Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 90-97)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ … } إلى آخر ما ذكر . قال الحسن : قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } فيما بين الناس ، أي : يأمر بالحكم فيها بينهم بالعدل ، { وَٱلإحْسَانِ } : هو ما كلفهم بالطاعة له ، أو أن يكون الأمر بالإحسان إلى أنفسهم أو إلى الناس ، وجَائز أن يكون الأمر بالعدل فيما بينه وبين الله ، والإحسان فيما بينه وبين الخلق ، أي : يعامل ربه بالعدل ؛ لأن العدل هو وضع الشيء موضعه ، وهو لا يقدر على المجاوزة عن العدل حتى يكون في حد الإحسان فيما بينه وبين ربه ، ويقدر أن يصنع إلى خلقه أكثر مما يصنعون هم إليه ؛ فيكون محسناً إليهم ، وأما إلى الله فلا يكون محسناً . { وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } . أي : إعطاء ذي القربى الصدقة من غير الزكاة المفروضة . { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ } . هي المعاصي ، أي : نهى عن المعاصي كلها . وقال أبو بكر الأصم : { يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } ، أي : بالحق الذي له عليهم ، والإحسان : هو ما تعبدهم من العبادات والطاعات التي جعل بسبب عطف بعضهم على بعض . { وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } . صلة القرابة والأرحام . { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ } . قال ابن عباس ومقاتل وقتادة وهؤلاء : قوله : { يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } : بالتوحيد ، { وَٱلإحْسَانِ } ، أي : أداء الفرائض ، وهو قول ابن عباس وقتادة . وقال مقاتل : قوله : { وَٱلإحْسَانِ } : هو فيما بينهم ، يحسن بعضهم إلى بعض ، { وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } : صلة الأرحام ، { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ } ، أي : الزنى ، { وَٱلْمُنْكَرِ } ، أي : السكر ، { وَٱلْبَغْيِ } مظالم الناس . وقال بعضهم : المنكر : ما لا يعرف في الشرائع والسنن . ويقال : المنكر : ما أوعد الله عليه النار ، والبغي : الاستطالة ، والظلم ، ثم يجب [ أن نقرر ] حقيقة العدل : ما هو ؟ فهو - والله أعلم - : وضع كل شيء موضعه ؛ فيدخل فيه كل شيء : التوحيد وغيره ؛ بجعل الربوبيّة والألوهيةِ لله لا شريك فيها غيره ، ولا يصرفها إلى غيْره ، ولا يضيف ، بل ينسب الرّبوبيّة والألوهية إلى الله ، والعبودية إلى العباد ، ولا يضاف العبودية إلى الله ، ولا الربوبية والألوهية إلى العباد ؛ فذلك العدل ووضع كل شيء موضعه : الربوبية في موضعها ، والعبودية في موضعها ، هذا - والله أعلم - معنى العدل . وأمّا الإحسان : فهو ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن جبريل سأله عن الإحسانِ حين سأله عن الإيمان والإسلام ؛ فقال ما الإحسان ؟ فقال : " أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأنَّكَ تَراهُ ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " ومن يعمل لآخر بحيث يراه وينظر إليه يكون أبداً طالب رضاه في ذلك العمل ، وإخلاصه له وطلب مرضاته فيه ؛ فهو يحتمل وجوهاً ثلاثة - أعني الإحسان - : أحدها : ما ذكر أنه يعمل له كأنه يراه ، وذلك فيما بينه وبين ربه . والثاني : فيما بينه وبين الخلق ، وهو أن يحب لهم كما يحب لنفسه فيما أذن له في ذلك ، أو نقول على الإطلاق يحب لهم كما يحب لنفسه . فإن عورض بالقتال والحروب التي بيننا وبين أهل الحرب ، وذلك بالذي لا نحب لأنفسنا ونحب لهم - قيل : في ذلك طلب نجاتهم وتخليصهم من الهلاك والعذاب الدائم الأبدي ، وذلك ما نحبه نحن لأنفسنا : أن يسعى