Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 56-60)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عزّ وجلّ - : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } . وفي سورة سبأ : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ … } الآية [ سبأ : 22 ] ، فيشبه أن يكون الآية عندما نزل بهم البلايا والشدائد على ما قاله أهل التأويل ، فأمروا عند ذلك أن يطلبوا كشف ذلك عنهم من الذين يعبدون [ من دون الله ] ، فيقول لهم : ادعوا الذين زعمتم أنها آلهة دونه يكشفوا عنكم ما نزل بكم . ويشبه أن يكون لا على نازلة ؛ ولكن على تبيين سفه أولئك ، حيث قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] وقالوا : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] : أخبر أن ليس لهؤلاء شفاعة عند الله ، وأن عبادتهم إياها لا تقربهم إلى الله زلفى ، كقوله : { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } [ الزمر : 43 ] : أخبر أنهم لا يملكون ما يطعمون بعبادتهم إياها . أو أن يذكر هذا ؛ لقطع ما يرجون من دون الله من كشف ضرّ عنهم ودفعه ، أو جر نفع إليهم وسوق خير ، على ما أخبر أنه لا يملك ذلك أحد سواه كقوله : { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ … } الآية [ فاطر : 2 ] ، وقوله : { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ … } الآية [ الأنعام : 17 ] : أخبر أنه لو فتح هو رحمة لا يملك أحد دونه إمساكها ، ولو أمسك هو لا يملك أحد إرسالها دونه ، ولو مسّ ضرّ لا يملك أحد كشفه ، وإن أراد خيراً لا يملك أحد دفعه ورده . هذا يذكر - والله أعلم - للمسلمين ؛ لئلا يرجوا أحداً من الخلائق دون الله ولا يخافوا أحداً سواه . ثم صرف أهل التأويل تأويل الآية إلى الملائكة ، لكن الآية تحتمل كل معبود دون الله : الملائكة والجنّ والأصنام التي عبدوها . وأمّا الآية الثانية التي تتلوها ظاهرها في الملائكة والجن ، وهو قوله : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ } . أي : أولئك الذين يعبدون من دون الله يبتغون هم إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ … } الآية [ الإسراء : 57 ] : اختلف فيه : منهم من صرفها إلى الملائكة . ومنهم من صرفها إلى الجنّ ، وهو قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول : إن قوماً من العرب كانوا يعبدون الجن ، ثمّ أسلم الجنّ ، فبقي أولئك [ كما ] كانوا يعبدونهم بعد إسلامهم ؛ فيقول : أولئك الذين [ يعبدون من دون الله ] يبتغون إلى ربهم الوسيلة ؛ فكيف تعبدونهم ؟ ! ومن قال : إنها في الملائكة - اختلفوا في قوله : { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } : قال الحسن : يرجون محبته ورضاه ، { وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } ، أي : خوف الهيبة والجلال والعظمة لا خوف عذاب النار ونقمته ؛ لأن الله - تعالى - عصمهم من أن يرتكبوا ما يوجب لهم النقمة والعذاب ؛ حيث قال : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ } [ التحريم : 6 ] ، وقال : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [ الأنبياء : 19 ] ، وقال في قوله : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] : هذا إخبار أنهم لو قالوا ذلك لفعل بهم ما ذكر ليس على أن يقول أحد منهم ذلك . وقال أبو بكر : { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ } : ثوابه ، { وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } : نقمته ؛ حيث قال : فهم من الوعيد ما قال : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ … } الآية [ الأنبياء : 29 ] ؛ فقد أثبت لهم الوعيد فيه ، لكن ثوابه ما يتلذذ به وعذابه ما يتألم به ويتوجع . ومنهم من يقول من أهل التأويل { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ } ، أي : جنته ، لكن هذا يشبه أن يكونوا يرجون صحبة أهل الجنة ؛ كقوله : { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ … } الآية [ الرعد : 23 - 24 ] . وجائز عندنا صرف قوله : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ } إلى الأصنام التي عبدوها من دونه أيضاً ، ويكون تأويل : { يَدْعُونَ } : يبتغون ، أي : لو لم يكن لهم من العبادة والطاعة ، وركب فيهم من أسبابها لكانوا كما ذكر ، وهو كقوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ } [ الحشر : 21 ] ، أي : لو مكن له وركب فيه ما ركب في البشر ومكن لهم { لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [ الحشر : 21 ] على ما ذكر من سفه أولئك الذين عبدوا [ من ] دون الله ؛ يقول : كيف تعبدون من لو مكن من العبادة والطاعة لكانوا يبتغون بذلك الوسيلة إلى ربهم ؟ ! أو كيف تعبدون من هو بطاعة ربه يبتغي الوسيلة إليه ؟ ! ؛ إن كانت الآية في الملائكة ؛ كأنه يذكر سفه أهل مكة ؛ حيث سألوا العذاب بقوله : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً … } الآية [ الأنفال : 32 ] ونحوه ، وأهل السماء والأرض جميعاً يحذرون عذابه . وقوله : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ } ما ذكر : ليس هو بأمر في الحقيقة ، وإن كان ظاهره أمراً ؛ ولكن إخبار عن عجز ما يدعون من دونه ، وتعجيز ما ذكر من كشف الضرّ ودفعه والتحويل ، وكذلك قوله : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً … } الآية [ الإسراء : 50 ] : ليس هو بأمر ؛ إنما هو إخبار عن قدرته أنه لا يعجزه شيء ، وإن بدلتم أصلب الأشياء وأعظمها . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ } ، أي : دفعه وردّه ، { وَلاَ تَحْوِيلاً } : يحتمل وجهين : أحدهما : فلا يملكون تحويل ذلك الضرّ إلى غيركم ولا صرفه . والثاني : { وَلاَ تَحْوِيلاً } من الأشد والأثقل إلى الأخف والأيسر [ والأهون ] . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } . أي : يحذره أهل السماء و [ أهل ] الأرض . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } . قال أبو بكر الأصم : وإن من قرية إلا نحن مميتوها ، وقد يستعمل الهلاك في موضع الموت ؛ كقوله : { ٱمْرُؤٌ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] ، أي : مات ، ويقال - أيضاً - : هلك فلان ، أي : مات ، فعلى ذلك يكون قوله : { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } [ أي ] : مميتوها { قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } ؛ كقوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] ، وكقوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] . { أَوْ مُعَذِّبُوهَا } ، أي : منتقموها { عَذَاباً شَدِيداً } ؛ فعلى تأويله يصحّ على جميع القرى والمدن ، ليس قرية دون قرية ، ولا مدينة دون مدينة ؛ ولكن على الكل على ما أخبر من إهلاك الكل بقوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] ، و { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] . ويحتمل ما ذكر من إهلاك القرية : إهلاك الأهل ؛ من إهلاك القرية بعد إهلاكهم ؛ على ما فعل بكثير من القرى . وجائز أن يكون يهلك الأهل ويبقي القرية على حالها ، ثم تهلك بنفسها قبل يوم القيامة ، والله أعلم . وعلى تأويل أبي بكر يفعل ذا أو ذا : إمّا يميتهم [ موتا ] بآجالهم ، أو يعذبهم عذاب إهلاك . وقال الحسن : قوله : { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } ، أي : مميتوها ؛ على ما قال أبو بكر ؛ { أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } : يقول : إذا قامت الساعة قبل يوم القيامة ؛ كقوله : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ … } الآية [ الزمر : 68 ] ، وقوله : { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ … } الآية [ الحج : 1 ] ؛ فذلك كله قبل يوم القيامة ، وهو يقول : إن الساعة تقوم على شرار الناس ؛ فيكون ما ذكر من التعذيب لأولئك الذين تقوم بهم الساعة على قوله . وقال قتادة : هذا قضاء من الله كما تسمعه ليس منه بدّ : إمّا أن يهلكها بموت ؛ كقوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] ، وإمّا أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره وكذبوا رسله ، وهو ما ذكرنا من الانتقام . وقال بعضهم : يميت [ أهل ] القرية [ الصالحة ] بآجالهم ، وأمّا القرية الظالمة فيأخذها بالعذاب الذي ذكر ؛ فهو في القرون الماضية إن احتمل ذلك . ويشبه أن يكون قوله : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } ، وهو أن يهلك رؤساء الكفرة وقادتهم ؛ فيصير الدّين كله ديناً واحداً ، وهو الإسلام ؛ على ما قال بعض أهل التأويل في قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الرعد : 41 ] قالوا : هو أن يهلك أهل الكفر ؛ فيجعل ملك أهل الكفر لأهل الإسلام ؛ فذلك نقصانها من أطرافها : لا يزال ينقص أهل الكفر قرية فقرية وبلدة فبلدة ؛ حتى تصير الأرض كلها لأهل الإسلام ، وهو ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " زُوِيَتْ لِيَ الأرضُ فأُرِيتُ مَشَارِقَهَا ومَغَارِبَهَا ، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي ما زُوي لِي مِنْهَا " ، فذلك - والله أعلم - تأويل قوله : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } ، أي : نهلك أهل الكفر . ويشبه أن يكون قوله : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } : على ما أخبر أنه كان يفني جميع من كان على وجه الأرض ، ويجعل الأرض مستوية لا بناء فيها ولا ارتفاع ، حيث قال : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ، وقال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ … } الآية [ طه : 105 ] ، وقال : { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً … } الآية [ الواقعة : 5 ] أخبر أنه لا يبقي عليها أحد ولا بناء ، فتصير كلها { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 106 - 107 ] ؛ فذلك إهكلاكها وتعذيبها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } . قال بعضهم : كان ذلك في الكتاب الذي عند الله - وهو اللّوح المحفوظ - مكتوباً . وقال بعضهم : كان ذلك في جميع كتب الله التي أنزلها على رسله مكتوباً ، أي : ما من كتاب أنزله الله على رسله إلا وكان فيه { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ، و { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] , مسطوراً ، والله أعلم . وقوله عزّ وجلّ - : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } . أخبر أنه ليس يمنعه من إنزال الآيات إلا تكذيب الأوّلين بها . فإن قيل : فأي شيء فيما يكذب الأولون بالآيات ؛ ما يمنع إنزالها على هؤلاء ؟ قيل : كأنه على الإضمار ، أي : ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا علمنا بأن الآخرين يكذبون بها كما كذب بها الأوّلون . فإن قيل : عن هذا يسأل : أن علمه بتكذيب الآخرين كعلمه بتكذيب الأولين ، ثم لم يمنع علمه بتكذيب الأولين إياها إنزالها كيف منع علمه بتكذيب الآخرين ذلك ؟ ! أو ليس قد أرسل الرسول ، وأنزل الكتاب على علم منه أنهم يكذبون الرسول والكتاب ، ثم لم يمنع علمه بذلك إنزاله الكتاب وإرساله الرسول ؟ ! فكيف منع علمه بتكذيب الآيات منهم عن إرسال الآيات ، ولم يمنع علمه بتكذيب الرسول [ والكتاب ] على بعث الرسول وإنزال الكتاب ؟ ! قيل : إنه قد مضى من سنته أنه إذا أنزل الآيات على أثر السؤال - أعني : سؤال الآيات - فكذبوها أهلكهم ؛ هكذا مضت سنته في القرون الماضية ، ثم قد سبق من وعده ألا يهلك هذه الأمة إهلاك تعذيب واستئصال في الدّنيا ؛ رحمة منه وفضلاً على ما أخبر رسوله ؛ حيث قال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، فرحمته أن منّ عليهم بإبقائهم وإزالة العذاب عنهم في الدنيا واستئصالهم ؛ فكأنه قال - والله أعلم - : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا ما سبق من وعدنا ورحمتنا : ألا نهلك هذه الأمّة إهلاك استئصال وتعذيب ، فذلك الوعد والرحمة الّذي ذكرنا منعنا عن إرسال الآيات على علم منّا أنهم يكذبونها إذا أرسلنا إليهم ، وقد مضت السنّة منا على الإهلاك إذا أنزلنا الآيات على أثر سؤالهم إياها ثم التكذيب من بعد ، ثم قد سبق الوعد لهؤلاء ألا يهلكوا في الدنيا إهلاك تعذيب ؛ رحمة منه لهم على ما أخبر أنه لم يرسل إلا رحمة للعالمين . وأصله : أن الله - عزّ وجلّ - قد أنزل الآيات والحجج [ على إثبات رسالة الرسل آيات كافية ، وحججاً تامة ما لم يقع لهم الحاجة إلى غيرها من الآيات والحجج ] ، فما سألوا من