Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 84-89)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } . قال بعضهم : شهيدها : أن يشهد عليهم من نحو ما ذكر من شهادة جوارحهم عليهم ، وهو قوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ … } الآية [ النور : 24 ] ، وقوله : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم … } الآية : [ فصلت : 20 ] ، وقوله : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } [ الزلزلة : 4 ] ، ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر الشهادة عليهم ؛ عند إنكارهم أعمالهم التي عملوها . وقال بعضهم : شهيدها : رسولها الذي بعث إليهم يشهد عليهم أنه قد بلغ إليهم رسالات ربهم ، وهو كقوله : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] ، والنذير : هو الرسول المبعوث إليهم ، وهو ما ذكر - أيضاً - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] ، وكقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] وقال : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } [ النحل : 89 ] . أخبر أنه يجيء بمحمد صلى الله عليه وسلم شهيداً على أولئك : أن الرسل قد بلغوا الرسالة إليهم ، وهو ما ذكر : { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ … } الآية [ المائدة : 109 ] ، وقوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } [ القصص : 65 ] : يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى قومهم ، ويسأل قومهم عما أجابوا الرسل . إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل ، والله أعلم . جميع ما ذكر في القرآن من مجيئه وإنبائه ونحوه جائز أن يكون ذلك البعث تفسير ذلك كله . قوله : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ } : كذا من ذلك ، وقوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ } [ الفجر : 22 ] ، و { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 210 ] ، وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] فهو البعث ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } . قال الحسن : لا يؤذن لهم بالاعتذار ؛ لأنه لا عذر لهم ، وهو ما قال : { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 - 36 ] ؛ لأنه لا عذر لهم ، واعتذارهم لا ينفع لهم شيئاً ؛ إذ اعتذارهم من نحو قولهم : { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] ، وقولهم : { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 31 ] ونحو هذا مما لا ينفعهم ذلك ؛ فلا يؤذن لهم بذلك . { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } . قال الحسن : ولا هم يقالون ، وكذلك قال في قوله : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } [ فصلت : 24 ] ، أي : من المقالين ، أي : لا يقالون مما كان منهم . وقال بعضهم : لا يؤذن لهم ولا يمكن لهم من التوبة والرجوع عما كانوا ؛ لأن ذلك الوقت ليس هو وقت التوبة والرجوع ، كقوله : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ } [ غافر : 84 ] ، وهذه الآية ، وقال : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ } [ غافر : 85 ] ، ونحوه . { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } العتاب في الخلق : هو تذكير ما كان من الفرط ؛ ليرجع عما كان منه ، وذلك في الآخرة لا يحتمل . ويحتمل قوله : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، أي : لا يؤذن لهم بالكلام ، كقوله : { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] ، أو : لا يؤذن للشفعاء أن يشفعوا للذين كفروا ، ويؤذن للشفعاء أن يشفعوا للمؤمنين . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلْعَذَابَ } . أي : وقعوا فيه ؛ دليله ما ذكر . { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ } . دل هذا أنه لم يرد به رؤية العذاب ؛ ولكن الوقوع فيه ؛ فلا يخفف عنهم ؛ لأنه يدوم ، ولا تخفيف مما يدوم من العذاب . { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } . أي : يمهلون من العذاب . والثاني : لا يخفف عنهم عما استحقوا واستوجبوا ، أو ما ذكرنا : أنه لا يكون لعذابهم انقطاع . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ } . قال الحسن : قوله : { شُرَكَآءَهُمْ } ، أي : قرناءهم وأولياءهم من الشياطين ، كقوله : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ … } الآية [ الصافات : 22 ] ، وكقوله : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ … } الآية [ فصلت : 25 ] ، وقوله : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] وقوله : { نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ … } الآية [ الأنعام : 22 ] . وقوله : { شُرَكَآءَهُمْ } : أولياءهم ، [ الذين ] كانوا لهم في الدنيا فهم شركاؤهم الذي ذكر . وقولهم : { هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ } ؛ على هذا التأويل : كنا ندعوك وإياهم من دونك . { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ } . أي : يقولون لهم : { إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } . وقال بعضهم قولهم : { هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ } : الأصنام التي عبدوها . { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } : أي : يكذبونهم ، وهو ما ذكر : { إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [ يونس : 29 ] ؛ يكذبونهم فيما قالوا ، ويخبرون أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم . وقال بعضهم : شركاؤهم الملائكة الذين عبدوهم ، كقوله : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } [ سبأ : 40 - 41 ] : أخبر أنهم إنما عبدوا الجن بأمرهم ولم يعبدوهم ، أو يكون شركاؤهم رؤساءهم الذين انقاد الأتباع لهم ويحتمل الأصنام وما ذكر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } . هو ما ذكرنا : يقولون لهم : إنكم لكاذبون ، أو يكذبونهم فيما يزعمون ويدعون . وقوله - عز وجل - : { وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ } . أي : يخضعون كلهم لله يومئذ ، ويخلصون له الدين ، ويسلمون له الأمر والألوهية . { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } . أي : بطل عنهم ما طمعوا بعبادتهم الأصنام والأوثان التي عبدوها من الشفاعة وغيرها ؛ كقوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] ، وقولهم : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] : بطل عنهم ما طمعوا ورجوا من عبادة أولئك من الشفاعة لهم ، والقربة إلى الله . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } . قال بعضهم : هؤلاء كانوا رؤساء الكفرة وقادتهم ضلوا هم بأنفسهم وأضلوا أتباعهم ؛ فلهم العذاب الدائم بكفرهم بأنفسهم ، وزيادة العذاب بإضلال غيرهم ، وهو كقوله : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] ، وكقوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ … } الآية [ العنكبوت : 13 ] : [ أخبر أنهم يحملون أوزارهم ] وأوزار الذين أضلوهم ومنعوهم عن الإسلام ؛ فعلى ذلك قوله : { زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ } ؛ بما أضلوا أتباعهم ، وسعوا في الأرض بالإفساد ، وهو قول أبي بكر الأصم . وقال بعضهم : إن عذابهم كلما أراد أن يفتر بنضج الجلود ، زيدت لهم - بتبديل الجلود - نارها كلما أرادت أن تخمد زيد لهم سعيراً ؛ كقوله : { بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [ النساء : 56 ] ، وقوله : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] ؛ فذلك هو الزيادة في العذاب . ويحتمل غير ذلك ، وهو أن عذاب الكفر دائم أبداً ؛ فيزداد لهم عذاباً بما كان لهم في الكفر - سوى الكفر - أعمال ومساوٍ ، كما يعفى ويتجاوز عن المؤمنين ما كان منهم من المساوي ؛ كقوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ } [ الأحقاف : 16 ] ؛ مقابل ما كان يعفى عن المؤمنين المساوي ، زيد لأهل الكفر ، على عذاب الكفر ؛ لمساويهم . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( زِدْنَهُمْ عَذَاباً ضِعْفاً بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ) ، وأصله أن جزاء الآخرة من الثواب والعذاب على المضاعفة ؛ لأنه دائم لا انقطاع له . وما ذكر من الزيادة والفوق وغيره - فهو على المضاعفة . وقوله - عز وجل - : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } . يحتمل قوله : { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } ، أي : من البشر ، ويحتمل ما ذكرنا من شهادة الجوارح عليهم . وقوله - عز وجلّ - : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } . هو ما ذكرنا : يشهد الرسول عليهم بالتبليغ ، ويشهد لمن أجابه وأطاعه ، وعلى من ردّ كذبه بالرد والتكذيب . وقوله - عز وجل - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } . يحتمل قوله : { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } : ما ذكر في هذه السورة ؛ لأنه ذكر فيها جميع أصناف النعم وجواهرها ، ووجوه الأسباب التي بها يوصل إليها ، وذكر فيها ما سخر لهم من أنواع الجواهر ، وفيه ذكر ما وعد وأوعد ، وأمر ونهي ، وذكر ما حل بالأعداء وما ظفر أولياؤه بهم . وفيه ذكر سلطانه وقدرته ، وذكر سفه الكفرة وعنادهم ، وذكر ما يؤتى ويتقى ؛ فذلك تبيان لكل شيء . أو أن يكون في الكتاب تبيان كل شيء ، وفي القرآن ما ذكرنا : من الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، وأخبار الأمم الماضية وأمثالهم ، وجميع ما يؤتى ويتقى ؛ ففيه تبيان كل شيء من الوجه الذي ذكرنا . أو أن يكون أنزل عليه الكتاب [ تبيانا ] لكل ما دعا به الرسل وجاءت به الرسل والكتب جميعاً . في هذا الكتاب جميع ما أتى به الرسل والكتب من الأمر والنهي والوعد والوعيد ، كقوله : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ] . ثم اختلف في ذلك البيان : قال بعضهم : تحتمل الآية وجهين : أحدهما : الخصوص على الأصول دون الفروع ؛ كذكر الكمال للدين ، لكن ذلك وصف الدين ، وقد يقع له الكمال بالكتاب والسنة ، وهذا للكتاب ؛ فلم يجز التقصير عن الاشتمال عما لزمت الحاجة في أمر الديانة . وذكر أن الكتاب تبيان لكل ما وقعت إليه حاجة في أصول الدين : من الإيمان ، وأنواع العبادات ، والأحكام مع الحدود والحقوق ، ومكارم الأخلاق : تنتظم صلة الرحم ، وعشرة الإخوان ، وصحبة الجيران ، ونحو ذلك ؛ فتشتمل هذه الجملة على أصول الدين ، وما وراءها يكون موكولاً إلى بيان الرسول ؛ ليفي الكتاب بما شرط له تلاوة ودلالة الوجه . والوجه الثاني : أن يكون تبياناً لكل شيء منتظماً لما فيه ، مجمله ومبهمه ومشكله ، ولبيان الرسول مجمله وتفسيره مبهمه ، وإيضاحه ، ودلالته على مشكله . وقال : والسنن كلها بيان للكتاب ؛ لارتباط بعض ببعض . ثم قد يحتمل الآيات التي فيها ذكر البيان والتفصيل وجوهاً غير الوجهين اللّذين ذكرتهما : أحدها : أنه تبيان كل شيء ظهر فيه التنازع بين أهل الأديان ، وألزمتهم الضرورة فيه إلى البيان ؛ فجعل الله الكتاب تبياناً ألزمهم بالتدبر العلم بأنه من عند الله ؛ بخروجه