Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 23-30)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله عز وجلّ - : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } . قال بعضهم : { وَقَضَىٰ } : حكم ، وقال بعضهم : { وَقَضَىٰ } - هاهنا - : أمر ، أي : أمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، وقال بعضهم : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ } ، أي : وصّى ربّك ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبيّ - رضي الله عنهما - أنهما كانا يقرآن : ( ووصى ربّك ) ، وقال بعضهم : ( وعهد ربك ) . وقال القتبي : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ } ، أي : حتم ربّك ، وهو من الفرض والإلزام ، أي : فرض ربك وألزم ألا تعبدوا إلا إياه ، وكذلك " حكم " ربك وهو أشبه ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] ، ثم قال : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 36 ] : دل قوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 36 ] أن قوله : { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } [ الأحزاب : 36 ] - معناه ، أي : فرض الله ورسوله وحكماً أمراً . ثم قوله : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } : فرض وحتم وحكم وأمر ألا تعبدوا إلا إياه ، إلا الإله المعبود الحق المستحق للعبادة والربوبية ، لا تعبدوا دونه أحداً ، وقد أبان لنا أنه هو الإله والربّ المستحق للعبادة والألوهية والربوبية ، لا الذين تعبدون من دونه من الأوثان والأصنام بوجوه ثلاثة : أحدها : عجز العقول وجهالتها عن درك كيفية العقول وما بينها ؛ لأن العقول لا تعرف كيفية أنفسها ولا ماهيتها ، وتعرف محاسن الأشياء ومقابحها ؛ فقد عَرَفَتِ الألوهية لله ، وحسن العبادة له ، وقبحها لغيره . والثاني : ما يوجد في جميع الخلائق من آثار ألوهيّته وربوبيته ، وجعل العبادة له شكراً له ؛ وعلى ذلك جعل في كل جارحة من جوارح الإنسان عبادة ؛ شكراً له لما فيها من آثار ألوهيته . والثالث : السمع ، أنبأنا أن لا معبود إلا الله ، ولا ألوهيّة لسواه دونه ؛ فذلك معنى ما فرض على خلقه وأمرهم ألا يعبدوا إلا إياه ، وتأويل حكم ربّك ألا تعبدوا إلا إياه ؛ لما أنشأ في خلقه كل أحد آثار وحدانيته ، وشهادة ربوبيته استحقاق العبادة له ، فذلك تأويل من قال : قضى ، أي : حكم . وأما تأويل من قال : قضى ، أي : أمر ربك وكلف ألا تعبدوا إلا إياه - يكون فيه أمر بالعبادة له ، والنهي عن عبادة غيره ؛ كأنه قال : أمر ربك أن اعبدوه ، ونهاكم أن تعبدوا غيره ، ثم الفرق بين الطاعة والعبادة : يجوز أن يطاع غيره ، ولا يجوز أن يعبد غيره ؛ لأن الطاعة هي الائتمار ؛ كقوله : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] ، أي : ائتمروا ، وأما العبادة هي الاستسلام والخضوع له والشكر له ، ولا يجوز ذلك لغيره سوى الله ، أو أن يكون في العبادة معنى لا يدرك ، كمعنى الرحمن ؛ لا يدرك ، حيث لم يجوّز تسمية غيره به ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } . كأنه قال : وفرض عليكم - أيضاً - وحكم إحسان الوالدين ، [ أو أمركم بإحسان الوالدين ] ثم الإحسان في عرف الناس هو الفعل الذي ليس عليه ، إنما هو فضل ومعروف يصنعه إلى غيره ، هذا هو الإحسان في العرف واللغة ، لكن المراد بالإحسان إلى الوالدين هو الشكر ، لا ما ذكرنا من الإحسان المعروف عند الناس ، وهو ما ذكر في آية أخرى : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان : 14 ] ، لأن الشكر هو المكافأة والجزاء لما أنعم وصنع من المعروف ؛ فهو ، والله أعلم . وإن ذكر الإحسان في هذا وفي غيره من الآيات ، وهو قوله : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الأنعام : 151 ] ، وقال في آية