Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 112-119)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } . اختلف في ضرب المثل بهذه الآية ، وفي نزولها : قال بعضهم : ضرب المثل لأهل مكة ، وفيها نزلت - بقريات نزل بهم العذاب ؛ بتكذيبهم رسلهم في بني إسرائيل ، يحذر أهل مكة بتكذيبهم رسول الله نزول العذاب بهم كما نزل بأوائلهم . وقال بعضهم : ضرب المثل لأهل المدينة ، وفيهم نزل بأهل مكة ؛ يحذر أهل المدينة ؛ لئلا يكذبوا محمداً كما كذب أهل مكة ؛ فيحل بهم كما حل بأهل مكة من الناس الجوع والخوف ؛ بالتكذيب . وقوله - عزّ وجلّ - : { قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } . قيل : هي مكة ؛ أهلها كانوا آمنين فيها من خير أو شر ، مطمئنين يأتيهم رزقهم من كل مكان . ويحتمل قرية أخرى غيرها ؛ كانوا على ما ذكر . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } . أي : كفرت بالشكر لأنعم الله ، أي : لم يشكروها ، ليس أنهم لم يروها من الله - تعالى - وقوله - عزّ وجلّ - : { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } . اللّباس : هو ما يستر وجوه الجواهر ، ألا ترى أنه سمى الليل لباساً ؛ لما ستر وجوه الأشياء ؛ فعلى ذلك الجوع يرفع الستر واللباس الّذي كان قبل الجوع ؛ لأن الجوع إذا اشتد غيّر وجه صاحبه ، ورفع ستره ، والجوع : ما ذكر أنه أصابهم جوع حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة . والخوف [ ما ] ذكر أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ؛ ألا ترى أنه قال : " نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرةَ شَهْرَينِ " ، وقيل : الخوف : القتل . وقوله : { رَغَداً } . قال الكسائي : رغد الرجل إذا أصاب مالاً أو عيشاً من غير عناء وكدّ . وقال القتبي : رغداً ، أي كثيراً واسعاً . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } . قوله : { رَسُولٌ مِّنْهُمْ } ، أي : من أنفسهم ، من نسبهم وحسبهم ، يعرفونه ، كقوله : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] . { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } . بالتكذيب ؛ حيث وضعوا الشيء في غير موضعه ، أو ظالمون على أنفسهم . أخبر أنه بعث الرسول من جنسهم ومن حسبهم ؛ لأنه إذا كان من غير جوهرهم لم يظهر لهم الآية من غير الآية ، ولا الحجة من الشبهة ؛ لأنه إذا خرج على غير المعتاد والطوق عرفوا أنه آية ، وأنه حجة ؛ إذ لا يعرفون من غير جوهرهم الخارج عن المعتاد والطوق ، ويعرف ذلك من جوهرهم ، وكذلك يعرف صدق من نشأ بين أظهرهم من كذبه ، ولا يعرف إذا كان من غيرهم . وقوْله - عزّ وجلّ - : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً } . قال بعضهم : الحلال والطيب : واحد ، وهو الحلال ، كأنه قال : كلوا ما أحل لكم ؛ كقوله : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] ، أي : ما حل لكم . وقال بعضهم : { حَلَـٰلاً طَيِّباً } ، أي : حلالاً يطيب لكم ما تلذّذون به ؛ لأن من الحلال ما لا تتلذذ به النفس ولا تستطيب ؛ بل تكره ، وقوله : تستطيب له أنفسكم وتتلذذ به ، لا ما تستخبث [ به ] ؛ لأنّ الله جعل غذاء البشر ما هو أطيب وألذ ، وجعل للبهائم والأنعام ما هو أخبث وأخشن ؛ لأن ما هو أطيب أدعى للشكر له . ويحتمل أن يكون قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً } : لا تبعةَ عليكم . وفي الآية دلالة أنه قد يرزق ما يخبث ولا يحل على ما يختارُهُ ؛ حيث شرط فيه الحلال . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } . الشكر له عليهم لازم ، وإن لم تعبدوا ؛ وهو كقوله : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 ] : طاعته وطاعة رسوله واجبة ، وإن لم يكونوا مؤمنين ، أو يقول : وجّهوا شكر نعمه إليه إن كنتم عابدين له بجهة ، أي : افعلوا العبادة له والشكر في الأحوال كلها . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } [ البقرة : 173 ] . أي : حرم أكل الميتة وما ذكر ؛ كأنه قال هذا ، وذكر على أثر تحريمهم أشياء أحل لهم - لحوماً حرموا على أنفسهم - أشياء أحل لهم : من الزرع والأنعام ، والبحيرة والسّائبة ، وما ذكر ؛ فقال : لم يحرم ذاك ؛ ولكن إنما حرّم ما ذكر من الميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه ، على هذا يجوز أن يخرج تأويله ، وأمّا على الابتداء فإنه يبعد ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ } . إلى ما ذكر من المحرمات . { غَيْرَ بَاغٍ } . على ما نهى عنه ، وهو الشبع ؛ كقوله : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } [ المائدة : 3 ] . { وَلاَ عَادٍ } . إليه . وقال بعضهم : { غَيْرَ بَاغٍ } : يستحله في دينه ؛ فلا عاد ولا متعدٍّ في أكله . وقال بعضهم : غير باغ : على المسلمين مفارق بجماعتهم مُشَاقٍّ لهم ، ولا عاد : عليهم ؛ يستفهم ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم وأقاويلهم . وأمّا تأويله عندنا : { غَيْرَ بَاغٍ } : على المسلمين سوى دفع الإهلاك عن نفسه ، { وَلاَ عَادٍ } : متعد ومتجاوز اضطراره ، ولا يحتمل ما قاله بعض الناس : غير باغ على الناس ولا متعد عليهم ؛ لوجهين : أحدهما : أنه لا يحتمل البغي على الناس في حال الاضطرار ؛ لأنه لا يقدر عليه والحال ما ذكر . والثاني : أنه - وإن كان باغياً على ما ذكروا - لم يبح له التناول من الميتة ؛ يكون باغياً على نفسه ؛ لأنه إن لم يتناول هلكت نفسه ؛ فيصير باغياً على نفسه فدلّ أنّه على ما ذكرنا . وقوْله - عزّ وجلّ - : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } يحتمل : أي : لا تعودوا إلى ما وصفت ألسنتكم من الكذب هذا حلال وهذا حرام ، وألا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم : هذا حلال وهذا حرام . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : لا تقولوا لما أحللتموه : هذا حلال ، ولما حرمتموه : هذا حرام ، وهو كقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ … } الآية [ يونس : 59 ] . وفي هذه الآية دلالة ألا يسع لأحد أن يقول : هذا مما أحله الله وهذا مما حرمه الله ؛ إلا بإذن من الله ، ومن يقول بأن الأشياء في الأصل على الإباحة أو على الحظر ؛ فهو مفتر بذلك على الله الكذب ؛ لأن الله لم يأذن له أن يقول ذلك ؛ بل نهاه عن ذلك مما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } . أي : تكونوا مفترين على الله الكذب إذا قلتم ذا . فإن قيل : كيف سماهم مفترين على الله بتسميتهم الحرام حلالاً ، والحلال - حراماً ؟ قيل : لأن التحليل والتحريم ؛ والأمر والنهي - ربوبية ، فإذا حرموا شيئاً أحله الله ، أو أحلوا شيئاً حرّمه الله - فكأنهم على الله افتروا أنه حرم أو أحل ، أو حرموا هم وأحلوا فأضافوا ذلك إلى الله - تعالى - أنه هو الذي حرم أو أحل فقد افتروا على الله ؛ لأن من أحلّ شيئاً حرمه الله ، أو حرم شيئاً أحلّه الله - فقد كفر وليس من انتفع بالمحرم ، أو ترك الانتفاع بالمحلل - كفر ؛ إنما يصير آثماً مجرماً ، وكذلك تارك الأمر ومرتكب النهي . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } . في تحليل ما حرم عليهم ، وفي تحريم ما أحله ، وقوْلهم : { وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] . وقوله - عزّ وجلّ - : { لاَ يُفْلِحُونَ } . أي : لا يفلحون وهم مفترون على الله ، وأمّا إذا انتزعوا من الافتراء وتابوا أفلحوا ، ولا يفلحون في الآخرة ؛ إذا كانوا مفترين على الله في الدنيا . ثم قوله : { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } . على الابتداء ؛ وإنما سمّى قليلاً - والله أعلم - لوجوه : أحدها : أن متاع الدنيا على الزوال والانقطاع ؛ فكل ما كان على شرف الزوال والانقطاع فهو قليل ، كما قيل لكلّ آتٍ : قريبٌ ؛ لما يأتي لا محالة ؛ فعلى ذلك كل زائِل منقطع - قليلٌ . والثاني : سمي قليلاً ؛ لما هو مشوب بالآفات والأحزان وأنواع البلايا والشدائِد ؛ فهو قليل في الحقيقة ، أو أنّه سمّاه قليلاً ؛ لما أن متاع الدنيا قليل عما وعَدَ في الآخرة ؛ فمتاعها من متاع الآخرة قليل ؛ لما ليس فيها الوجوه التي ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } . وهو ما قصّ في سورة الأنعام ، وهو قوله : { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ } إلى قوله : { ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] ، وقوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ … } الآية [ النساء : 160 ] . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } . بتحريم ما حرمنا عليهم ؛ لأنا إنما حرمنا عليهم تلك الطيبات عقوبة لهم ، وهو ما قال في سورة النساء ، وهو قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } [ النساء : 160 ] وهو ما قال : { ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] أخبر أنه إنما حرم عليهم ذلك ؛ بظلم كان منهم عقوبة وجزاء لبغيهم ، لكن هم ظلموا أنفسهم في ذلك . أو أن يكون قوله : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } ؛ لأنهم عبيده وإماؤه ؛ ولله أن يمتحن عباده وإماءه بتحريم مرة ، وبتحليل ثانياً ، ولكن ظلموا أنفسهم ؛ حيث وجهوها إلى غير مالكها ، أو صرفوا شكر ما أنعم عليهم إلى غيره . وقوله - عزّ وجلّ - : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ } . أي : عمل السوء بجهالة ، ويحتمل وجهين : أحدهما : أن الفعل فعل جاهل وسفيه وإن لم يجهل ؛ يقال لمن عمل السوء : يا جاهل يا سفيه . والثاني : جهل ما يحل به بعمله السوء . ثم [ قوله ] { إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ … } إلى آخره ، يمكن أن يكون في الآية إضمار لم يذكر ؛ لأنه قال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ } ثم كرر ذلك الحرف على الابتداء من غير أن ذُكر له جواب ، وهو قوله : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ } { مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } . فظاهر الجواب أن يقول : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ على ما ذكرنا في قوله : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ … } الآية [ النحل : 110 ] ؛ لكن يخرج على الإضمار ، أو على التكرار : على إرادة التأكيد ، أو على الابتداء والاكتفاء بجواب ذكره في موضع آخر . ثم قال : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 89 ] : هذا - والله أعلم - جوابه ، أي : إن ربك من بعد التوبة لغفور رحيم ، فهمُوا قبل أن يعمل السوء ، والعرب قد تكرر أشياء على إرادة التأكيد ، والله أعلم .