أنه الحق ؛ فيعتقده لذلك للشبهة التي ذكرنا . والثالثة : [ يعتقد لما ] يتضح له الحق فيعتقده . فلهذه الوجوه الثلاثة يعتقد من يعتقد ديناً أو مذهباً ، فأما أن يعتقد الإنسان مذهباً مجانا على الجزاف فلا ؛ فكأن إظهار كفر هذا لإكراه من أكرهه لم يصر كافراً . وأصله أن الإيمان والكفر إنما يكونان بالاختيار ؛ فإن الإكراه يزيل اختيار من كفر ؛ لذلك يبقى على الإيمان على ما كان ؛ لما لم يوجد منه اختيار الكفر . فإن قيل : أليس أمرنا أن نقاتل أهل الكفر ؛ ليسلموا ، وذلك إسلام بإكراه ؟ ! وعلى ذلك نطق الكتاب ، وهو قوله : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لا إِلَهَ إِلا الله " ، ثم إذا أسلم لخوف السيف - كان إسلامه إسلاماً في الظاهر ما يمنع كذلك أنه إذا أكره على الكفر ، فأجرى كلمة الكفر على لسانه - كان كفره كفراً في الظاهر ؛ فيحكم بكفره كما حكم في الإسلام على الإكراه ؛ فما الفرق فيه ؟ ! قيل : إن ذلك كان يجيء إلا أن الله - تعالى - أعفى عباده عن ذلك ؛ فأبقاهم على الإيمان وحكمه ، وإن أظهروا بلسانهم كلام الكفر بعد أن تكون قلوبهم مطمئنة بذلك ؛ فضلاً منه ونعمة ، وإلا : القياس أن يحكم بحكم الكفر إذا تكلم بكلام الكفر ، وأمّا الطلاق والعتاق والنكاح ونحوه ، وهو ظاهر على ما تكلم به ، عامل واقع ؛ لأن الطلاق والعتاق ونحوهما ممّا يتعلق بالكلام نفسه لا بغيره ، فهو - وإن أكره على ذلك - فهو مختار للتكلم به ، قاصد له ؛ لأن المكره لو أحب أن يستعمل لسانه بالتكلم بما ذكر ما قدر عليه ؛ دل أنه على الاختيار يتكلم ، وأما البيع والشراء ونحوه لم يتعلق بالكلام نفسه ؛ إذ قد يكون بالأخذ والتسليم دون التكلم به ؛ لذلك عمل الإكراه في إبطاله كما أبقاهم على الإيمان وحكمه ، وإن أظهر بلسانه كلام الكفر بعد أن يكون قلبه مطمئنّاً بذلك ، وعلى ذلك ما روي عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه " ؛ وذلك في الكفر ليس في غيره ؛ لأن الإكراه على الكفر كان ظاهراً يومئذ ، ولم يكن في غيره من طلاق وغيره . وأمّا قتالنا إياهم ؛ ليسلموا - فهو يحتمل وجوهاً : أحدها : على المجازاة ؛ كقوله : { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] ، فنقاتلهم ليظهروا الإسلام ، وإن لم يعرف حقيقة على المجازاة . والثاني : قبلنا منهم الإسلام على الإكراه لنقرهم فيما بين المسلمين ؛ فيرون الإسلام ويتعلمون منهم حقيقة ؛ ألا ترى أنه قال : { إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ؛ سمّاهنّ مؤمنات ، ثم أمرنا بامتحانهن ؛ بقوله : { فَٱمْتَحِنُوهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] ؛ فإنما يمتحنَّ ؛ ليظهر حقيقة إيمانهن ، وإلا لم يكن للامتحان معنى لولا ذلك . وأصله : أن الله جعل حقيقة الإيمان والكفر بالقلب دون اللسان وغيْره من الجوارح ؛ لأن غيره من الجوارح يجوز استعمالها بالإكراه ، وأمّا القلب فإنه لا يملك أحد سواه استعماله ، وذلك بفضله ومنّه . { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } . ومن شرح صدره بالكفر فهو كافر به إن كان ليس على الإكراه ؛ لما ذكرنا أنه باختياره الكفر ينشرح له الصّدر لما لا يعمل الإكراه على القلب . { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . ظاهر . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ } . أي : ذلك الغضب والعذاب بأنهم . { ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ } . يحتمل وجهين : أحدهما : استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ؛ جحوداً وإنكاراً ، وإلا نفس الاستحباب قد يكون من المؤمن ؛ فلا يزيل عنه اسم الإيمان ؛ كقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } إلى قوله - تعالى - { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ } [ التوبة : 38 ] ؛ فلم يزل عنهم اسم الإيمان باختيارهم واستحبابهم الحياة الدنيا ؛ فدلّ أن الأول عن الجحود له والإنكار ، وهذا على الميل إليه دون الجحود ؛ أو أن يكون كذلك لما لم يروا الآخرة كائنة لا محالة ولكن ظنّاً ظنّوا لعلها كائنة ؛ كقوله : { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ الجاثية : 32 ] وأمّا أهل الإسلام فإنهم لم يكونوا فيها ظانين [ متشككين ] ؛ ولكن متحققين مستيقنين ؛ فاستحقوا بذلك . وقوله - عز وجل - : { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } . وقت اختيارهم الكفر ؛ [ لأن الله ] لا يهدي القوم المختارين الكفر على الإيمان ؛ وقال ذلك لقوم علم الله أنهم يختارون الكفر ، وأنهم يموتون على الكفر ؛ فلا يهديهم . وقوله - عز وجل - : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } . الطبع : هو التغطية : تغطي ظلمة الكفر نور القلب والسمع ونور البصر ، كأن لكل أحد نورين وبصرين ، ظاهر وباطن يبصر بهما جميعاً ؛ فإذا ذهب أحدهما أو عمي - صار لا يبصر ؛ كمن يبصر ببصر الظاهر ، إنما يبصر بنور بصره ونور الهواء ؛ فإذا دخل في أحدهما آفة ذهب الانتفاع ، وصار لا يبصر شيئاً ؛ فعلى ذلك للقلب بصر خفي ، وبصر ظاهر الذي هو معروف ؛ فإنما يبصر بهما ؛ فإذا غطى ظلمة الكفر بصر القلب صار لا يبصر شيئاً ؛ ألا ترى أنه قال : { لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] أخبر أن الأبصار الظاهرة لم تعْمَ ؛ ولكن عميت القلوب التي في الصدور ، هذا يدل على - ما ذكرنا والله أعلم - معنى طبع السمع والبصر . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } . يحتمل : غافلون عن النظر في آياته وحججه ، ويحتمل : غافلون عما يحل بهم ؛ بكفرهم وتكذيبهم آيات الله وحججه . وقوله - عزّ وجلّ - : { لاَ جَرَمَ } . قد ذكرنا ما قيل فيه : لا بد ؛ وحقّاً ، وقيل : هو حرف وعيد . { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } . قال الحسن : إنهم - والله - خسروا الجنة ورحمة الله ، خسروا أهلهم ومنزلهم الذي كان لهم في الجنة ، وخسروا منهم أنفسهم حين قذفوها في النار . وقال أبو بكر الأصم : خسروا النعم الدائمة الباقية بالزائلة الفانية ، وخسروا أنفسهم ؛ حيث قتلوا ، وأسروا في الدنيا ، والله أعلم . وقوْله - عز وجل - : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } . قيل : عذبوا على الإيمان بمكة ، ثم جاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عدوَّهم ، وصبروا على ذلك . { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قيل : من بعد الفتنة لغفور لما كان منهم ، ( رحيم ) ذكر مرتين : أحدهما : قوله : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ } ، ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، [ قيل : من بعد الفتنة ] فيجيء أن يكتفى بواحد يقول : لغفور رحيم موصولاً بقوله : للذين فعلوا ما ذكر ، لكنه ذكر مرتين - والله أعلم - : إنه لغفور لهم يعني : لهؤلاء الذين فتنوا وعذبوا ، ولغيرهم . ذكر أهل التأويل أن أناساً من المؤمنين خرجوا إلى المدينة فأدركهم المشركون ؛ ليردوهم ؛ فقاتلوهم ؛ فمنهم من قتل ، ومنهم من نجا ؛ فأنزل الله - تعالى - : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ … } الآية . ومنهم من يقول - أيضاً - : فيهم نزل قوله : { الۤـمۤ * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا … } الآية [ العنكبوت : 1 - 2 ] . وأكثرهم قالوا : إن قوله : { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } : إنما نزل في عمار بن ياسر ، وليس لنا إلى ذلك حاجة ؛ إنما الحاجة فيما ذكرنا من الحكم فيه والحكمة ، والله أعلم . وقوْله - عزّ وجلّ - : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } . قال الحسن : { تُجَادِلُ } ، أي : تخبر ، { عَن نَّفْسِهَا } : عما عملت من خير أو شرّ . وقال أبو بكر الأصم : إن كل نفس رهينة بما كسبت من شر حتى يكون طائراً في عنقه . ولكن ليس لنا فيما ذكر هؤلاء مجادلة ، المجادلة : المخاصمة ؛ كأنها تخاصم عن نفسها من ارتكاب أشياء ، ودعوى أشياء على ما ذكر في غير آية ؛ من قوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } [ الأنعام : 23 ] . وقال بعضهم : إن جهنم تزفر زفرة حتى لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلاّ وقد جثا بركبتيه ؛ خوفاً منها ؛ فعند ذلك تجادل وتخاصم كل نفس عن نفسها ، ويشبه أن يكون مجادلتهم على غير هذا ، وهو ما ذكر : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } [ فصلت : 20 - 21 ] ؛ فتلك مجادلتهم أنفسهم ، وكقوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } [ الأنعام : 23 ] ، وكذلك ما ذكر في المنافقين : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ … } الآية [ المجادلة : 18 ] . وذلك كله مجادلتهم أنفسهم ، أو أن يقال : { تُجَادِلُ } لكن لا يفسّر : ما تلك المجادلة ؛ لأن الله - تعالى - ذكر المجادلة ، ولم يذكر ما تلك المجادلة ؟ وقوله - عزّ وجلّ - : { وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . أي : لا ينقصون من حسناتهم ولا يزدادون على سيئاتهم . وهذه الآية تردّ على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون بالتخليد لصاحب الكبيرة ، وقد أخبر أنه : توفى كل نفس ما عملت من سوء ، ولا توفى ما عملت من الخيرات والطاعات .