الآيات والحجج من بعد إنما سألوا سؤال تعنت وتمرد ، لا سؤال استرشاد واستهداء ، فإذا كان سؤالهم الآيات سؤال عناد وتعنت - أهلكوا إذا كذبوها ، ولم ينظروا ؛ كقوله : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } [ الأنعام : 8 ] ، وقوله : { مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } [ الحجر : 8 ] ، ونحوه ؛ ألا ترى أن عيسى - عليه السلام - سألوه أن يسأل ربّه أن ينزل عليهم مائدة من السماء ؛ لتكون لهم آية منه ؛ فسأله ، فأخبر أنه ينزلها عليكم ، ثم أخبر ما يفعل بهم إذا كفروا بعد ذلك ، وهم كانوا يسألونه سؤال تعنت وتمرد ؛ فقال : { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ } الآية [ المائدة : 115 ] . هكذا كانت سننه فيمن سأل الآيات سؤال تعنت وعناد . وجائز أن يكون الذي منع عن إرسال الآيات على أثر السؤال وإهلاك هذه الأمة : ما يكون من الإسلام من نسل هذه الأمة بعد نبيهم ، وإبقاء التناسل إلى يوم القيامة ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً } . قيل : آية لرسالة صالح . وقال بعضهم : { مُبْصِرَةً } ، أي : معاينة يعاينونها أنها آية من الله لهم ؛ حيث رأوها مخالفة لنوقهم ، وهو ما قال : { هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً } [ الأعراف : 73 ] . { فَظَلَمُواْ بِهَا } ، أي : كذبوا بها وجحدوها ثم عقروها بعد علمهم أنها آية من الله لهم ؛ حيث رأوها وعاينوها خلافاً لنوقهم ، خارجة عن نوق البشر ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } . قال ابن عباس والحسن وغيرهما : الموت الذريع ، أي : السريع . وقال بعضهم : { وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } للناس ؛ فإن لم يؤمنوا بها عذبوا في الدنيا . أو يقول : وما نزل بالآيات مقرونة بالسؤال سؤال التعنت فكذبوها - { إِلاَّ تَخْوِيفاً } للهلاك ، على ما ذكرنا من الآيات التي سألوها . أو أن يكون قوله : { وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ } : على أثر السؤال بها ثم التكذيب لها ، { إِلاَّ تَخْوِيفاً } لمن تأخر ممن سأل مثلها فكذب [ بها ] ، أو كلام نحوه . ويحتمل الآيات التي ذكر : كسوف الشمس والقمر وغيره ، وما نرسل ذلك إلا تخويفاً للناس ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } . أي : وقد قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس ، الإحاطة بالشيء تكون بالوجوه الثلاثة : أحدها : بالغلبة والقدرة والسلطان ؛ كقوله : { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } [ يونس : 22 ] ، أي : أخذهم الهلاك والغلبة وقدر عليهم . والثاني : الإحاطة : العلم به ؛ كقوله : { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } [ النساء : 126 ] ، أي : عالماً ، وقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } [ البقرة : 255 ] ، أي : لا يعلمون . والثالث : الإحاطة المعروفة بين الخلق ، من إحاطة بعضهم بعضاً ، فذلك لا يحتمل في الله سبحانه وتعالى - فهو على الوجهين الأولين : على إحاطة العلم بهم ، أو القدرة عليهم والغلبة . ثم قوله : { أَحَاطَ } [ اختلف فيه ] : قال بعضهم : أحاط بأعمالهم [ بما لهم ] ، وما عليهم ، وبما لا يصلح لهم وما يصلح ، وهو ما ذكرنا في قوله : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الإسراء : 55 ] . وقال بعضهم : إنهم كانوا يمكرون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يريدون إطفاء نوره ، ويمنعونه عن تبليغ الرسالة ؛ كقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } الآية [ الأنفال : 30 ] ؛ فيقول { إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } ، أي : قد علم بمكرهم بك ، على علم منه بمكرهم بك بعثك رسولاً إليهم ، وكلفك على تبليغ الرسالة إليهم ، لكنه وعد أن يعصمك منهم ويمنعك [ عنهم ] ؛ حتى تبلغ الرسالة ؛ بقوله : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [ المائدة : 67 ] ، وقوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً … } الآية [ الجن : 27 ] . كان - عزّ وجلّ - يبعث الرسل ويكلّفهم تبليغ الرسالة إليهم على علم منه