Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 3-9)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } . قد ذكرنا قوله : { بِٱلْحَقِّ } في غير موضع أنه لم يخلقهما وما فيهما عبثاً ، إنما خلقهم لأمر كائن ، أو للمحنة ، والجزاء ، ونحوه . وقوله - عز وجل - : { تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . من [ لا يخلق ، ولا ينفع ] ، ولا يضر ، ولا يدفع في الذي يخلق ، وينفع ، ويضّر ، ويدفع تعالى عن ذلك وتبرأ . وقوله - عز وجل - : { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } . يذكرهم - عز وجل - نعمه عليهم ، وقدرته ، وسلطانه ، وعلمه ؛ لأنه لو اجتمع الخلائق كلهم ؛ على أن يدركوا المعنى الذي به تصير النطفة نسمة وإنساناً - ما قدروا عليه حيث خلق من النطفة إنساناً على أحسن تقويم ؛ وأحسن صورة . وفيه نقض قول الدهرية ؛ حيث أنكروا خلق الشيء من لا شيء ؛ لأنهم لم يدركوا المعنى الذي به خلق الإنسان من النطفة ؛ فيلزمهم أن يقروا بخلق الشيء من لا شيء ، وإن لم يشاهدوا ذلك ولم يدركوا ، وفيه دلالة البعث ؛ لأن من قدر على إنشاء الإنسان من النطفة ؛ وليس فيها من آثار الإنسان شيء يقدر على البعث وإنشاء الأشياء ؛ لا من شيء . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } . قال بعضهم : { خَصِيمٌ } : هو الذي يجادل بالباطل { مُّبِينٌ } : أي : ظاهر مجادلته بالباطل ومخاصمته . وقال بعضهم : الخصيم : هو الجدل الذي يجادل فيما كان . قال أبو عوسجة : الخصيم : هو المخاصِم ، والمخاصَم كلاهما خصيم ، ويقال : فلان [ خصيمي أي : ] خصمي . مبين : ظاهر خصومته ، والخصيم : هو الفعيل ، والفعيل : قد يستعمل في موضع الفاعل والمفعول جميعاً ؛ فكأنه قال : فإذا هو خصيم مبين : أي : منقطع عن الخصومة ؛ بيّن انقطاعه ، وهو ما ذكر من خصومته في آية أخرى ؛ وانقطاع حجته ؛ حيث قال : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 77 - 78 ] فهذا احتجاج عليه ؛ فانقطعت حجته ، وبهت الذي أنكر قدرته على البعث ؛ حيث لم يتهيأ له جواب ما احتج عليه . وقوله - عز وجل - : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا } . يحتمل قوله : { خَلَقَهَا لَكُمْ } على الظاهر ؛ أن خلق هذه الأشياء وخلق لنا فيها دفئاً ومنافع ؛ كقوله : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] . ويحتمل قوله : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } : أي : هو خلقها ، ثم أخبر أنه خلق لنا فيها منافع يذكر أنواع المنافع والنعم التي أنعم علينا ، مفسرة مبينة ، واحدة بعد واحدة ؛ في هذه السورة ، وفي غيرها من السور ، إنما ذكرها مجملة غير مشار إلى كل واحدة منها ؛ على ما أشار في هذه السورة ؛ ليقوموا بشكرها ، وليعلموا قدرته على خلق الأشياء لا من الأشياء . ثم قوله : { فِيهَا دِفْءٌ } : قال بعضهم : الدفء نسل كل دابة . وقال بعضهم : ما ينتج منه . وقال القتبي : الدفء ما استدفأت به ، ويشبه أن يكون تفسير الدفء والمنافع الذي ذكر هو ما فسّر في آية أخرى ؛ وهو قوله : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ … } الآية [ النحل : 80 ] جعل الله - عز وجل - الأنعام وما ذكر وقاية لجميع أنواع الأذى من السماوي وغيره ؛ مما يهيج من الأنفس من الحرّ ، والبرد ، والجوع ، وغير ذلك مما يكثر عدها ، ويطول ذكرها ، وجعل فيها منافع كثيرة : من الركوب ، والشرب ، والأكل ؛ كما قال : { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ } [ يس : 73 ] وقال : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ } [ المؤمنون : 21 ] وأخبر أيضاً أن فيها جمالا وزينة ؛ بقوله : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } . فإن قال قائل : أي جمال يكون لنا فيها حين الإراحة وحين السرح . وقال بعض أهل التأويل : وذلك أنه أعجب