Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 10-18)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً } موصول بقوله : { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } ، وقوله : { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } ، وقوله : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ } . يقول : الذي خلق لكم ما ذكر من الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء لكم ؛ منه شراب ، ومنه شجر هذا يحتمل ما ذكرنا : أنه أنزل من السماء ماء [ لنا ] ؛ ثم أخبر أنه منه شراب ، ومنه شجر . ويحتمل : هو الذي أنزل من السماء ماء ، ثم أخبر : { لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ } . ثم يحتمل قوله : { مِّنْهُ شَرَابٌ } جميع ما يشرب من الأشربة ؛ إذ منه تكون الأشربة جميعاً ؛ وجميع الأشياء . ويحتمل { مِّنْهُ شَرَابٌ } الماء خاصة . { وَمِنْهُ شَجَرٌ } : الشجر : معروف ؛ هو الذي يعلو ويرتفع في الأرض ؛ لا يسمى الحشيش وما ينبسط على وجه الأرض شجراً ، فظاهر هذا أن يرجع إلى ذلك المعروف ؛ إلا أنه ذكر شجراً { فِيهِ تُسِيمُونَ } : أي : تزرعون ، دل هذا أنه إنما أراد بالشجر المنبسط على وجه الأرض والمرتفع عليها . وقال القتبي : السائمة : الراعية ، وكذلك قال أبو عوسجة ، وقال أبو عبيدة : أسمت سائمتي : أي : رعيتها : وكذلك قوله : { وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ } [ آل عمران : 14 ] أي : الراعية . وقوله - عز وجل - : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } . أي : ينبت لكم بالماء الذي ذكر أنه أنزل من السماء الزرع ، والزيتون ، وجميع ما ذكر ، جعل الله - بلطفه - الماء لقاح كل الأشياء المختلفة والمتفقه ، ليس كغيره من الدوابّ ؛ حيث لم يجعل لقاح شيء من جنس آخر ، إنما جعل لقاح كل نوع من نوعه ، وجعل في الماء بلطفه سرية توافق جميع الأشياء المختلفة ، لو اجتمع الخلائق على إدراك ذلك - وإن اجتهدوا - لم يقدروا عليه ، يعرفون الماء ظاهراً ؛ ولكن لا يدركون ما فيه من اللطف والسرية ؛ التي يكون بها حياة كل أحد وموافقته . وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . ذكر أن فيه آية لقوم يتفكرون ، ولم يذكر أنه لماذا ؟ لكنه ذكر أنه آية لقوم يتفكرون ؛ بالتفكر يعرف أنه آية لماذا ، وهذا يدلّ على أن الأشياء التي غابت عنا ظواهرها بالتفكر والنظر تدرك . وقوله - عز وجل - : { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ } وما ذكر . ووجه تسخير هذه الأشياء لنا : هو أن الله خلق هذه الأشياء ، وجعل فيها منافع للخلق ؛ تتصل تلك المنافع إلى الخلق شئن ؛ أو أبين أحببن أو كرهن ؛ جعل في النهار معاشاً للخلق ؛ وتقلباً فيه يتعيشون ويتقلبون ، وجعل الليل راحة لهم وسكناً ، ينتفعون بهما شاءا أو أبيا ، وكذلك ما جعل في الشمس والقمر والنجوم من المنافع : من إنضاج الفواكه والثمرات ، وإدراك الزروع وبلوغها ، ومعرفة الحساب والسنين والأشهر ، ومعرفة الطرق والسلوك بها ، وغير ذلك من المنافع ما ليس في وسع الخلق إدراكه ، ينتفع الخلائق بما جعل فيها من المنافع شاءت هذه الأشياء أو أبت ، فذلك وجه تسخيرها لنا . ويحتمل ما ذكر من تسخير هذه الأشياء لنا : ما جعل في وسعنا استعمال هذه الأشياء ؛ والانتفاع بها ، والخيل التي بها نقدر على استعمالها في حوائجنا . ويحتمل تسخيرها لنا : ما ينتفع بهن شئن أو أبين بالطباع . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } . يحتمل وجهين : يحتمل : أي : بأمره تنفع الخلائق ويحتمل { بِأَمْرِهِ } : أي : كونها في الأصل هكذا ؛ بأن تنفع الخلق . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . قال في الآية الأولى : { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } جعل الله تعالى التفكر سبيلا للعقول إلى إدراك الأشياء المغيبة بالحواس الظاهرة ؛ إذ لا سبيل للعقل إلى إدراك ما غاب عنه إلا بالحواس الظاهرة ، [ والتفكر فيها ؛ لأن ما غاب عن الحواس الظاهرة ] لا يدركه العقل ؛ فجعل الحواس الظاهرة سبيلاً للعقول إلى إدراك المغيب عنها . ذكر - عز وجل - في الآية الأولى : { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، وذكر في الآية الثانية : { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، وفي الآية الثالثة : { لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } ، وفي الرابعة : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } : فهو - والله أعلم - كرره على مراتب ؛ لأنه بالتفكر فيها يعقل ويعلم ، ثم بعد العلم والعقل والفهم يتذكر ، وإذا تذكر عند ذلك شكر نعمه ، ثم قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } و { يَتَفَكَّرُونَ } وما ذكر فيه : دلالة وحدانية الله تعالى ، ودلالة تدبيره وعلمه وحكمته ، ودلالة بعث الخلائق ، ودلالة قدرته وسلطانه ؛ لأن الليل والنهار يأتيان الجبابرة والفراعنة ، ويذهبان بعمرهم ويفنيانه ؛ شاءوا أو أبوا ، فذلك آية سلطانه وقدرته ؛ ليعلم أن له [ السلطان والقدرة ] لا لهم ، وفيهما دلالة البعث ؛ لأنه إذا أتى هذا ذهب الآخر حتى لا يبقى له أثر ، ثم ينشيء مثله بعد أن لم يبق من الأوّل شيء ولا أثر ، فالذي قدر على إنشاء النهار أو الليل بعد ما ذهب أثره وتلاشى - لقادر على إنشاء الخلق بعد ما ذهب أثرهم . وكذلك الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وما ذكر : لما اتسق هذا كله على سنن واحد ؛ وتقدير واحد ؛ على غير تفاوت فيها ولا تفاضل ، وعلى غير تقديم ولا تأخير بل جرى كله على سنن واحد ، وتقدير واحد ، وميزان واحد ؛ من غير تفاوت [ ولا تفاضل ] ولا اختلاف . دلّ أنه على تدبير واحد خرج ذلك ، لا على الجزاف ، وأن مدبر ذلك كله واحد ؛ إذ لو كان تدبير عدد لخرج مختلفاً متفاوتاً ، فدل أنه تدبير واحد لا عدد ، وأنه على تدبير غيرٍ خرج وجرى كذلك ، لا بنفسه ، وأنه على حكمة ، وعلم جرى كذلك ، فدل على لزوم الرسالة والعبادة له ؛ فهذا - والله أعلم - تأويل قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . وقوله - عز وجل - : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي : مختلفاً أصنافه وجواهره . يخبر - عز وجل - [ عن ] قدرته ، وسلطانه ، ونعمه التي أنعم عليهم بها . أما سلطانه وقدرته : ما خلق في الأرض وأنبت فيها بالماء لم يرجع إلى جوهر الأرض وجنسها ، ولا إلى جوهر الماء وجنسه ، وهما كالوالدين : الماء كالأب ، والأرض كالأم ، فلم يرجع ما خرج منهما من جنسهما ، ولا من جوهرهما ؛ كما كان في سائر الأشياء رجع التوالد منها إلى جنس الوالدين وجوهرهما ؛ بل رجع التوالد والنشوء من الأرض والماء إلى جنس البذر وجوهره ؛ ليعلم قدرته وسلطانه على إنشاء الأشياء ؛ بأسباب وبغير أسباب ، ومن شيء ومن لا شيء . ويذكر نعمه : حيث أخبر أنه خلق في الأرض من الأصناف المختلفة ، والجواهر المتفرقة ؛ لينتفعوا بها . ويحتمل قوله : { مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } من جنس واحد ؛ من شيء واحد ؛ لأنه يكون من جنس واحد ألوان مختلفة ، ومن قدر على إنشاء ألوان مختلفة من شيء واحد لا يعجزه شيء . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } ، وفي آية : { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، وفي آية { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، وفي آية : { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ لقمان : 31 ] ، و { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] ، وفي آية : { لِلْمُؤْمِنِينَ } . فيحتمل أن يكون كله كناية عن المؤمنين ؛ كأنه قال : إن في ذلك لآية للمؤمنين ؛ إذ يجمع الإيمان جميع ما ذكر : من التفكر ، والتذكر ، والعقل ، والاعتبار ، والصبر ، والشكر ، وغيره . ويحتمل : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، و { يَعْقِلُونَ } ، و { يَذَّكَّرُونَ } : أي : لقوم همتهم الفكر والنظر في الآيات ، ولقوم همتهم التفهم والاعتبار فيها ، لا لقوم همتهم العناد ، والمكابرة ، والإعراض عن النظر في الآيات والفكر فيها . وفي ذكر الآية للمتفكرين ، والعاقلين ، والمتذكرين : لما منفعة الآية تكون لهؤلاء ، وإن كانت الآيات لهم ولغيرهم ، فمنفعتها لمن ذكر . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً } . وتسخيره إياه لنا : هو ما بذل للخلق ما فيه من أنواع الأموال التي خلق الله فيه : من الحلي والجوهر واللؤلؤ ، وبذل ما فيه من الدوابّ : السمك وغيره ، فلولا تسخير الله إياه للخلق ؛ وتعليمه إياهم الحيل التي بها يوصل إلى ما فيه من الأموال النفيسة ؛ وإلا ما قدروا على استخراج ما فيه والوصول إليه ؛ لشدة أهواله وأفزاعه . وقوله - عز وجل - : { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً } . يحتمل السمك خاصة . ويحتمل السمك وما فيه من الدوابّ ؛ من نوع ما لو كان بريّاً أكل ؛ من نحو الجواميس وغيرها . وقوله تعالى : { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } . يحتمل الحلية : اللؤلؤ والمرجان ؛ الذي ذكر في آية أخرى ؛ حيث قال : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] . ثم يحتمل قوله : { حِلْيَةً } : أي : ما يتخذ منه حلية . وهذا جائز ؛ أن يسمّى الشيء باسم ما يتخذ منه ؛ وباسم ما يصير به في المتعقب . أو يسمى حلية ؛ لأنه زينة . ولا شك أن اللؤلؤ والمرجان هما زينة ؛ ألا ترى أنه ذكر في الأنعام زينة وجمالاً ، وفي الخيل والبغال كذلك ، فالزينة في اللؤلؤ والمرجان أكثر ، والجمال فيه أظهر أخبر أنه جعل لنا الوصول إلى [ ما في ] قعر البحر وهو ما ذكر من اللؤلؤ وأنواع الحلي ، وما في بطن البحر : وهو ما ذكر من اللحم الطري ، وما هو على وجه الماء : وهو السفن التي ذكر . ووجه تسخيره إيانا الخيل والأسباب التي علمنا ؛ حتى نصل إلى ما فيه ؛ فكأنه قال : سخرت لكم البحر من أسفله إلى أعلاه . وفي ذلك دلالات : إحداها : إباحة التجارة بركوب الأخطار ؛ لأن الغائص [ في البحر ] يخاطر بنفسه ؛ وروحه ، وكذلك راكب السفن ؛ فلولا أنه مباح له طلب ذلك ؛ وإلا ما ذكر هذا في منته ؛ إذ هو يخرج مخرج ذكر الامتنان . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ } قال الحسن ، والأصم : المواخر : السفن المحشوات ؛ الوافرة أحمالها وأثقالها ، يذكر منّته التي منّ بها عليهم ؛ حيث جعل لهم السفن والفلك ؛ التي يحمل بها الأحمال الثقال العظام في البحار ما سبيلها التسفّل والانحدار في البحر ؛ فأمسكها فيه بالسفن العظام الثقيلة . وقال بعضهم : مواخر : أي : جارية مقبلة مدبرة بريح واحدة في البحر ؛ لأن ماء البحر راكدة ؛ فأجرى السفن فيه بالرياح ؛ حيثما أرادوا وقصدوا ؛ إذ الأشياء قد تجري [ على الماء ] إذا كان له جرية ، وأما إذا كان راكداً ساكناً فلا سبيل إلى ذلك ؛ فيذكر عظيم منته وقدرته على إجراء السفن في الماء الراكد بالريح . وقال [ بعضهم ] : { مَوَاخِرَ } أي : جواري تشق الماء شقّاً وتخرقه ، يقال : مخرت السفينة ؛ ومنه : مخر الأرض : إنما هو شق الماء لها ؛ وهو قول القتبي . وكذلك قال أبو عبيدة : إنه من شق السفن الماء . وقال أبو عوسجة : المواخر : المستقبلة ، يقال : استمخر الإنسان الريح : إذا استقبلها . وقال أبو عبيدة : مواخر من الاستدبار ؛ يقال : إذا أراد أحدكم البول فليستمخر الريح : أي : يستدبرها . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } . يحتمل بالتجارة التي جعل فيها ؛ حيث جعل سبيل قطع البحار إلى بلاد نائية بعيدة بالسفن ؛ ليبتغوا ما به قوام أبدانهم وأنفسهم ؛ إذ جعل بنيتهم بنية لا تقوم إلا بالأغذية ، ولعلهم لا يظفرون ما به قوام أبدانهم وبنيتهم في بلادهم ؛ فيحتاجون إلى البلاد النائية البعيدة عنهم ، فمنّ عليهم بذلك ؛ كما من بقطع المفاوز والبراري بالدوابّ ؛ بقوله : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ } [ النحل : 7 ] . أو قال : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بما يستخرج منه ، ولعلكم تشكرون جميع ما ذكر : من ألوان النعم والمنافع ؛ من أوّل السورة إلى آخرها ؛ يستأدي به شكره . وفي قوله : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } دلالة إباحة التجارة ، وطلب الفضل بركوب الأخطار واحتمال الشدائد ؛ حيث أخبر أنه سخر البحر ؛ حتى أمكنهم ركوبه بالحيل والأسباب التي علمها لهم ؛ لأن الغواص يخاطر بروحه ونفسه ، وكذلك راكب السفينة . وقوله - عز وجل - : { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } . أي ألقى في الأرض الجبال ؛ لئلا تميد بكم [ ؛ قال بعض أهل التأويل : قوله : { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ } لئلا تميد بكم ] لأنها بسطت على الماء ؛ فكانت تكفو بأهلها ؛ كما تكفو السفينة في الماء ؛ فأثبتها بالجبال ؛ لتقرّ بأهلها ، لكن لو كان على ما ذكروا أنها بسطت على الماء لكانت لا تكفو ولا تضطرب ، ولكنها تتسرب في الماء وتنهار فيه ؛ لأن من طبعها التسفّل والتسرب في الماء ؛ إلا أن يقال : [ إن ] الله - عز وجل - جعل - بلطفه - طبعها طبع ما يضطرب ؛ وتكفو ، فعند ذلك يحتمل ما ذكروا . والله أعلم . ولو قالوا : إنها بسطت على الريح لكان يحتمل ما قالوا ؛ ويكون أشبه بقولهم ؛ ألا ترى أن السراج في الآبار والسروب لا يضيء بل ينطفئ كما أسرج ؛ فيشبه أن يكون انطفاؤه لريح تكون في الأرض ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ، والله أعلم بذلك . وقال بعضهم : بسطت على ظهر الثور فكانت تضطرب بتحركه فأرساها بما ذكر ، والله أعلم . ثم قوله : { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً } يخرج ذكر ذلك منه ذكر الامتنان والنعمة ؛ لأن له أن يترك الأرض على ما خلقها ؛ ولا يثبتها بالجبال ؛ لتميد بأهلها وتميل ؛ فلا يقدروا على القرار عليها والانتفاع بها ، لكنه - بفضله ومنته - أثبتها بالجبال ؛ ليقروا عليها ، ويقدروا على الانتفاع بها . وكذلك له ألا يجعل لهم فيها أنهاراً جارية ؛ فيكون مياههم من آبارها ، وكذلك له أن يحوجهم بأنواع الحوائج ؛ ثم لا يبين