أحد في نجاة أحدنا من المهلكة ؛ ألا ترى أنه قال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] وليس [ في القتال ] في الظاهر رحمة ، لكن في الحقيقة رحمةٌ ، حيث يحملهم القتال على الإسلام ؛ إذ كان قبل نصب القتال والحروب معهم لم يسلم إلا قليل منهم ؛ فلما نصب الحروب معهم والقتال دخلوا في الإسلام أفواجاً أفواجاً ؛ فصار ذلك في الحقيقة رحمة ، وإن كان في رأي العين في الظاهر ليس برحمة . وكذلك هذه المصائب والبلايا التي تحل بالخلق ، هي في الحقيقة نعمة ورحمة ؛ ولذلك عدها وسماها بعض الناس ؛ لما تعقب من الثواب والنعمة إذا صبر عليها ، ورأى ذلك منه حقّاً وعدلاً ، ورأى حال الضراء والسراء منه ؛ فهو بطيب نفسه في جميع الأحوال تنصرف به من الشدة والضيق ، فإذا رأى نعمة ، لما تعقب من الخير والنفع في العاقبة - فمن هذه الجهة يجوز أن يقال : ذلك نعمة ورحمة ، وأمّا في ظاهر الحال فلا ؛ وذلك أن كل بلاء ينزل بأحدٍ ، فصبر عليهِ كان في ذلك خصال أربعة : أحدها : تكفير ما كان ارتكب من المعاصي . والثاني : معرفة العبودة وملك غيره عليه . والثالث : ما يعقب من الثواب والنعيم الدائم . والرابع : معرفة النعم من الشدة ؛ [ لأنه بالشدة ] يعرف النعم . وأمّا الإحسان إلى نفسه : فهو أن يحفظها عما فيه هلاكها . وقوله : { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ } . هو ما يكبر ويفحش من الشيء . { وَٱلْمُنْكَرِ } . هو الشيء الغريب الذي لا يعرف ؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم : { سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [ الذاريات : 25 ] ؛ سماهم منكرين لما لم يعرفهم ؛ فالمنكر : ما يفعل من هو معروف بالخير والصلاح من الزلات لما يكون ذلك منهم غريباً ؛ إذ لم يعرفوا بذلك ، فذلك منهم [ منكر ] . { وَٱلْفَحْشَآءِ } . ما يكون من أهل الفساد والشرور ، وذلك مما يكبر ويفحش ذلك منهم . { وَٱلْبَغْيِ } . هو الظلم ، ويحتمل أن يكون هذا كله المنكر والفحشاء والبغي وكله واحد : الفحشاء هو المنكر ، والفحشاء هي البغي ، والمنكر هو الفحشاء والبغي ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَعِظُكُمْ } . قال بعضهم : أي : ينهاكم عما ذكر كله . { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . وتنتهون عنه ، وقال بعضهم : الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية ، وتصرفها إلى طاعة الله ، وقد ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } . يحتمل أمره بوفاء العهد ، العهود التي يُعطي بعضهم لبعض ، أمرهم بوفاء ذلك ، ونهاهم عن نقضها ، ويلزمهم وفاء عهد الله وإن لم يعاهدوا في ذلك ، لكنه ذكر وفاء العهد إذا عاهدوا ونهى عن النقض ؛ لأن ترك وفاء ما عاهدوا ، ونقض ما أعطوا على ذلك شرطاً أقبح وأفحش مما لم يعاهدوا ، وهو كقوله : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ المائدة : 7 ] ؛ ترك الوفاء ونقضه بعد قولهم : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ المائدة : 7 ] : أفحش ، وأفحش من نقضه إذا لم يكن لهم عهد سابق وشرط متقدم ، وهذا - والله أعلم - معنى أمره بوفاء العهد إذا عاهدوا ، وإن كان وفاء العهد لازماً لهم ، وإن لم يعاهدوا ؛ إذ جعل الله البشر بحيث يقبلون الحكمة والمحنة ، وجعل بنيتهم وخلقتهم بحيث يقدرون على القيام بذلك ، كقوله : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا … } الآية [ الأحزاب : 72 ] ، أي : أبي خلقتهم وبنيتهم ، أي : لم يجعل خلقة هذه الأشياء وبنيتها [ بحيث ] تحتمل ذلك ، { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [ الأحزاب : 72 ] ، أي