عما عليه وسع القوم عن نوع ما ذكر فيه من الحجج والأدلّة ، وبما أعجزهم عن الطمع في تأليف مثله ونظمه ؛ ليعرفوا أن الله قد أعانهم فيما مستهم الحاجة ، وألجأتهم الضرورة إلى من يطلعهم على الحق فيما لو أهملوا عن ذلك لتولد منه العداوة والعناد ؛ فأنعم الله عليهم به ، وبين فيه جميع ما بين إليه من الحاجة لدوام الأخوة . والثاني : أن يكون فيه تبيان كل شيء بالطلب من عنده ، وبالبحث فيه الظفر بكل ما ينزل بهم من الحاجات إلى الأبد ؛ فيكون هو أصل ذلك . لكن باختلاف الأسباب يوصل إلى حقيقة العلم به ، وذلك نحو ما جعل الماء حياة لكل شيء ووصف أن في السماء رزق جميع الخلق ؛ [ فأخبر أنه ] أنزل من السماء اللّباس والرياش [ لكل شيء ] ، وأخبر أنه خلقنا من تراب ، ثم أخبر أنه خلقنا جميعاً من نفس واحدة ؛ على رجوع كل ما ذكر باختلاف الأسباب والتوالد إليه ، والله أعلم . وذلك كما قال أهل الكلام في جعل المحسوسات أدلة لكل غائب : جعلها الله أدلة توصل إليه بالتأمل والنظر فيكون المحسوس مبيناً من ذلك ، وإلا على اختلاف الدرجات في حد البيان مع ما قد جعله الله كذلك ، حتى إن في الفلاسفة من تكلف استخراج كلية أمور العالم العلوي والسفلي . وما على ذلك مدار ما عليه من هذا المحسوس ؛ فمثله أمر القرآن ، والله الموفق . والثالث : أن يكون فيه بيان على الرمز والإشارة مرة ، وعلى الكشف ثانياً ؛ فما كان منه على الرمز فهو مطلوب في المعاني وطريق الرسول إلى ما في تلك المعاني من الأمور المختلفة : منها ما يقع بمعونة الوحي من غير الكتاب على اختلاف وجوه الوحي من إرسال على لسان ملك ، أو رؤيا ، أو إلهام . والتأمل في ذلك ، أو الاستدلال بما قد أوضحه بعد توفيق الله للحق في ذلك وعصمته عن الزيغ . أو على ما شاء من ترتيب الحكماء في حق التفاهم لغوامض الأمور ، أو غير ذلك مما يريد الله أن يطلع عليه نبيّه ؛ فإن لطف ربّ العالمين بما عامل به الأخيار يجل عن احتمال العبارة عنه أو تصويره في الأوهام ، نحو كتابة الحفظة ، وقبض ملك الموت أرواح الخلق في وقت واحد في أطراف الأرض ، ونحو ذلك ، وذلك كله حدّ اللّطف الذي يعجز البشر عن الإحاطة ؛ فعلى ذلك أمر تبيان كل شيء مع ما يحتمل بتأويل الآية إلى أغلب الأمور وأعمها ، كقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] ، وغيره ، ولا قوة إلا بالله . والأصل عندنا : أن ليس للبيان عدد يجب حفظ العدد ، على ما ذكره قوم : أنه على خمسة أوجه ؛ إنما هو أمران : أحدهما : ما يبين هو . والثاني : ما يبين غيره ، لكن الوجه الذي به يقع ما غاب عن الحواس بالبيان أصله الواقع تحت الحواس ؛ إذ البين الذين من جحده حرم أوّل درجات البيان [ ومنع ] عن فهم المجحود عنه ؛ إذ الجحود يكفي كلاًّ مؤمنة خصومته ، ثم غيره مما يصير بالتأمّل على الوجوه التي جعلت للوصول إليه ، وإن بعد أو قرب بدليله كالمحسوس ؛ إذ التأمل في الأسباب هو سبب الوصول إلى ما غاب ، كاستعمال الحواس فيما يشهد ؛ فمن أراد القطع على حد أو شيء يحتاج إلى دليل فيه . وأصل البيان - حقيقة - هو الظهور ، وأسباب إظهار الأشياء متفاوتة ، وعلى ذلك مقاديرها من الظهور ، وجملته ارتفاع التواتر عن القلوب ، وتجلي حقائق الأمور لها ؛ على قدر العقول في الإدراك وما يتجلى للقلوب على مقدار ما يحتمل من الظهور . وقوله - عز وجل - : { وَهُدًى وَرَحْمَةً } . يجب أن يكون قوله : { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ، وقوله : { وَهُدًى وَرَحْمَةً } - كله واحد الرحمة والهدى والبيان ، وبرحمته وبهداه يتبين لهم ويتضح ، لكنهم قالوا : البيان للناس كافة يبين ويتضح إلا من عاند وكابر ، والهدى والرحمة للمؤمنين خاصّة ؛ على ما ذكر وهدى [ ورحمة ] وبشرى للمسلمين ؛ ذلك للمسلمين خاصّة ، والله أعلم .