أخرى : { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ النساء : 36 ] ، وغيرها من الآيات - فالمراد منه ، والله أعلم : الشكر لهما ؛ لما ذكر في آية أخرى : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان : 14 ] ، والشكر هو المكافأة : أمره أن يكافئ لهما ويجازي بعض ما كان منهما إليه من التربية ، والبر ، والعطف عليه ، والوقاية من كل سوء ومكروه : في البطن ، وبعد ما خرج من البطن حتى كان يؤثرانه على أنفسهما [ في السرور ، ويجعلان أنفسهما وقاية له من كل سوء ومحذور ، فأمر الولد أن يشكر لوالديه ؛ جزاء ومكافأة لما كان منهما مما ذكر . وهذا ذكر في الحال التي عجزا هما عن القيام لأمر أنفسهما ] والحوائج لهما ، وذلك - والله أعلم - لأنهما إذا كانا قويين ، قادرين لحوائج أنفسهما ومنافعهما يبران ولدهما ، ويحسنان إليه ؛ فيحمل برّهما وإحسانهما إليه على الطاعة لهما في البرّ ، والإحسان إليهما على المجازاة ، وهكذا المعروف عند الناس أنه إذا بر بعضهم بعضاً يبعث ذلك على المكافأة ؛ ليدوم ذلك عليهم وألا ينقطع ؛ لذلك ذكر - والله أعلم - الإحسان إلى الوالدين في الحال التي هي حال ضعف وعجز ؛ حيث قال : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } . ثم أمره أن يذكر الحال التي هو عليها ، وهو حال طفوليته وصغره : أن كيف ربّياه ، وبراه ، وعطفا عليه ، ولانا له - قولاً وفعلاً - حتى لم يستقذرا منه شيئاً مما يستقذر الناس بعضهم من بعض ، ولم يبعدهما عنه ما يبعد الخلق بعضهم من بعض من أنواع الأذى والخبث ؟ ! فأمره أن يعاملهما إذا بلغا الحال التي كان هو عليها : من الجهل والضعف ، والعجز عن القيام بالحوائج على ما كان هو ، وبلغا المبلغ الذي يستقذر منهما ويبعد عنهما ، أي : لا يستقذر هو منهما ، ولا يبعد عنهما ؛ كما لم يستقذرا هما منه ، ولا ينهرهما عند السّؤال والحاجة إليه ؛ كما لم يفعلا هما [ له ] ؛ بل يلين لهما ويذل كما لانا هما له وخضعا ، وهو ما قال : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ … } الآية [ النحل : 70 ] ، وقال في آية أخرى : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } [ الروم : 54 ] أخبر أنه يرد من بعد القوة والعلم إلى الحال التي كانوا عليها وهو حال الضعف والجهل ؛ حيث قال : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ … } الآية [ النحل : 78 ] ، وقال : { خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ … } الآية [ الروم : 54 ] . فقال : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } . وقال بعضهم : قوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } : هو كناية عن إظهار الكراهة لهما في الوجه ، { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ، أي : لا تُعنِّفْهما في القول والكلام على ما لم يفعلا هما بك . وقال بعضهم : ( أف ) المراد به : هو ( أف ) لا غير ، { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ، أي : لا تعنفهما ، ولا تخشن ، لكنه ذكر أول حال الاستثقال والكراهة منه وآخرها ، أي : لا تقل لهما ( أف ) على ما يستثقل الناس شيئاً ويكرهون في أول حال يرون شيئاً مستثقلاً مكروهاً - يقولون : أف ، أي : لا تقل أف ؛ لئلا يحمل ذلك على العنف والخشونة والنهر ؛ وعلى هذا المعنى قالوا في قوله : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ … } الآية [ النور : 30 ] ، قال بعضهم : يغضوا من أبصارهم وليحفظوا فروجهم ؛ لأن النظر بالبصر يحمله على الزنى في الفرج ؛ ومنه يكون بدء الفجور . وقال بعضهم قوله : { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } [ النور : 30 ] : ذكر أوّل حال وآخرها ؛ ليمتنعوا عن كل ذلك ؛ فعلى ذلك قوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } : ذكر أوّل الحال