Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 15-17)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عزّ وجلّ - : { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ } . أي : من اهتدى إلى ما جعل الله عليه من أنواع النعم ، وقام بأداء شكرها فإنما فعل ذلك لنفسه ؛ لأنه هو المنتفع به . أو يقول : من اختار الهدى وأجابه إلى ما دعاه مولاه فإنّما يهتدي لنفسه ، أي : فإنّما اختار ذلك لنفسه ؛ لأنه هو المنتفع به وهو الساعي في فكاك رقبته . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَمَن ضَلَّ } . أي : من ضلّ ، أي : من اختار الضلال { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ، أي : فإنما يرجع عليها ضرره ، وهو ما ذكر : { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] . وقوله : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } . وقوله : { وَمَن ضَلَّ } عن ذلك { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } . أي : إلى نفسه يرجع ضرر ضلاله على نفسه ؛ كقوله : { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } [ النمل : 40 ] . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } . هو ما ذكرنا ، أي : لا تحمل نفسٌ خطيئةَ أخرى ، ولا تأثم بوزر أخرى ، والله أعلم ؛ ذكر هذا ليعلم أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا ؛ لأن في الدنيا قد يؤخذ نفس مكان أخرى ، ويحتمل نفس مؤمنة أخرى ، وفي الآخرة لا تؤخذ [ نفس ] بدل أخرى . والثاني : قد يتبرع بعض عن بعض بتحمل المؤُنات والقيام في فكاكها ، وأمّا في الآخرة فلا يتبرع بذلك . وقوله - عز وجلّ - : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } . يحتمل : ما كنا معذِّبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه - ودفعها عن الحجج - من كل وجه ، وبعد تمامها ، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث الرسل ؛ ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه ، أو أن يكون قوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } إفضالاً منه ورحمة ، وإن كان العذاب قد يلزمهم ، والحجة قد قامت عليهم ، والعذاب الذي كانوا [ يعذبونهم في ] الدنيا ليس هو عذاب الكفر ؛ لأن عذاب الكفر دائم أبداً لا انقطاع له ، وهذا مما ينقطع وينفصل ، لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات ، وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبداً لا ينقطع . وفي الآية دلالة أن حجة التوحيد قد لزمتهم وقامت عليهم بالعقل ، حيث قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } ؛ فلو لم تلزمهم لكان الرسل إذا دعوهم إلى ذلك يقولون : من أنتم ومن بعثكم إلينا ؟ فإذا لم يكن لهم هذا الاحتجاج دل أن الحجة قد قامت عليهم ، لكن الله بفضله أراد أن يدفع الشبه عنهم ويقطع عنهم عذرهم برسول يبعث إليهم ؛ لما أن أسباب العلم بالأمور ثلاثة : فمنها ما يعلم بظاهر الحواس بالبديهة ، ومنها ما يفهم [ ويعلم ] بالتأمل والنظر ، ومنها ما لا يعلم إلا بالتعليم والتنبيه . وقال القتبي : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } وهو ما ذكرنا ، أي : نخرج بذلك العمل كتاباً . وقال أبو عوسجة : أي نكتب ما عمل ثم نقلده في عنقه فيجيء به يوم القيامة . وقال أبو عبيدة : طائره حظه . وقال غيره من المفسّرين : ما عمل من خير وشر ألزمناه عنقه . قال القتبي : وهذان المعنيان يحتاجان إلى بيان . والمعنى فيما أرى - والله أعلم - أن لكل امرئ حظّاً من الخير والشر قد قضاه الله ؛ فهو لازم عنقه ، والعرب تقول : إن كل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه ، وهو لازم طائر في عنقه ، وهذا لك عليّ وفي عنقي حتى أخرج منه ؛ وإنما قيل للحظ من الخير والشر : طائر ؛ لقول العرب ما ذكرنا : جرى له الطائر بكذا من الخير ، وجرى له الطائر بكذا من الشر ؛ على وجه الفأل والطيرة على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سبباً ، وهو ما ذكر . وقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } . التعذيب يكون على وجوه ثلاثة : أحدها : يعذبهم في الدنيا ابتداء بتعذيب ؛ امتحاناً وابتلاء بلا جريمة كانت منهم ؛ كقوله : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، وقوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [ الأعراف : 168 ] ، ونحوه ؛ فيكون تنبيهاً وتذكيراً لهم لا تكفيراً . والثاني : يعذب تعذيب العناد والمكابرة ، وهو تعذيب إهلاكِ استئصالٍ ؛ فهو عقوبة لهم ، وموعظة للمتقين ، وعبرة لغيره ، وهو الذي يأتي على أثر وعيد . والثالث : عذاب الموعود في الآخرة ؛ يقول : وما كنا معذِّبين في الآخرة حتى نبعث رسولاً في الدنيا . والأشبه أن يكون ما ذكر من التعذيب هو تعذيب استئصال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } . بالتخفيف ، والتثقيل : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } ، ثم من قال { أَمَرْنَا } بالتثقيل يحتمل وجهين : أحدهما : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } من الإمارة والتسليط عليهم ، أي : أمرنا عليهم وسلطنا مترفيها ، أي : أكثرنا عددهم وسلطنا مترفيها فُسَّاقَهَا ومستكبريها . والثاني : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } ، أي : أكثرنا عددهم ومُنَعَّمِيهم ؛ يذكر لهم هذا لقولهم : { وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ … } الآية [ الزخرف : 23 ] ، وقولهم : { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً … } الآية [ سبأ : 35 ] : كانوا يزعمون أنهم لا يعذبون ؛ لأنهم قد أنعموا في هذه الدّنيا وأكثروا أموالهم وأولادهم ؛ فأخبرهم - عز وجل - أنه ما أهلك من الأمم الخالية إلا بعد ما كثر عددهم ووسع عليهم الدنيا ، لم يهلكوا في حال القلة والضيق ؛ كقوله : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ } [ الأعراف : 95 ] ، أي : كثروا ، وقوله : { حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] : لم يأخذ بالعذاب الأمم الخالية إلا في حال كثرتهم وأمنهم وغِرَّتهم بالسَّعَة ؛ يحذر هؤلاء ؛ لئلا يغتروا بكثرة أموالهم وأولادهم وعددهم . ومن قال : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } بالتخفيف هو من الأمر ، أي : أمرنا عظماءهم وكبراءهم طاعة الرسل والإجابة إلى ما دعاهم إليه ، حتى إذا عصوا رسله وتركوا إجابتهم - على العناد والمكابرة - فعند ذلك يهلكون ؛ لما ذكرنا أنه لم يستأصل الأمم الخالية إلاّ بعد عنادهم في آيات الله ، ومكابرتهم في دفعها وتكذيبها ، لا يهلكهم في أول ما كذبوا آيات الله وخالفوا رسله . وقوله : { مُتْرَفِيهَا } ، قال بعضهم : المترف : المنعَّم ، وقال بعضهم : المترف : المكرم والمستكبر ، وكله واحد . وفي قوله : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً } دلالة أن الإرادة غير المراد ؛ لأنه أخبر بتقدم الإرادة عن وقت الإهلاك ؛ دل أنها غيره ، وفيه أنه أراد السبب الذي به يهلكون ، وهو التكذيب والعناد ؛ لما علم منهم أنهم يختارون ذلك ؛ إذ لا يحتمل أن يريد هلاكهم ، وهو يعلم منهم غير سبب الهلاك ؛ فهذا يرد قول المعتزلة : إن الإرادة هي المراد ، وأنه لم يرد ما كان منهم من سبب الهلاك ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } . بما أراد إهلاكهم وجب عليهم ، أو يكون قوله : { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } بما أخبر عن الأمم الخالية ، وهو قوله : { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ … } الآية [ الأحزاب : 38 ، 62 ] . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } . أي : أهلكناهم إهلاكاً . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } . يحتمل أن يكون الخبير والبصير واحداً ، ويشبه أن يكون بينهما فرق ؛ الخبير : العالم بأعمالهم ، والبصير بمصالحهم ومعاشهم وبجزائهم ؛ يقال : فلان بصير في أمر كذا ، وفلان أبصر من فلان . ويحتمل أن يكون بذنوب عباده ، وهو مكرهم الذي كانوا يمكرون برسول الله ؛ فقال : وكفى بمكرهم الذي يمكرون بك .