خلقته وبنيته تحتمل ذلك والقيام بها ، وتحتمل أن تكون العهود التي أمر بوفائها إذا عاهدوا على الأيمان التي يقيمون بها ، حيث قال : { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } : ذكر الأيمان ونهى عن نقضها ، ثم لا يحتمل أن يكون النهي عن النقض في الأيمان التي يأثم بها المرء إذا حلف ؛ لأنه نهى عن نقضها ، ولو كان يأثم بعقدها لكان لا ينهى عن نقضها ؛ لأن الأيمان التي يأثم بها المرء إذا حلف [ يؤمر ] بنقضها أو لا يؤمر بوفائها وحفظها ، ثم ذكر فيه بعد توكيدها ، ولم يسغ نقض اليمين ، وإن لم يؤكدها إذا لم يكن في الوفاء بها إثم ، لكنه ذكر التوكيد ؛ لأن النقض بعد ذلك أقبح وأفحش من النقض على غير التوكيد ؛ على ما ذكر من القبح والفحش في بعض العهود بعد ما عاهدوا . وقال بعضهم : قوله : { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } هو حَلِفُهم بالله ؛ لأن مشركي العرب كانوا لا يقسمون بالله إلا ما يعظم من الأمر ويجل ، وذلك آخر أقسامهم ؛ ولذلك قال بعض أهل التأويل في قوله : { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } [ فاطر : 42 ] : يقول : جهد أيمانهم هو قسمهم بالله . وقوله - عز وجل - : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } . قيل : كانوا يحلفون فيما بينهم على جعل الله كفيلاً عليهم ، وقيل : الكفيل : هو الشهيد الحافظ ، وهكذا يؤخذ الكفيل فيما يؤخذ ؛ ليحفظ المال أو النفس . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } . من الوفاء بما عاهدوا أو النقض ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ } . اختلف في تأويل الآية : قال بعضهم : الآية نزلت في مخالفة أهل الكفر بعضهم بعضاً ، وهو أن يرث بعضهم بعضاً ، وينصر ويعين بعضهم بعضاً ، ويحلفون على ذلك ويقسمون ؛ فإن هلكوا في ذلك - أي : في نصر بعضهم بعضاً [ وإعانة بعضهم بعضا ] - ثم إذا رأوا الكثرة والغلبة مع غير الذين خالفوهم - نقضوا ذلك ، ورجعوا إلى الذين معهم الكثرة والغلبة ؛ فنهوا عن ذلك . وقال بعضهم : الآية في الذين يكونون بعد رسول الله وأصحابه لما علم أنه يكون خوارج وأهل اختلاف في الدّين ، فربما كانت الكثرة والغلبة لهم على أهل العدل ؛ فنهى من عاهد أهل العدل وبايعهم - أن يترك بكثرتهم وغلبتهم الكون مع أهل العدل ، وإعانتهم ، ونقض ما عاهدوا ؛ ولذلك قال : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ } . وقال : هذا يدل أنه في أهل الإسلام . وقال بعضهم : الآية في أهل النفاق ؛ أنهم كانوا يقسمون بالله إنهم ينصرون رسول الله وأصحابه ، ويقولون : إنا معكم ، كقوله : { وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ … } الآية [ التوبة : 56 ] كانوا يُرُون من أنفسهم الموافقة لهم ، والنصر ، والعون لهم على أعدائهم ويحلفون على ذلك ، ثم إذا رأوا الكثرة مع الكفرة والغلبة ، وقلة المؤمنين - تحولوا إلى أولئك ، ونقضوا أيمانهم ، وكانوا معهم ، كقوله : { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ … } الآية [ النساء : 141 ] . ويحتمل قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ … } أي : لا تكونوا في نقض العهود والمواثيق كالمرأة التي تنقض غزلها من بعد قوة ، وجائز أن يكون غير هذا . يقول : ولا تظنوا في الله أن يكون في إنشاء الخلق كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ؛ فلو لم يكن بعث لكان يكون في إنشاء الخلق كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، وقد عرفتم قبح ذلك ؛ فعلى ذلك : إنشاء الخلق إذا لم يكن بعث يكون في القبح ما ذكر . ثم ضرب الله مثل من أعطى العهد والمواثيق ووكد الأيمان في