وآخرها . والثاني : أي : لا تظهر في وجهك من الكراهة والاستثقال ليحمل ذلك على العنف والانتهار . فإن كان تأويل قوله : { أُفٍّ } - ( أف ) لا غير ، ففيه حجة لأبي حنيفة - رحمه الله - في قوله : إذا نفخ المصلي في موضع سجوده ، فهو كلام يقطع صلاته ؛ حيث قال : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } ، أي : لا تتكلم به ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } . حيث نهاه أن يقول لهما : أف ، ونهاه أن ينهرهما ؛ فإذا امتنع عن الأفّ والنهر كان بعد ذلك قولاً ليّناً لطيفاً . قال أبو عوسجة : يقال : نهرته وانتهرته ، وهو الخشن من الكلام شبه الوعيد . وقال أبو بكر الكَيْساني : الكريم : هو الذي يُولِي على آخَرَ نعمه ، ويهنيه بترك الأذى والمنّ ؛ كقوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [ البقرة : 264 ] ، وقال غيره : في وصف السخي ، فقال : الذي يبذل ما احتوى عليه لمن احتاج إليه ، وقطع طمعه عما احتوى عليه غيره عند حاجته إليه . ويشبه أن يكون الكريم قريباً منه . فإن قيل : إن الوالدين كالمجبولين المطبوعين على البرّ لأولادهما ، والشفقة عليهم ، ولا كذلك الأولاد ؛ فكيف يشبه بر من كان مجبولاً به مطبوعاً عليه - برّ من لم يكن ذلك بطبعه . قيل : لذلك ذكر هذا في الولد دون الوالدين ، وأمرهم بذلك ؛ لأن ما يفعل الوالدان من البرّ والإحسان إلى الولد يفعلان بطبع ، والولد لا ؛ لذلك كان ما ذكر والله أعلم . ولهذا ما لم يجعل ولم يشرع قتل الوالد بولده ؛ إذ [ ليس ] القصاص حياة بينهم ، وشرع قتل الولد بوالديه ؛ إذ في الوالدين من الشفقة والرحمة ما يمنع قتل الولد ، وليس في الولد ذلك ؛ فجعل في قتل الولد والديه القصاص ، ولم يجعل في قتل الوالدين ولدهما ؛ فعلى ذلك هذا في البرّ والإحسان . فإن قيل : ما الحكمة فيما قرن الله من شكر والديه شكره في غير آية من القرآن : { ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان : 14 ] . قيل : لأنه بهما كان نماؤه من أول حاله إلى آخر ما انتهى إليه من التغذية والتربية والوقاية من كل سوء والحفظ من كل آفة وشر . وفي الآية دليل لقول أبي حنيفة ؛ حيث قال في المكاتب : إذا اشترى والده أو أمّه صار مكاتباً ، وإذا اشترى أخاه أو ذا رحم محرم منه - لم يصر مكاتباً ؛ لأن الأب والأم يصيران كذلك بحق الجزاء والشكر ؛ فعليه ذلك ، وأمّا الأخ وغيره من المحارم بحق المعروف ؛ فملكه لا يحتمل ذلك . والخطاب من الله - وإن كان مع رسوله - فالمراد منه غيره ؛ لأن رسول الله معلوم أنه لم يدرك والديه في الوقت الذي أرسل إليه وخاطبه بما خاطب ؛ دلّ أنه أراد بالخطاب غيره - كل محتملٍ [ منه ] ذلك وموهوم منه - وأمره أن يعاملهما بالمعاملة التي ذكر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } . يحتمل أن يكون الجناح كناية عن اليدين ؛ لأن اليدين في الإنسان بموضع الجناح للطائر ، وجناح الطائر يداه ؛ فكأنه قال : اخفض واخضع لهما بيديك كما أمره أن يخضع لهما بلسانه بقوله : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } ، أي : اخضع لهما قولاً وفعلاً . ويحتمل أن يكون الجناح كناية عن النفس ، أي : اخضع لهما بجميع النفس والجوارح ، وقوله : { ٱلذُّلِّ } : يحتمل أن يكون المراد من الذل : الذل نفسه ، أي : كن لهما كالمستعين المحتاج إليهما لا كالمعين لهما قاضي الحاجة ، ولكن ذليلاً كالمستعين من الآخر رافع الحاجة إليه . ويحتمل أن يكون الذلّ كناية عن الرحمة التي تكون في القلب ، أي : اخضع لهما برحمة القلب والجوارح جميعاً ؛ ألا ترى أنه قال : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] ، أي : رحماء على المؤمنين أشداء على الكافرين ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . وذكر مقابل الذل في تلك الآية - الرحمة في هذا ، ومقابل العزة - الشدة ؟ ! فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله : جناح الذل كناية عن الرحمة ؛ فيكون معناه : أن اخضع لهما بالظاهر والباطن جميعاً على ما ذكرنا في قوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } . قال بعضهم : { رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } ، ويحتمل أن يكون على الإضمار ؛ فيكون - والله أعلم - كأنه قال : رب ارحمهما كما رحماني وربياني صغيراً . وقول أهل التأويل : إن هذا منسوخ نسخه قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ … } الآية [ التوبة : 113 ] - بعيد ؛ وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين والكافرين ؛ فالرحمة التي ذكر : تكون في الكافرين سؤال الهداية لهم وجعلهم أهلاً للرحمة والمغفرة ؛ وذلك جائز كقول نوح لقومه : { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] ، أي : استهدوا ربكم ؛ فيهديكم فيغفر لكم ما كان منكم ؛ إنه كان لم يزل غفاراً ؛ إذ لا يحتمل أن يأمرهم بالاستغفار ويعدهم بالمغفرة على الحال التي هم عليها ، وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه . أو أن تكون من الرحمة التي يتراحم بعضهم [ بعضاً ، والشفقة ] التي تكون بين الناس كما يتراحم الصغار والضعفاء ، ثم مثل هذه المعاملة التي أمر الولد أن يعامل أبويه يلزم المؤمنين من جهة الدين ومكارم الأخلاق أن يعاملهم الناس بعضهم بعضاً ، غير أن هذا فيما بين الناس ليس بفرض لازم ، وذلك [ فرض ] لازم ؛ لأنها بحق الشكر والجزاء لهما بما كان منهما إليه من البرّ والإحسان ، وحق التربية والتعظيم حقهما وجليل قدرهما وخصوصيتهما ، وهو كما يقال لرسوله : { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 215 ] ، وإلا فقد وصف المؤمنين بتراحم بعضهم على بعض ؛ على ما ذكر : { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ، وأمرهم بذلك . وقوله - عزّ وجلّ - : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } . قال بعضهم : قوله : { أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } من أسرار المحبة لهما والبر والكرامة . وقال [ بعضهم ] : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } ، أي : أعلم ما تفعله نفوسكم ، وهو كما قال عيسى - عليه السلام - : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] ، أي : تعلم ما تفعله نفسي ، ولا أعلم ما في نفسك من التدبير والتقدير ؛ فعلى ذلك هذا . وجائز أن يكون قوله : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } - صلةَ قوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ … } الآية ، أي : ربكم أعلم بما في ضميركم : من الاستقذار إياهما ، والاستثقال ، والكراهة إذا بلغا المبلغ الذي ذكر ، ولكن لا تظهر ذلك لهما ولا يوافق ظاهرك باطنك . أو أن يقول : ربكم أعلم بما في نفوسكم [ ولا يعلم غيره ما في نفوسكم ؛ فلا تراءون الناس بما في قلوبكم ] ؛ ولا تصرفوا ما في ضميركم إلى من لا يعلم ذلك ؛ يخاطب الكل على الابتداء ألا يجعل ما في قلبه لغيره ؛ بل يخلص له ، أو أن يكون قوله : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } ، أي : ما تفعله أنفسكم وتدبّرها . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } . أي : تصيروا صالحين ؛ لأن قوله : { تَكُونُواْ } إنما هو في حادث الوقت . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } . يشبه أن يكون قوله : { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } صلة قوله : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } ، و { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } أي : لم يزل غفوراً للأوابين ولمن يشاء . ثم اختلف في الأواب : قال بعضهم : الأوّاب : الرجّاع التواب ، وهو قول أبي عوسجة . قال القتبي : الأوّاب : التائب مرة بعد مرة ، وهو من : آب يئوب ، أي : رجع ، وهما واحد . وقال بعضهم : الأواب : المطيع ، وقيل : المسبح ونحوه . وقال أبو عوسجة في قوله : { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } ، أي : لِنْ لهما وارفق بهما ؛ ذكر برّ اللسان للوالدين ولطفه إياهما قولاً وفعلاً ، وليس في ظاهر الآية ذكر البر بالمال والإنفاق عليهما ؛ فيشبه أن يكون ذلك داخلاً في قوله : { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } ، أو لم يذكر ذلك ؛ لما أن المال للولد مال لهما ؛ ألا ترى إلى ما روي عن جابر بن عبد الله قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبوه فقال : يا رسول الله ، إن لي مالاً ، وإن لي أباً وله مال ، وإن إبي يريد أن يأخذ مالي ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ " " أو لاَ ترى - أيضاً - أنه أضاف بيوت الولد إليهما ؛ حيث قال : { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ } [ النور : 61 ] ؛ قوله : { مِن بُيُوتِكُمْ } [ النور : 61 ] - معناه : بيوت أبنائكم . وقال بعضهم في قوله : { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } : إنه صلاة الضحى ، ويروى في ذلك خبر : روى زيد بن أرقم قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم على قوم وهم يصلون الضحى ؛ فقال : " صَلاَةُ الأَوَّابِينَ ، إِذَا رَمَضَتِ الفِصَالُ " ، وفي خبر آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث : " أمرني أن أصوم ثلاثاً في كل شهر ، وألا أنام إلا على وتر ، وأن أصلي ركعتي الضحى ، فإنها صلاة الأوابين " ، وقد يروى أحاديث كثيرة في الحث على صلاة الضحى وفعلها ، وأنه صلى هو : ركعتين ، وأربعاً ، وستّاً ، وثمانياً - ما يكثر ذكرها ويطول ، ومن صلاها فإنما صلاها على سبيل التطوع ، ليس على سبيل اللزوم الواجب والسّنة المؤكدة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مرة وتركها مرة ؛ فكان كصلاة الليل يدرك فاعلها الفضل . وقوله - عز وجل - : { وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } . كأن الآية هي صلة قوله : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } ، أي : وقضى - أيضاً - أن تؤتي ذا القربى حقه ومن ذكر ، أي : فرض ، وحتم ، وحكم ؛ على اختلاف ما قالوا ، وهو كقوله : { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً … } الآية [ النساء : 36 ] أمر - عزّ وجلّ - ببر الوالدين ، والشكر لهما ، وصلة ذي القربى ، فريضة ، ومن ذكر . ثم اختلفوا في قوله : { حَقَّهُ } : قال بعضهم : ذلك الحق فريضة ، وهو الزكاة ؛ حيث جعل تلك صلة ما هو فرض ، وهو الشكر لله ، وجعل العبادة له وشكر الوالدين ؛ جزاء لما كان منهما إليه ، وقد ذكرنا أن ذلك فرض لازم ؛ فعلى ذلك صلة هؤلاء ؛ إذ صلتهم فريضة ؛ لما جاء من المواعيد الشديدة في قطع الرحم ، والترغيب في صلتهم . ومنهم من قال : ذلك الحق نفل ؛ ألا ترى أنه قال : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } ، { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] ، وقال : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } [ الإسراء : 28 ] ، فلا يحتمل ما ذكر من الإعراض عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها في الفرض ، دل أنّه في النفل ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } . قال بعضهم : التبذير والإسراف : واحد ، وهو المجاوزة عن الحدّ الذي جعل في الإنفاق والحقوق ، والمجاوزة : عن المحق ، إلى غير المحق . روي عن ابن مسعود " أنه سئل عن التبذير ؛ فقال : إنفاق المال في غير حقه " . وكذلك قول ابن عباس ، رضي الله عنه . وقال بعضهم : التبذير هو الإنفاق فيما لا ينتفع به . ويحتمل ما ذكرنا أنه يترك الإنفاق على المحق وهم ذوو القربى ؛ وينفق على الأجنبيين . وقوْله - عزّ وجلّ - : { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ } . أي : كانوا أولياء الشياطين . { وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } . أي : كفوراً لنعم ربه . