Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 9-14)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } . معنى : التأنيث في قوله { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } قيل بوجوه : قيل : إن هذا القرآن يهدي للملة التي هي أقوم الملل وأعدلها ، والملة هي الدين ، دين الله . وقال بعضهم : يهدي إلى الأمور التي هي أعدل الأمور وأصوبها . وقيل : يهدي إلى السبيل التي هي أقوم السبل وأعدلها . يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها . وجائز أن يكون قوله : { يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ، أي : للأعمال الصالحات وللخيرات ، لأن الأعمال الصالحات قوامها به . ثمّ قوله : { يَِهْدِي } : يحتمل وجهين : يحتمل : يبين ، والثاني : يدعو ؛ فهو يهدي الكل لو استهدوا ، لكن خص هؤلاء لما منفعة تكون لمن ذكر ، وقد ذكرنا أن هذا القرآن وغيره من كتب الله هدى ورحمة يدعو إلى ثلاث خصال : إلى معالي الأمور ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ومصالحها . وينهى عن مساوي الأعمال ، وداني الأمور ، وسوء الأخلاق ودناءتها ؛ فهو هدى ورحمة على ما أخبر لمن استهدى به ، ورشد لمن استرشد . وقوله - عز وجل - : { وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ } . البشارة المطلقة إنما جعلت للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ، لم يذكر للمؤمنين خاصّة على غير العمل الصالح ؛ فالمسألة فيهم غير المسألة في هؤلاء . وفيه دلالة أنه يقع اسم المؤمنين بدون العمل الصالح ؛ لأنه قال : { ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ } ؛ دلّ أن ذلك الاسم يقع بدون ذلك الاسم . وفيه دلالة أن اسم الإيمان قد يستحق بدون العمل الصالح ؛ حيث يشرط فيه العمل الصالح . وقوله - عز وجل - : { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } . سماه كبيراً ؛ لكبير خطره عند الله ، كما سمى عذاب النار عظيماً ؛ لعظم خطره عنده ، أو سماه كبيراً ؛ لأنه أكبر ما يقصد إليه ويرغب فيه ، وهو ثواب الجنة ، والنار أعظم ما يحذر بها ويرهب عنها . وقوله - عزّ وجلّ - : { وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } . إنكارهم البعث ، وكفرهم به - هو الذي حملهم على تكذيبهم الرسل وكفرهم بالله ، ليسلم لهم شهواتهم في الدنيا ؛ لأن الرسل جميعاً دعوهم إلى ترك شهواتهم في الدنيا ، ورغبوهم بما يوجب لهم الثواب في الآخرة وحذروهم عما يوجب العقاب ، فأنكروا الآخرة والبعث رأساً ليسلم لهم الدنيا فذلك الذي حملهم على إنكار الرسل وتكذيبهم إياهم ؛ ألا ترى أنه قال : { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ الأنعام : 92 ] أي : بالقرآن أو بمحمدّ ، إيمانهم بالبعث حملهم على الإيمان بالقرآن والرسول ، وتكذيبهم الآخرة حملهم على تكذيب الرسل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ } . قال بعضهم : إذا غضب الإنسان يدعو على نفسه وولده وأهله ، ويلعن ، كدعائه عليهم بالخير ؛ لذلك انتصب قوله : { دُعَآءَهُ } . وقال الحسن : إن الإنسان يتضايق صدره وقلبه بأدنى شيء يكره ؛ فيلعن على نفسه وأهله ؛ فلا يجيبه الله ، ثم يدعو بالخير ؛ فيعطيه ، أو نحوه من الكلام . وقوله : { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ } : هذا يحتمل وجهين : أحدهما : ويدعو الإنسان بالشرّ على العلم منه بذلك كدعائه بالخير على العلم منه بذلك . والثاني : يدعو الإنسان بالشر لو أجيب فيه على الجهل منه والغفلة ، كدعائه بالخير لو أجيب في ذلك . ثم إن كان ذلك الإنسان هو الكافر فهو يدعو على الاستهزاء ؛ كقوله : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } الآية [ الأنفال : 32 ] ، وكذلك قوله : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] ، ونحوه . وإن كان مسلماً فهو يدعو بالشر على نفسه وأهله عند الغضب على علم منه به ، ويدعو أيضاً بالشرّ على السهو والغفلة منه ، نحو ما يسأل الأموال والنكاح ، ولعل ذلك شرّ له . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } . قال بعضهم : هذا لازم ؛ لأنه لما خلقه الله فنفخ الروح في بعض جسده - همّ أن يقوم ؛ فسمّاه عجولاً ، لكن كل الإنسان خلق في الطبع من الأصل عجولاً ؛ ألا ترى أنه لا يصبر على أمر واحد ولا على شيء واحد ، وإن كان نعمة لم يصبر عليها ؛ ولكن يمل عنها ؟ ! وكذلك في أدنى شدّة وبلاء إذا بلي به لم يصبر عليه ، فأبداً يريد الانتقال من حال إلى حال ؛ ألا ترى أن قوم موسى قد أكرمهم الله بكرامات : من إنزال المنّ والسلوى عليهم من غير كد ولا جهد ولا مؤنة ، وكذلك اللباس ؛ ثم لم يصبروا على ذلك حتى قالوا : { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] فسألوا ربهم - الفوم ، والبصل ، ونحوه ؟ ! على هذا طبع الإنسان ملولاً عجولاً ؛ ألا ترى أن الله مكن في باطنه ، وجعل في سعة رياضة نفسه ، وصرفها إلى أحد الوجهين اللذين يجهد عليه ولا يذم ، وهو أن يروضها ويعودها على الصبر والحكم والوقار ، ويصرف تلك العجلة إلى الخيرات والطاعات التي يحمد عليها المرء بالعجلة ، وإلا : ففي ظاهر الخلقة والطبع منشأ على العجلة وما ذكر ؛ ألا ترى أنه قال : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } [ المعارج : 19 - 21 ] إلا كذا ، وهو ما ذكرنا - والله أعلم - لكن بما امتحنه من الأمر والنهي والترغيب في الموعود والترهيب صيره بحيث يملك إخراجه عما طبع وأنشئ إلى حال أخرى بالرياضة التي ذكرنا ؛ ألا ترى أنه ذكر الهلع والجزع ، ثم استثنى إلا كذا ؟ ! وعلى ذلك خلق الله الخلق على همم مختلفة وأطوار متشتتة ، لم يخلقهم جميعاً على همة واحدة ، بحيث يرغبون جميعاً في معالي الأمور ومعاظم الحِرَف وأرفع الأسماء ؛ بل طبعهم على أطباع مختلفة : فمنهم من يرغب في معالي الأمور ومعاظم الأمور والحرف ، ومنهم من كانت همته الرغبة في الدون من الأمور والحرف في الحجامة والدباغة والحياكة ونحوها ، وكذلك في الأسماء ، [ ومنهم بخلاف ذلك ] ، ولو كانت همتهم همة واحدة - لذهب المنافع والمعارف جميعاً ، والله أعلم . وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ } . اختلف فيه : قال بعضهم : المراد بالليل والنهار : الشمس والقمر ، أي : جعلنا في الشمس والقمر ؛ ألا ترى أنه أضاف الآية إلى الليل والنهار حيث قال : { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } ، وحيث قال - أيضاً - : و { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [ يونس : 5 ] ، وإنما يعلم ذلك بالقمر ؛ ألا ترى أنه قال - أيضاً - : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً … } الآية [ يونس : 5 ] ، إنما أضاف معرفة عدد السنين والحساب إلى القمر ؛ دلّ أنه بالقمر يعلم ذلك ، وهو قول علي وابن عبّاس - رضي الله عنهم - وغيرهم من أهل التأويل ؛ ويكون تأويل المحو الذي ذكر في قوله : { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ } - ما قالوا في محوه ، وهو السواد الذي يرى فيه والنقصان الذي يكون فيه في آخره . وقال بعضهم : محي منه تسعة وستون جزءاً من سبعين جزءاً ، إلى هذا يذهب هؤلاء . وأما الحسن وأبو