Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 18-22)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } . يحتمل هذا وجهين : أحدهما : أنهم كانوا يعملون بأعمالهم الحسنة في حال كفرهم من نحو الإنفاق والصّدقات وبذل الأموال ، وغير ذلك - يريدون بذلك العز والشرف والذكر في الدنيا ؛ فأخبر أنه من أراد بما يفعل ذلك { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } . والثاني : يكون قوله : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ } ، أي : لا يريد بها إلا جمع الأموال وسعتها { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } ، ثم أخبر أنه لا كل من أرادها يعجل له ذلك ، ولا كل ما أراد يعجل له ذلك ؛ ولكن إنما يعجل ما أراد الله ولمن أراد شيئاً يعطي له ذلك ، وثم أخبر عما يعطي في الآخرة من أراد العاجلة فقال : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } . أي : مذموماً : يسمّى بأسماء قبيحة دنية مذمومة عند الخلق ، أو يذم ويلام في النار ، { مَّدْحُوراً } : مطروداً من الأسماء الحسنى ومن الخيرات ، أو مبعداً عن رحمته . وقوله : { مَذْمُوماً } : عند نفسه ، أي : يذم نفسه يومئذ ، أو مذموماً عند الملائكة والخلق جميعاً . وفي قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ } وجهان : أحدهما : يحتمل أن يكون أراد بإهلاكه إياهم موتهم بآجالهم . يقول : هم كانوا عدداً قليلاً زمن نوح ، ثم كثروا حتى صاروا قروناً ، ثم ماتوا حتى لم يبق منهم أحد . ويحتمل أن يكون الإهلاك - هاهنا - إهلاك استئصال : فهو يخرج على وجهين : أحدهما : أنه قد استووا في هذه الدنيا - أعني العدو والولي - وفي الحكمة : التمييز بينهما والتفريق ؛ فلا بد من دار يفَرَّق بينهما فيها ويميز . والثاني : قد هلكوا جميعاً ، وفي العقل والحكمة إنشاء الخلق للإفناء خاصّة بلا عاقبةٍ تقصد - عبثٌ باطل ؛ فدل أن هنالك داراً أخرى هي المقصودة حتى صار خلق هؤلاء حكمة ، وفيه إلزام البعث . وقوله - عز وجل - : { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . تفسير قوله : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } ؛ كأنه قال : من كان يريد العاجلة ، وهو كافر بربه مكذب بالآخرة { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } ، ومن كان يريد الآخرة ، وهو مؤمن بربه مصدق بالآخرة ، { وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، هذا يدل أنهم إنما أرادوا العاجلة بكفرهم بالآخرة ، ثم أخبر أن من أراد بعمله في الدنيا الآخرة ، ولها سعيها ما سعى ، وهو مؤمن بها . { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } . أي : مَجزيّاً مقبولاً . وقوله - عز وجل - : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ } . أي : المؤمن والكافر يعطى هذا وهذا ، أي : لا نحرم عن العاجلة من أراد الآخرة ؛ يخبر أولئك الكفرة بكفرهم بالآخرة أنه ليس يعطي الدنيا وسعتها لمن يكفر بالآخرة ؛ ولكن يعطي من كفر بها ومن آمن بها ؛ لئلا يحملهم ذلك على حبهم الدنيا وطلب العز والشرف فيها - على كفرهم بالآخرة ؛ حيث قال : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ } ، أي : يعطي المؤمن والكافر ، والبَرّ والفاجر . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } . أي : [ ما كان ] رزق ربّك وفضله محظوراً . قال بعضهم : محبوساً ممنوعاً . وقال بعضهم : محظوراً : منقوصاً ؛ فهو في الآخرة ، أي : لا ينقصون في الآخرة من جزائهم ، وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله يُعْطِي الدُّنْيَا عَلَى نِيَّةِ الآخِرَةِ ، وَلاَ يُعْطِي الآخِرَةَ عَلَى نِيَّةِ الدُّنْيَا " . وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِذَا كَانَ الْعَبدُ هَمُّهُ الآخِرَةَ كَفَى الله لَهُ مِنْ ضَيْعَتِهِ ، وَجَعَلَ غَنَاءَهُ فِي قَلْبِهِ ، وَإِذَا كانَ هَمُّهُ الدُّنْيَا أَفْشَى الله عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ؛ فَلا يُمْسِي إِلا فَقِيراً ، ولا يُصْبِحُ إِلا فَقِيراً " . وقوله : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ } ؛ للعاجلة - { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } ، وأما من كان يريد العاجلة ؛ للآخرة - فهو ليس بمذموم ؛ فهو ما ذكر في قوله : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } ، وهو ما قال : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ … } الآية [ هود : 15 ] ، وقوله : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ … } [ الحديد : 20 ] . وأمّا من أراد الحياة الدنيا ؛ لحياة الآخرة - فهو ليس بلعب و [ لا ] لهو ؛ لأن الدنيا لم تُنْشَأ لنفسها ؛ إنما أنشئت للآخرة ؛ فمن رآها لها وأرادها لنفسها - فهو لعب ولهو ، ومن رآها للآخرة وأرادها للآخرة فهو ليس بلعب ولا لهو . وقوله - عز وجل - : { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } . في الدنيا في الرزق وفي الخلقة : يكون بعضهم أعمى ، وبعضهم بصيراً ، أو يكون أصمّ ويكون سميعاً ، ونحوه ؛ فعلى ما يكون في الدنيا على التفاوت والتفاضل يكونون في الآخرة كذلك في المنزلة والقدر عند الله ، لا في الضيق والسعة والأحوال التي يكونون في الدنيا ؛ حيث قال : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } . ولم يقل : أكثر ولا أوسع ، دل أنه على القدر والمنزلة عند الله ، لا على اختلاف الأحوال التي يكونون في الدنيا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } . قد ذكرنا فيما تقدم أن النهي في مثل هذا والخطاب - لرسوله ، وإن كان غير موهوم ذلك منه ؛ للعصمة التي عصمه ؛ فإنّه غير مستحيل [ في ذاته ] ؛ لما ذكرنا أن العصمة إنما ينتفع بها مع النهي والأمر ؛ لأنه لولا الأمر والنهي ما احتيج إليها ، أو خاطبه به على إرادة غيرٍ ؛ على ما يخاطب به ملوك الأرض الأقرب إليهم والأعظم والخطر منهم دون خسائس الناس ورذالهم . والثاني : أنه يخاطب كلاًّ في نفسه ، ليس أنه يخص رسوله بذلك ، ولكن كلُّ موهومٍ ذلك منه . ويحتمل أن يخاطب به كقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ } [ الانفطار : 6 ، الانشقاق : 6 ] ، و { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [ البقرة : 21 ] ؛ ليس إنسان أحق بهذا الخطاب من إنسان ؛ فعلى ذلك الأول ، أو يقول : إنه يخاطب رسوله ؛ ليعلم من دونه أن ليس لأحد وإن عظم قدره عند الله وارتفع محله ومنزلته - محاباة في الدين ؛ لأن الرسل هم المكرمون على الله المعظمون عنده ؛ فماذا لم يعف عنهم في هذا - لم يعف من دونهم ؛ ألا ترى أنه قال للملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] ، وهم أكرم خلق الله ؛ حيث وصفهم الله أنهم : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ؟ ! [ التحريم : 6 ] ؛ فعلى ذلك الرسل ؛ ألا ترى أنّه قال على أثره : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } إلى قوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } ، ومعلوم أن أبويه كانا ضالين ؛ فلا يحتمل أن يخاطب رسوله في قوله : { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا } ؛ دل أنه خاطب به كل محتَمَلٍ ذلك منه وموهوم . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً } . عند الناس . { مَّخْذُولاً } . أي : ذليلاً مقهوراً ؛ لأن الخذلان هو ضد النصر والعون ؛ ألا ترى أنه قال : { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ … } الآية [ آل عمران : 160 ] . ذكر الخذلان مقابل النصر ؛ فعلى ذلك قوله : { مَّخْذُولاً } ، أي : مقهوراً ذليلاً غير منصور ، والله أعلم .