بما يكون من قومهم من المنع والمكر برسله ، لكنه عصمهم ، ومكن لهم ؛ حتى بلغوا الرسالة إليهم ؛ فعلى ذلك قوله : { إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } بالعلم والقدوة والغلبة عليهم ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } : قال عامة أهل التأويل : إن الرؤيا التي أراها إياه لم تكن رؤيا المنام ؛ ولكن رؤية يقظة ورؤيا عين ، معاينة بالتي تنام ، لا بالذي لا ينام منه لأنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تَنَامُ عَيْنَاي ، وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي " ، فإنما أراه من الرؤيا بالعين التي كانت تنام لا رؤيا قلب وعلم . قال سعيد بن المسيب : هي رؤيا منام : روي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً على منابر ، فساءه ذلك ، فذكر أنهم كانوا يعطون مالاً ؛ فذلك فتنة لهم . وقال بعضهم : إنه أري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام كأنه يدخل المسجد الحرام آمناً ، فأخبر بذلك أصحابه أنه رأى ذلك ، فلما كان عام الحديبية ، وصرف عن البيت ارتاب بعض الناس في رؤياه ، فذلك فتنة للناس على ما أخبر ، لكنّه لم يبيّن له متى يدخل فيه ، وقد وعد أنه يدخل فيه آمناً ، وهو ما قال : { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ … } الآية [ الفتح : 27 ] . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } ، والفتنة : المحنة الشديدة ، فإن كان ذلك في الرؤيا التي رآها في مسير بيت المقدس ، وما أخبر من الآيات - لا يتوهم مثل ذلك بتعليم بشر ولا بسحر ؛ فذلك الذي أخبرهم أنه رأى فتنة لهم ومحنة في التصديق والتكذيب في الخبر الذي أخبر [ من الآيات ، لا يتوهم ، مثل ذلك بتعليم بشر ] ، فإن كان على رؤيا منام فهو فتنة لما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ } . أي : كانت الشجرة الملعونة التي ذكرت في القران - أيضاً - فتنة لهم ؛ كقوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ … } الآية [ الصافات : 63 - 64 ] . ووجه فتنتها لهم : ما ذكر في القصّة : أنهم قالوا : إن محمّداً يقول : إنّ في النّار شجرة ، والنار من طبعها أن تأكل الشجرة ؛ فكيف يكون في النار الشجرة ، وهي تأكلها ؟ ولكن لم يعرفوا أن شجر النار يكون من النار ، وشرابهم من النار ، وكذلك طعامهم من النار ؛ فإذا كان من النار لم تأكلها النار . ومنهم من قال : الزقوم : هو الزبد والتمر ؛ فكيف يكون فيها ذلك ؟ ! فيدعون بذلك الكذب عليه فيما يخبرهم : إن في النار شجرة ؛ فتلك الشجرة - أيضاً - كانت فتنة لهم ومحنة في تصديق رسول الله وتكذيبه . وسماها { ٱلْمَلْعُونَةَ } قال بعضهم : إن العرب سمت كل ضارّ مؤذ ملعوناً ؛ فلذلك سميت شجرة الزقوم ملعونة ؛ إذ كانت ضارة لأهلها مؤذية . قال الحسن : سميت : ملعونة ؛ لما لعن أهلها بها ؛ فسميت باسم أهلها ، وهو ما سمي النهار مبصراً ، والنهار لا يبصر ؛ ولكن يبصر به ؛ فسمي باسمه ؛ فعلى ذلك هذا . وأصل اللّعن : الطرد ؛ فطرد منها كل خير ونفع ؛ فهي ملعونة ، وكقوله : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] : أضاف الإضلال إلى الأصنام [ والأصنام ] ، لا صنع لها في ذلك ؛ لكن كثيراً من الناس ضلّوا بها ؛ فكأنها أضلتهم ، وكقوله : { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا } [ الأنعام : 70 ] ، أي : اغتروا بها . وقوله - عز وجل - : { فِي ٱلقُرْآنِ } ، أي : ذكرت في القرآن ، وإلا : الشجرة لا تكون في القرآن ، وهو ما ذكر من المصائب وغيرها ، كقوله : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ … } الآية [ الحديد : 22 ] ، والمصائب لا تكون في الكتاب ؛ لكن ذكرت فيه ويخوفهم بما ذكرنا . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [ هو ما ذكرنا في قوله : { مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] وقوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] فزادهم ما ذكر ] . لأنهم نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء فزادهم ما ذكر ، وأما أهل الإسلام فزاد لهم إيماناً وهدى ؛ لأنهم نظروا إليه بعين التعظيم والتبجيل .