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } . عن الحسن قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل فيقول : " ماَ لاَلِ مُحمدٍ - وَإِنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أَهْلِ أَبْيَاتٍ - إِلا صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ " فأنزل الله تعالى : { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } ، أي : عِدْهم أن سوف يأتي بالرزق . عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال في قوله : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } : إذا سألوك ، وليس عندك شيء انتظرت من الله رزقاً يأتيك ، { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } : يكون - إن شاء الله - شبه العِدَة . وأمثال هذا قالوه . ويحتمل قوله : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } : إعراض الوجه ، ويحتمل إعراض الإجابة ؛ فذلك يكون بالاستثقال والاستخفاف ، ولما ليس عنده شيء يعطيهم ثانياً ، لكن لا نعرف أن الإعراض كان للاستثقال والاستخفاف ، أو لما ليس عنده ما يعطيهم ؛ فأمر أن يبين لهم أن الإعراض [ عنهم ] ليس للاستثقال والاستخفاف ، وكذلك ترك الإجابة لهم ، ولكن لما ليس عنده شيء ؛ ليعلموا أنّ الأعراض عنهم ليس للاستخفاف ولا للاستثقال ؛ ولكن لما ليس عنده ما يعطيهم ، أو يطلب ما يعطيهم ، وهو ما قال : { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } . أجمع أهل التأويل أن هذا الإعراض هو السؤال ؛ لأنه كان يعرض عنهم لابتغاء ما يعطيهم ، فذلك الإعراض يرجع منفعته إلى السؤال . ثم اختلفوا في قوله : { مَّيْسُوراً } : قال بعضهم : عِدْهم عِدَةً حسنة : إذا كان ذلك أعطيناك . وقال بعضهم : أي : عدهم خيراً . وقال بعضهم : قل لهم قولاً ليناً وسهلاً . وقال أبو عوسجة : { مَّيْسُوراً } ، أي : حسناً ، وهو من التيسير ، ونحو ذلك قالوا ، أي : اردد عليهم ردّاً حسناً ؛ ليقع عندهم أن الإعراض لما ليس عنده شيء لا لوجه آخر والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } . في الإنفاق إذا كان عندك . { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } . فيلومك من رجاك ؛ ولكن كما قال : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ … } الآية [ الفرقان : 67 ] أمر الله أن ينفقوا نفقة ليس فيها سرف ولا إقتار ، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره . وقال بعضهم : لا تمسك عن النفقة فيما أمرك ربك به من الحق ، ولا تبسطها كل البسط فيما نهاك عنه ؛ فتقعد كذا . وقال بعضهم : هذا نهي عن البخل والسّرف ، فلئن كان هذا نهياً عن البخل كان قوله : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } نهياً عن الجود ، ولا يحتمل أن ينهى أحد عن البخل والجود ؛ لأنهما غريزتان طبعيّتان ، ولا ينهى أحد عما كان سبيله الطبع والغريزة ، ولكن ما ذكرنا - والله أعلم - من كف اليد وقبضها عن الإنفاق في الحق و [ ذي ] الحق ، وبسطها في غير الحق وذي الحق . وقال أبو بكر الأصم : دل قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } أن قول اليهود : { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] : أنهم لم يريدوا حقيقة اليد ، ولكن التضييق والتقتير ، وكذلك لم يرد بقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] - حقيقة بسط اليد ، ولكن أراد التوسيع في الرزق والتكثير ؛ ألا ترى أنه قال : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [ المائدة : 64 ] . ثم يحتمل الخطاب في هذه الآيات الوجوه الثلاثة التي ذكرنا فيما تقدم في غير موضع : أحدها : أنه خاطب رسوله بذلك كله ، وشارك فيه قومه ، وفي القرآن كثير أنه خاطب رسوله بأشياء فيشرك قومه في ذلك . والثاني : خاطب كلاًّ في نفسه نحو ما ذكرنا في قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ } [ الانفطار 6 ، الانشقاق : 6 ] ، و { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [ البقرة : 21 ] ، وقوله : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] ، و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } [ الفلق : 1 ] و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } [ الناس : 1 ] ونحوه من الخطابات ، خاطب كل أحد في نفسه ؛ إذ لا يحتمل أن يخاطب في : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] رسول الله خاصة ، ولا يخاطب غيره ؛ بل الخطاب به كل الناس وكل إنسان . والثالث : خاطب رسوله على إرادة غيره على سبيل الخصوصية له ، نحو ما يخاطب ملوك الأرض خواصهم وأعقلهم من رعيتهم ؛ على إرادة ذلك الخطاب غير المخاطبين ؛ فعلى ذلك يحتمل هذا ، أو أن يكون خاطب بقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } غيره ممّن يمسك ، ويخاطب بقوله : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } رسول الله ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتمل أن يكون ما ذكر ، وقد يحتمل البسط ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } . يحتمل قوله : { مَلُوماً } : عند نفسك وعند الناس ، تلوم نفسك بأنك : لم أنفقت ؟ ! وعند الناس : لمَّا لَمْ تجد ما تنفق عليهم ؛ وعند الله - أيضاً - إذا أنفقت في غير حق . { مَّحْسُوراً } : قال القتبي : أي : تحسرك العطية وتقطعك ، كما يحسر السفرُ البعيرَ فيبقى منقطعاً : وقال أبو عوسجة : هو من الحسرة ، وهي الندامة ، يقال : حسر الرجل فهو محسور ، وقال : التبذير : الفساد ، و { مَلُوماً } ، أي : ملوماً محزوناً . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } . أي : هو يوسع الرزق على من يوسع ، وهو يقتّر ويضيّق على من يضيق ويقتر ، أي : ذلك إلى الله لا إلى الخلق ؛ ليقطعوا الرجاء من الخلق ، ويروا ذلك من الله لا يرون من غيره . والثاني : ذكر هذا ؛ ليدوم الفضل لمن ذكر الفضل ، ويتبين لهم حيث قال : { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] . ومن الناس من قال بأن قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } صلة قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } ، يقول - والله أعلم - إنك إن منعته وحرمته ، وكان في تقدير الله التوسيع عليه والبسط - لم يضره منعك ولا حرمانك ، ولو وسعت عليه وبسطت ، وكان في تقديره التضييق والتقتير لم ينفعه بسطك ولا توسيعك ؛ ليعلموا أن التوسيع والبسط ، والتضييق والمنع من الله ، أو ذكر ليقطعوا الرجاء من الخلق ويطمعوا في رحمته وفضله ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } . أي : عالماً بأعمالهم ، بصيراً بمصالحهم وما لهم وما عليهم ، أو أن يكون الخبير والبصير واحداً ، أو ذكر هذا ؛ ليعلم أنه على علم بما يكون - منهم أنشأهم - : من الخلاف لأمره والردّ والتكذيب لرسله ، ولم يخرج فعله وإنشاؤه إياهم على علم بما يكون منهم عن الحكمة ؛ لأنه لا منفعة له في طاعتهم إياه وائتمارهم ، ولا مضرة ولا منفعة في خلافهم إياه ؛ بل المضرة والمنفعة في ذلك راجعة إليهم ؛ لذلك كان إنشاؤه إياهم على علم بما يكون منهم حكمة ، ومن ملوك الأرض سفهاء وجهلاء ؛ لأن ما يرسلون من الرسل ، ويعملون من الأعمال ، ويسعون لمنافع أنفسهم ، ولدفع مضارّهم ؛ فإذا فعلوا شيئاً يضرهم - على علم منهم بالضرر - كان ذلك سفها ، والله أعلم .