ذلك ، ثم نقض ذلك بامرأة تغزل ثم تنقض ذلك الغزل من بعد قوة أنكاثاً ؛ يقول - والله أعلم - : كما لم تنتفع هذه المرأة بغزلها إذا نقضته من بعد إبرامها إياه ؛ كذلك لا ينتفع ولا يوثق بمن أعطى العهد ، ثم نقضه . يقول : فلا هي تركت الغزل تنتفع به ، ولا هي تركت القطن والكتان كما هو ؛ فكذلك الذي يعطي العهد ثم ينقضه فلا هو حين أعطاه وفي به ، ولا هو ترك [ العهد ] فلم يعطه ونحوه . ثم اختلف في تلك المرأة : قال بعضهم : هي امرأة من قريش حمقاء بمكة ، كانت إذا غزلت نقضته . وقال بعضهم : هذا على التمثيل ؛ يقول - والله أعلم - : أي لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه - لقلتم : ما أحمق هذه ! ! فعلى ذلك من أعطى العهد والميثاق ، ثم نقض - فهو كذلك . وقوله - عز وجل - : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } . قال أبو بكر الأصم : الدخل : الذي لا يصحّ ولا يستقيم ؛ يقال : هذا مدخول ، أي : غير صحيح . وقال غيره : { دَخَلاً } ، أي : خديعة ومكراً يخدع بعضكم بعضاً ، وهو قول أبي عوسجة أيضاً . وقال القتبي : { دَخَلاً بَيْنَكُمْ } ، أي : خيانة ودغلاً بينكم . { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } . أي : فريق . { أَرْبَىٰ } . من فريق . وقال أبو عوسجة : { أَنكَاثاً } : هي جمع " نِكْثٍ " ، والنكث - من الحبل - خيوط تنكث ثم تطرق وتصير صوفاً ، ثم من بعد ذلك تفتل . قال : والمِطْرَق : قضيب يضرب به الصوف حتى ينفش ويلين كما يُنْدَف القطن ، يقال : طرقت الصوف - أطرقه طرقاً - أي : ضربته ، ويقال : نفشته - أنفشه نفشاً - أي : فرقت بينه فتفرق ، ومنه قوله : { كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] . ويقال : حبل مَثْنِي : إذا كان طاقين ، ومثلوث ، ومربوع ، ومخموس ومسدوس [ ومسبوع ] ومثمون ومتسوع ، ومعشور . وقال القتبي : الأنكاث : ما نقض من غزل الشعر وغيره ، واحدها : نكث . يقول : لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان والعهود ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا ؛ فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ثم نقضت ذلك فجعلته أنكاثاً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } . قال الحسن : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } المشيئة - هاهنا - مشيئة القهر والقسر ، أي : لو شاء لجبرهم وقهرهم على الإيمان فآمنوا جميعاً . فهذا فاسد ؛ لأنه لا يكون بالقهر والجبر إيمان ؛ لأنه لا صنع للعبد في حال القهر والجبر ؛ فيبطل تأويله ؛ إذ لا يجوز أن يثبت إيمان في تلك الحال . وقال أبو بكر : تأويله قوله : لو شاء لأنزل لهم آية حتى يؤمنوا جميعاً بتلك الآية ، كقوله : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] : أخبر أنه لو أنزل آية [ يكونون ] لها خاضعين ، لكن عندنا أنهم ليسوا يؤمنون ويخضعون للآية ، ولكن بما شاء لهم ذلك ، ولا يحتمل أن تحملهم الآية على الإيمان ، شاءوا أو أبوا ؛ ألا ترى أنهم يكذبون يوم الحشر عند معاينتهم الآيات ، وهو قوله : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ } إلى قوله : { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 22 - 23 ] : أخبر أنهم يكذبون وقد عاينوا الآيات ، وليست الآية التي تنزل عليهم في الدنيا بأعظم من الآيات التي يعاينونها يوم القيامة ، ثم لم يمنعهم ذلك عن الكذب ؛ دلّ أن الآية ليست تحملهم على الإيمان ، ولا تضطرهم عليه ، ولكن لو شاء لآمنوا بالاختيار فيبطل تأويله . ثم الآية تحتمل عندنا وجهين : أحدهما : قوله : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } بظاهر