بكر وهؤلاء ، فهم يقولون : ليس في الآية ذكر الشمس والقمر ، إنما ذكر الليل والنهار وأخبر أنه جعل آيتين ؛ فهما كذلك آيتان ، وبهما يعلم عدد السنين والحساب ؛ لأنه بالأيام يعرف ذلك ، فأمّا الشهور فإنه إنما تعرف بالقمر لا تعرف بالأيام ؛ ويكون قول تأويل : { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } ، أي : جعلنا آية الليل في الابتداء ممحوة مظلمة ، وجعلنا آية النهار مبصرة مضيئة في الابتداء ليس أن كانا جميعاً مبصرتين مضيئتين ثم مُحِي آية الليل وأبقيت آية النهار مضيئة ؛ ولكن إنشاء آية الليل في الابتداء [ مظلمة ، وإنشاء آية النهار في الابتداء ] مبصرة ، وهو كقوله : { وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } [ الغاشية : 18 - 19 ] ، أي : إنشاؤها في الابتداء كذلك ، لا أن السماء كانت موضوعة فرفعها ، و [ لا ] كذلك الجبال [ كانت ] مبسوطة ثمّ نصبها ؛ ولكن إنشاءهما في الابتداء كذلك ؛ فعلى ذلك قوله : { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } ، أي : جعلهما في الابتداء : هذا مظلماً ممحوّاً ، وهذا مبصراً مضيئاً . { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ } : هما آيتان مختلفتان ، بل متضادتان تضاد كل واحدة منهما صاحبتها ؛ إذ كل واحدة تنسخ الأخرى حتى لا يبقى لها أثر ، وهما آيتان دالتان على وحدانية الله تعالى ؛ لأنه لو كانا فِعْلَ عدد - لكان إذا أتى هذا على هذا وغلب عليه - منع من أن يكون للآخر سلطان أو أمر ؛ فإذ لم يكن دلّ أنه صنعُ واحدٍ ، وفيهما دلالة تدبيره ؛ حيث جريا على سَنَنٍ واحد ومقدار واحد ، على غير تفاوت يكون فيهما وتفاضل ، أو تغير على ما كان ومضى ؛ دل أنه عن تدبير خرجا وكانا كذلك . وفيه دلالة علمه وحكمته لما جعل فيهما من المنافع ما لو كان اللّيل سرمداً ذهب منفعة الليل نفسه ، ولو كان النهار سرمداً لذهب منفعة النهار رأساً . وفيه دلالة البعث ؛ لأنه يتلف أحدهما إذا جاء الآخر حتى لا يبقى [ له ] أثر بتة ، ثم يعيده على ما كان من غير أن يعلم أنه غير الأوّل . ثم قول { آيَتَيْنِ } ، والآية علامة ، وعلامتهما لا تعرف إلا بالتأمل والنظر فيهما ؛ فعلى ذلك [ لا يفهم ] مراد ما في القرآن والمعنى المودع فيه - إلا بالتأمّل والنظر فيه . وفيهما دلالة نقض قول أصحاب الطبائع وأصحاب النجوم والدهرية وجميع الملاحدة : أمّا نقض قول أصحاب الطبائع : لما ذكرنا من اتساق مجراها على سنن واحد وأمر واحد ، دلّ أنه بالتدبير صار كذلك لا بالطبع . وأمّا نقض قول أصحاب النجوم [ لما جعل النجوم ] مسخرة لمنافع الخلق ومغلوبة يغلبها ضوء الشمس ونور القمر حتى لا ترى ؛ دلّ أنه لا تدبير لها وأن التدبير لغيرها . وعلى غيرهم من الملاحدة ما ذكرنا من اتصال منافع هذا بهذا ومنافع هذا بهذا ، دلّ أنه ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } . يحتمل الفضل الذي ذكر : الرزق والمعاش الذي ذكر في آية أخرى : { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [ النبأ : 11 ] ، ويحتمل أنواع فضل تكون في الدّين . { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } . هو ما ذكرنا أنه بهما يعرف [ عدد السنين والحساب ] . وقوله - عز وجل - : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } . يحتمل التفصيل تفصيل آية من أخرى ، أي : لم يجعلهما آية واحدة ؛ على ما ذكر . وقال الحسن : أي فصل بين ما أمر عباده ونهاهم ، أي : بين وفصل ما يؤتى ممّا يُتَّقَى ، و { فَصَّلْنَاهُ } : أي : فصله تفصيلاً لم يتركه مبهماً ؛ بل بين غاية البيان . وقوله - عز وجل - : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } . اختلف في قوله : { طَآئِرَهُ } . قال بعضهم : { طَآئِرَهُ } : شقاوته وسعادته ، ورزقه وعيشه . وقال بعضهم : عمله الذي عمل من خير أو شر . وقال بعضهم : حظه ونصيبه من عمله ، وهو جزاؤه ونحو ذلك ، فذلك كله يرجع إلى معنى واحد ؛ لأنه إنما يسعد ويشقى بعمله الذي يعمله ، وكذلك جزاء عمله ؛ ولذلك قال الحسن في تأويل قوله : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } [ المؤمنون : 106 ] ، أي : بأعمالنا التي عملناها ، ثم يخرج تسمية العمل وما ذكروا طائراً ؛ لوجهين : أحدهما : على وجه التفاؤل والطيرة ؛ كانوا يتفاءلون ويتطيرون بأشياء : بالطائر وغيره ، ويقولون جرى له الطائر بكذا من الخير ، وجرى له بكذا من الشر ؛ على طريق الفأل والطيرة ؛ فخاطبهم على ما يستعملون ، وأخبر أن ذلك يلزم أعناقهم ، وهو ما قال الله - تعالى - : { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ، وكقوله : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ } [ الاعراف : 131 ] ، وقوله - أيضاً - : { قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ … } الآية [ النمل : 47 ] ، ونحوه . والثاني : سمى الأعمال التي عملوها طائراً ؛ لما أن الذي يتولّد منه تلك الأعمال كالطائر ، وهو الهمة ، أو لا يخطر بباله شيء ؛ ففي الأخطار لا صنع له فيه ، ثم يهمُّ ، ثم تبعث الهمّة على الإرادة ، ثم الإرادة تبعث على الطلب والعمل ، فالهمة التي في النفس التي يتولد منها الأعمال كالطائر ؛ فسماه لذلك باسمه ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { فِي عُنُقِهِ } . يحتمل أن يكون العنق كناية عن النفس ، أي : ألزمناه نفسه ، وذلك جائز ؛ يقال : هذا لك عليّ وفي عنقي . والثاني : ذكر العنق ؛ كما يقول الرجل لآخر إذا أراد التخلص من عمل : قلّدتك هذا العمل وجعلته في عنقك ، أي : تكون أنت المأخوذ به إثماً إن كان في ذلك شر ، وأنت المأجور به المثاب إن كان فيه خير . والمعنى في قوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } ، أي : لا يؤخذ غيره بعمله وشقائه ؛ ولكن هو المأخوذ به ، وهو ما قال : { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ } [ الإسراء : 15 ] ، وقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الإسراء : 15 ] ؛ هذه الآيات الثلاثة معناها واحد ، وهو ما ذكرنا ألا يؤخذ غيره بعمل آخر ، ولا تحمل نفس خطيئة أخرى ولا وزرها ، ولكن كل نفس هي تحمل خطيئة نفسها . وقوله - عز وجل - : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أي : يجعل ما لزم عنقه كتاباً يلقاه منشوراً . والثاني : أي : يجعل بما ألزم عنقه كتاباً . وقوله - عزّ وجلّ - : { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } . قيل : شهيداً ، وقيل : كافياً وحاسباً ، وهو واحد : أن المؤمن بما سبق من صالحاته يقف فيها لا يقطع القول لرجائه في رحمته ولخوفه عن مساويه ؛ فلا يشهد على نفسه بالعقوبة . وأما الكفار فإنه يشهد على نفسه بالنار ؛ لما لم يكن له ما يطمع رحمته . وقوله : { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ } ، أي : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } ؛ فيقال له : { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } . وفي ذلك لطف عظيم بقراءة كتابه بأي لسان كان ؛ لأنه لم يبين بأي لسان يكتب ، ثم يتذكر جميع ما عمل في عمره ؛ وقد ينسى الرجل عملاً يعمل في أدنى مدة ، لكن هذا يتذكر في ساعة ووهلة ما كان عاملاً منه .