لهم الطرق والسبل التي بها يصلون إلى قضاء حوائجهم ، [ ويكلفهم طلب الطرق والسبل التي بها يصلون إلى قضاء حوائجهم ، ويكلفهم طلب الطرق والسبل التي بها تقضي حوائجهم بأنواع الحوائج ، ثم لا يبين لهم الطرق والسبل ] ، لكنه بفضله ومنّه بيَّن لهم الطرق والسبل التي تفضي إلى البلدان والأمكنة التي فيها تقضي حوائجهم ، وكذلك بفضله جعل لهم في الأرض أنهاراً جارية ، وأثبت الأرض بالرواسي ؛ ليقروا عليها ، وذلك كله بمنّه وفضله . وقوله - عز وجل - : { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . يحتمل تهتدون الطرق والسبل التي تفضيهم إلى الحوائج . ويحتمل : تهتدون الهدى المعروف ؛ بما ذكر من نعمه ومننه . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } هذا أيضاً يخرج مخرج ذكر المنن والنعم عليهم ؛ لأنهم لولا ما جعل الله أعلاماً في البحار والبراري يعرفون بها السلوك فيها ؛ وإلا لم يقدر أحد معرفة الطرق في البحار والبراري . ثم يحتمل الأعلام : مرة بطعم الماء والجبال التي جعل فيها وبالرياح ، ومرة تكون بالنجم ؛ [ يعرفون بطعم الماء أن هذا الطريق يفضي إلى موضع كذا ، وكذلك يعرفون بالجبال وبالرياح ] يعرفون السبل إلى حوائجهم ومقصودهم . وكذلك بالنجم يعرفون الطرق ؛ فالأعلام مختلفة بها يهتدون الطرق والسبل . ويحتمل : يهتدون بما ذكر من الأعلام والنجم سبب اهتدائهم إلى توحيد الله . وقوله - عز وجل - : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } . يحتمل هذا وجهين : أحدهما : على الاحتجاج عليهم ؛ أي : لا تجعلوا من لا يخلق ولا ينفع ولا ينعم كمن هو خالق الأشياء كلها ؛ منعم النعم عليكم ، { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } : [ أي ] : إن صرف العبادة والشكر إلى غير خالقكم وغير منعمكم جور وظلم . والثاني : يخرج مخرج تسفيه أحلامهم ؛ أنهم يعبدون من يعلمون أنه ليس بخالق ، ويتركون عبادة من يعلمون أنه خالق الأشياء كلها ، أفلا تذكرون والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } . هذا يحتمل وجوهاً : أحدها : وإن تعدوا أنفس نعمة الله التي أنعمها عليكم وأعينها لا تقدروا على عدّها لكثرتها . والثاني : { وَإِن تَعُدُّواْ } : وإن تكلفتم واجتهدتم كلّ جهدكم أن تقوموا لشكر ما أنعم الله عليكم [ ومنّ ] وما قدرتم على القيام لشكر واحدة منها ؛ فضلا أن تقوموا للكل . والثالث : يخرج على العتاب والتوبيخ ؛ أي : كيف فرغتم لعبادة من لا يخلق ولا ينعم عن عبادة من خلق وأنعم ، وكنتم لا تقدرون على إحصاء ما أنعم عليكم ؛ فضلا أن تقوموا لشكره . وقال الحسن في قوله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } : لا تعرفوا كل النعم ؛ لأنه كم من النعم ما لا يعرفه الخلق ؛ كقوله : { نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [ لقمان : 20 ] فإذا لم يعلموا لم يقدروا إحصاءها . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : إنكم وإن افتريتم على الله ، وعاندتم حججه وآياته ، وكذبتم رسله فإذا استغفرتم ؛ وتبتم عما كان منكم ؛ يغفر لكم ذلك كله ؛ كقوله : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . والثاني : { لَغَفُورٌ } : أي : يستر عليكم ما كان منكم ؛ ما لو أظهر ذلك لافتضحتم ؛ لكنّه برحمته ستر ذلك عليكم ، رحيم بالستر عليكم . أو ذكر { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } على أثر ذكر النعم وأنواع المنافع ؛ ليكونوا رحماء على ما ذكر مما سخر لنا وأذلّ . والله أعلم .