السبب الذي إذا أعطاهم لآمنوا له ، { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً … } الآية [ الزخرف : 33 ] : أخبر أنه لو ما يرغب الناس في الكفر فيكونون كفاراً كلهم ، وإلا جعل سقف أهل الكفر ومعارجهم من فضة ؛ فلو أنه جعل ذلك بعينه لأهل الإسلام وفي أيديهم لآمنوا - أيضاً - كلهم ؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ذلك في أيدي الكفرة ؛ فيحمل أهل الإسلام على الكفر ، وإذا كان ذلك بعينه لأهل الإسلام - لا يحمل أهل الكفر على ترك الكفر والدخول في الإسلام . والوجه الثاني : لو شاء لجعلهم أمّة واحدة بلطف منه : يشرح صدره للإسلام من غير أن يعلم أن أحداً ألقى ذلك في قلبه ، من نحو ما مكّن للشيطان عدو الله ؛ حتى يقذف في قلوب الخلق ويلقي وساوس ، من غير أن يعلموا أن أحداً دعا إلى ذلك وألقى إلى قلوبهم ؛ ألا ترى أن إبليس لما وسوس إلى آدم - عليه السلام - ليتناول من الشجرة التي نهى عنها ربّه لو علم أنه إبليس لما أجابه ؛ وكذلك ما مكن للملائكة من تثبيت قلوب الذين آمنوا ، وإلقاء أشياء في قلوبهم ، ويلهمونهم ، وهو قوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ الأنفال : 12 ] من غير أن يعلموا [ أنَّ ] أحداً دعاهم إلى ذلك ، أو ألقى أحد ذلك في قلوبهم ؛ فمن ملك تمكين عدوه وملائكته على ما ذكرنا يملك شرح الصّدر للإسلام والدعاء إلى ذلك من غير أن يعلموا أن أحداً فعل ذلك . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } . على قول الحسن : على الحكم لذلك . وقال أبو بكر الأصم : يضل بالنهي من نهى ، ويهدي بالأمر . لكن هذا فاسد ؛ لأنه لو كان بالنهي مضلاًّ وبالأمر هادياً - لكان مضلاًّ للأنبياء والرسل ؛ لأنه قد نهاهم بمناهٍ ؛ فيكون مضلاًّ لهم . فإن قيل : لم يصر ما ذكرت ؛ لأنهم لم يرتكبوا المناهي - قيل : الارتكاب فعلهم ؛ فلا يحتمل أن يكون بفعلهم ذلك ؛ فدل أن ما ذكرنا فاسد ، وعلى قولهم يكون بالنهي عاصياً مضلاًّ ، وعندنا قوله : { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } أي : يخلق فعل الضلال منهم ، أو يضل من علم أنه يختار الضلال على الهدى ويخذلهم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . هو ظاهر . وقوله : { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } . قد ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } . قال أبو بكر : دلّ قوله : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } أن الآيات التي تقدم ذكرها في أهل الإسلام ؛ لأنه أخبر أنه تزل قدم بعد ثبوتها ، وهو الكفر بعد الإسلام . وعندنا هو ما ذكرنا أن قوله : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ } بالخوف ، { بَعْدَ ثُبُوتِهَا } أي : بعدما كانوا آمنين ؛ لأنهم بأيمانهم كانوا يأمنون ، وبنقضهم العهود والأيمان يخافون ، فيكون قوله : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ } كناية عن الخوف ، والثبوت كناية عن الأمن ، أي صاروا خائفين بنقضهم العهود والأيمان بعدما كانوا آمنين [ بها ] ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } . على هذا التأويل : يذوقون ذلك في الدنيا ؛ بالقتل والقهر ، ويحتمل في الآخرة ؛ بما صدّوا الناس عن دين الله ، واستبدلوا به الكفر بعد الإيمان . { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وقوله - عزّ وجل - : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } . قال بعضهم : عهد الله : دين الله . وقال بعضهم : عهد الله الذي عهد إليهم . ويحتمل عهد الله : ما أعطوا من العهد والأيمان ، أي : ينقضوها بشيء يسير ؛ إنما عند الله هو خير لكم دائم باقٍ ، وهذا