ما يكون ؛ إذا راحت عظاماً ضروعها ، طوالا أسنمتها . { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } إذا سرحت لرعيها . أو أن يكون الجمال عند الإراحة والسرح : شرب ألبانها ، وقرى الضيف من ألبانها ؛ في الرواح والمساء . وقال بعضهم قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } : وذلك أنهم كانوا يسّرون عند الإراحة والتسريح ، وذلك السرور يظهر في وجوههم ؛ فإذا ظهر ازداد لهم جمالا وحسناً ، وهكذا المعروف في الناس : أنهم إذا سروا يظهر ذلك السرور في وجوههم ؛ فيزداد لهم بذلك جمالاً ، وإذا حزنوا وأصابهم غم - يؤثر ذلك الغم نقصاناً في خلقتهم ؛ فيزداد لهم قبحاً وتشويهاً . وقال بعضهم : إنهم إذا أراحوها أو سرّحوها رأى الناس أن أربابها أهل غنى ؛ وأهل ثروة ، وأنهم لا يحتاجون [ إلى غيرهم ، وأن ] يكون لغير إليهم حاجة ؛ فيكون لهم بذلك ذكر عند الناس وشرف ، وذلك جمالهم وشرفهم فيها ، والجمال لهم فيها ظاهر ؛ لأن ما يبسط ويفرش إنما يتخذ منها ومن أصوافها ، وكذلك ما يلبس إنما يكون منها ، وإنما يبسط ، ويفرش ، ويلبس للتجمل والبهاء . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ } . ذكر أيضاً ما جعل [ فيها لنا ] من النعم ما تحمل من الأثقال ، من مكان إلى مكان ، ومن بلد إلى بلد ؛ ما لو لم يكن أنشأهن أعني : الأنعام التي أخبر أنها تحمل أثقالنا إلى ذلك بدونه إلا بجهد وشدة ، وذلك - والله أعلم - أن الله جعل في هذه الأنفس حوائج وقواماً ما لا قوام لها إلا بذلك ؛ فلعله لا يظفر بما به قوام النفس إلا في بلد آخر أو مكان آخر ، فلو تحمل ذلك بنفسه - لكان في ذلك تلف نفسه ، وذهاب ما به قوامه ، فذكر أنه خلق لنا ما نحمل به من بلد إلى بلد ؛ مما به قوام أنفسنا وحاجاتنا . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي : من رحمته ورأفته ما جعل لكم من المنافع في الأنعام ؛ وما ذكر ، أو ذكر هذا ليرحموا على هذه الأنعام التي خلقها لهم ؛ في الإنفاق عليها ، والإحسان إليها ؛ وذكر فيه : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وذلك لا يوصل إلى أكله إلا بالذبح ؛ ليعلم أن الذبح فيما يؤكل ليس بخارج من الرحمة والرأفة . وذلك ينقض على الثنوية قولهم ؛ حيث أنكروا ذبح هذه الأشياء ويقولون : إنهم يتألمون [ بالضرب ، والقتل ، والذبح ] ؛ كما تتألمون أنتم ، فمن قصد أحدكم بالقتل فهو سفيه عندكم غير حكيم ولا رحيم ، بل موصوف بالقساوة والسفه ، فالله سبحانه موصوف بالحكمة ، والرحمة ، والرأفة ، لا يجوز أن يأمر بالذبح والقتل لهذه الأشياء ؛ إذ ذلك مما يزيل الرحمة والحكمة . فيجاب لهم بوجوه : أحدها : أن الله خلق هذا البشر في هذه الدنيا للمحنة ولعاقبة قصدها ، إمّا ثواباً وإمّا عقاباً ، وأخبر أنه خلق هذه الأشياء لنا ، وجعل لنا فيها منافع ، تتأمل وتقصد ، وقد نجد في الشاهد من هو موصوف بالرحمة والرأفة على نفسه ، يجرح نفسه الجراحات ، ويحمل عليها الشدائد والمكروهات ؛ لمنافع تقصد وخير يتأمل في العاقبة ، ثم لم يوصف بالسفه ، ولا بالخروج عن الحكمة والرحمة ، من نحو الحجامة والافتصاد ، وشرب الأدوية الكريهة الشديدة ما لو لم يتأمل ما قصد من النفع والعافية في العاقبة ؛ ما تحمل تلك المكروهات والشدائد ، فدل ما وصفنا أن تحمل الأذى ، والألم ، والمكروه - غير خارج عن الحكمة والرحمة ، ولا الفعل بما فعل سفه ؛ إذا كان لمنافع تقصد في العاقبة ، وعاقبة تتأمل . فيبطل قول الثنوية : أن ذلك مما يزيل الرحمة ؛ على أن هذه الأنعام والبهائم لم تخلق للمحنة وللجزاء في العاقبة ؛ ولكن خلقت لمنافع البشر ؛ فلهم الانتفاع بها ؛ مرة بلحومها ، ومرة بحمل أثقالهم والانتفاع بظهورها ، مع ما ذكرنا أن [ تحمل المكروهات وأنواع الشدائد ] والآلام - لا تخرج الفعل عن الحكمة ، ولا تزيل الرحمة والرأفة [ إذا قصد به النفع ] في العاقبة ، وطمع فيه الخير . وهذا يدل أنه أبيح لنا الانتفاع بها ؛ والذبح على غير جعل حقيقتها لنا ؛ حيث لم يبح لنا إتلافها ؛ إذ لو كان أصول الأشياء لنا لكان لا يمنع عن الإتلاف ، فدل أنه أبيح لنا الانتفاع بها على غير جعل الحقيقة والأصول لنا ، فيبطل قول من يقول : إن الأشياء في الأصل على الحل والإباحة حتى يقوم ما يحظر . قال أبو عبيد : { حِينَ تُرِيحُونَ } يقال منه : أرحت الإبل أريحها إراحة ، والإراحة عند العرب : أن يصدر الرعاء مواشيها بالليل إلى مآويها ؛ ولهذا سمي ذلك الموضع : المراح . وقوله : { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } هو إخراجها إلى المرعى ؛ يقال : سرحتها ، أسرحها سرحاً وسروحاً . وكذلك قال القتبي وأبو عوسجة . والدفء : ما ذكرنا أنه من الاستدفاء . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } . قوله : { وَزِينَةً } يحتمل وجهين : أحدهما : أن الماشي هو دون الراكب ، والمشي يؤثر نقصاناً في الوجه والركوب لا ، وذلك زينة ؛ على ما ذكرنا في قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } . والثاني : أن الراكب إذا نظر إلى الماشي سرّ بركوبه ، فالسرور يظهر في وجهه ، وذلك يزيد في حسنه وجماله ، وأصله : ما ذكر - عز وجل - : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ … } الآية [ النحل : 5 ] { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } بيّن أنه لماذا خلق الأنعام وما جعل فيها ؛ وهو ما ذكر : أنه جعل فيها الدفء والمنافع ومنها تأكلون ، وبيّن أنه لماذا خلق الخيل ؛ وهو ما ذكر : لتركبوها وزينة . وسئل ابن عباس : عن لحوم الخيل ؟ فقرأ : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } ولم يقل : لتأكلوها ؛ فكره أكلها لذلك . وتمام هذا أن الله ذكر الأنعام ، وما ذكر من النعم والانتفاع بها ، وبالغ في ذكرها ؛ لأنه قال : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وقال : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ … } الآية ، وقال : { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ } [ النحل : 10 ] وقال : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } [ النحل : 11 ] وقال : { وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً … } [ النحل : 14 ] إلى آخر ما ذكر ، ذكر جميع ما ينتفع به ؛ من أنواع المنافع ذكراً شافياً مبالغاً غير مكفيّ ، فدل ما ذكر في الخيل من الركوب ، وكذلك في البغال والحمير ؛ على أنه ليس فيها منفعة أخرى سوى ما ذكر ؛ وهو الركوب ؛ إذ خرج الذكر لها على المبالغة والاستقصاء ؛ ليس على الاكتفاء ، ولو كان هنالك منفعة أخرى لذكر على ما ذكر في غيره . والله أعلم . والثاني من الأشياء : أشياء يعرف خبثها ؛ بنفار الطباع ، والصبيان أوّل ما بلغوا يرغبون في ركوبها ، لا أحد يرغب في أكلها إلا من غير طبعه عما كان مجبولا به ؛ فهو يرغب في أكله ، وأما من ترك وطبعه يستخبث وينفر طبعه عن أكله . والله أعلم . وروي عن جابر قال : " لما كان يوم خيبر أصاب الناس مجاعة ، وأخذوا الحمر الأهلية فذبحوها ، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الإنسية ، ولحوم الخيل والبغال ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، وحرم الخلسة والنهبة " . وروي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك قال : " أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر " . وعن أسماء بنت أبي بكر قالت : " نحرنا فرساً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلنا " . وفي بعض الأخبار : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر وأذن لنا في لحوم الخيل " . قلنا : قد يجوز أن يكونوا أكلوه في الحال التي كان يؤكل فيها الحمر ؛ لأن النبي إنما نهى عن أكل لحوم الخيل صحيحاً ، فقد يجوز أن يكونوا أكلوا لحم الفرس في حال الإباحة ؛ إذ لم يذكروا الوقت . وعن الحسن قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكلون لحوم الخيل في مغازيهم ، وكان الحسن لا يرى فيها بأساً على كل حال ، وقول الحسن : إنهم كانوا [ يأكلون لحوم الخيل ] في مغازيهم يدل على أنهم كانوا يأكلونها في حال الضرورة . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الخيل لثلاثة : فهي لرجل كذا ، ولرجل آخر كذا ، وعلى رجل وزر " يبيّن أنها لا تصلح لغير ذلك ، ولو صلحت للأكل لقال : الخيل لأربعة ؛ ولقال : ولرجل طعام . ومما يبين ما ذكرنا : أن البغل حرام ؛ وهو من الفرسة ؛ فلو كانت أمه حلالا كان هو أيضاً حلالا ؛ لأن حكم الولد حكم أمه ؛ لأنه منها أو هو كبعضها ، فمن حرم لحم البغل لزمه أن يحرم لحم الفرسة في حكم النظر والمقاييس ؛ ألا ترى أن حمار وحش لو نزا على حمارة أهلية لم يؤكل ولدها ، ولو أن حماراً أهليّاً نزا على حمارة وحشية ؛ فولدت أكل ولدها ، أفلا ترى أنه جعل حكم الولد حكم أمه ؛ ولم يعتبر بالفحل ، فلما كان لحم البغل حراماً وجب أن يكون لحم الفرسة كذلك . إلا أن أبا حنيفة - رحمه الله - كان لا يطلق تحريم أكلها ؛ لما فيها من الشبهة ، والاختلاف ، والأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لكنه ذكر الكراهة للشبهة التي فيها ؛ وكان أبو يوسف - رحمه الله - يبيح أكلها . وقد يجوز أن يحتج لأبي يوسف ؛ في الفرق بين المولود من الفرسة وبين ولد الحمارة الوحشية إذا نزا عليها حمارٌ أهلي بأن ولد الحمارة لم يتغير عن جنس أمه ؛ فحكمه حكمها ، والبغل ليس من جنس أمه ؛ هو من جنس ثالث ، فلذلك لم يكن سبيلها بسبيله . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . أخبر أنه يخلق ما لا نعلم ؛ فليس لنا أن نتكلف في علم ذلك . أو يخلق من النعم - فيما خلق - ما لا تعلمون أنتم أنها نعم . أو قال : يقول قوم : أن ليس لله أن يخلق شيئاً لا يطلعه الممتحن . وقوله - عز وجل - : { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } . اختلف فيه : قال بعضهم : أي : على الله بيان قصد السبيل ، وهو الهدى : يبين الهدى من الضلالة ، ويبين من السبل التي تفرقت عن سبيله ؛ كقوله : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 19 ] . وقوله - عز وجل - : { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } أي : عليه بيان ما يجوز منها ؛ من قصد السبيل يعدل ويجار ، أو يقال : وبالله يوصل إلى قصد السبيل . وقال بعضهم : { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ } أي : وبالله يوصل بقصد السبيل ؛ وهي السبل التي ذكرنا ، { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } كقوله : { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ } [ الأنعام : 153 ] . وقال بعضهم : طريق الحق والعدل لله ، وقد يستعمل حرف ( على ) مكان ( له ) كقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] أي : للنصب وقوله : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 30 ] أي : لربهم ، كقوله : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ المطففين : 6 ] [ { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } : وهي السبل المتفرقة عن سبيله ] . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } . قد ذكرنا تأويله ، وقوله : { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } يخرج على وجهين : أحدهما : لو شاء أكرم الخلق كله اللطف الذي أكرم أولياءه ؛ فاهتدوا به ؛ فيهتدون . والثاني : لو شاء أعطاهم جميعاً الحال التي يكون بها الاهتداء ؛ وهو ما قال : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الزخرف : 33 ] إلى آخر ما ذكر ؛ لما لا يحتمل أنه إذا كان ذلك مع الكفار لكفروا جميعاً ، وإذا كان تلك الحال للمسلمين لا يسلمون .