زائِل فانٍ ، أو ما يجزي بوفاء ما عهدوا خير لكم من هذا ، أي : يجزيكم بوفاء ما ذكر من العهد - خير لكم من غيره ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } . أي : ما أخذتم من الأموال واكتسبتم بنقض العهود والأيمان ينفد ويفنى ، وما عند الله من الجزاء والثواب بوفاء العهد باقٍ . { وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ } . يحتمل قوله : { صَبَرُوۤاْ } على ما أمروا به ، ونهوا عنه ، وصبروا على وفاء العهد . { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . يحتمل قوله : { بِأَحْسَنِ } ، أي : الجزاء الذي يجزيهم على الصّبر أحسن من وفاء العهد ، أو يجزيهم بأحسن ما عملوا ، أي : يجعل سيئاتهم حسنات ؛ كقوله : { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] ، وقوْله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } [ الأحقاف : 16 ] ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجل - : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } . اختلف أهل التأويل [ في قوله ] : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } : قال بعضهم : قوله : { حَيَاةً طَيِّبَةً } في الآخرة ، وهي الجنة . وقال بعضهم : { حَيَاةً طَيِّبَةً } في الدنيا . فمن قال : الحياة الطيبة هي الجنّة ، في الآخرة ، يكون تأويله : من يكن عمله في الدنيا صالحاً فليحيينه الله في الآخرة حياة طيبة ؛ وإلا ظاهر قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً } إنما هو على عمل واحد ، وكذلك قوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] : ظاهره على حسنة واحدة ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا : من يكن عمله في الدنيا صالحاً فيفعل ما ذكر . وقوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ، أي : ما تؤتينا في الدنيا آتنا حسنة ، أو أن يكون على الختم به ، أي : من ختم بالعمل الصالح فيحييه الله حياة طيبة في الجنة ، كقوله : من جاء بالحسنة فله كذا . وقال الحسن : الحياة الطيبة هي الجنة ؛ لأن في الدنيا ما ينغص حياته . وقال بعضهم : الحياة الطيبة في الدنيا ؛ فتأويله : من يكن همه وجهده في الدنيا العمل الصالح فلنحيينّه حياة [ طيبة ] ، أي : نوفقه ونيسّره الخيرات والعمل الصالح والطاعات ، وهو ما روي أنه قال : " كُلُّ مُيَسّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " ، وكقوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } [ الليل : 5 - 7 ] ، وكقوله : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] ونحوه ؛ فذلك هو الحياة الطيّبة في الدنيا ؛ حيث يسّر عليه العمل الصالح ، ووفق للطاعات والخيرات . وقال بعضهم : قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } ، أي : قنع في الدنيا بما قسم الله له ورزقه ، ورضي به ، { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } مما أزال عنه هم طلب الفضل ، وغمهُ ، وذلّه وحرصه عليه ؛ لأن أكثر هموم الناس في الدنيا وذلهم ؛ لما لم يرضوا بما قسم الله لهم ، ولم يقنعوا به ؛ فهو يحيا حياة طيّبة لما عصم من ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } . أي : في الآخرة . { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . على تأويل من قال : الحياة الطيّبة في الدّنيا . وقال بعضهم - وهو قول أبي بكر - : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } : في الدنيا ، ما ذكر هؤلاء . وقال بعضهم : { حَيَاةً طَيِّبَةً } الرزق الحلال . وقوله : { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } : وقد ذكرنا .