Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 50-54)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ } . ذكر الله - عز وجل - : قصة آدم وإبليس في غير موضع من القرآن على الزيادة والنقصان ؛ وإنما ذكر كذلك وكرّر لما كذلك كان في الكتب المتقدمة مكرراً معاداً ؛ فذكر في القرآن على ما كان في تلك الكتب ؛ ليكون ذلك آية لرسالة محمد حيث علموا أنه كان لا يعرف الكتب المتقدمة . أو أن ما كرره لحاجات كانت لهم ولفوائد تكون في التكرار ؛ ليكون لهم عظة وتنبيهاً في كل وقت وكل حال ، وقد يكرّر الشيء ويعاد على التذكير والتنبيه ، والله أعلم بذلك . وقوله : { فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } . اختلف فيه : قال بعضهم : سمي من الجن ؛ لأنه كان من الجان الذين يعملون في الجنان ؛ فنسب إليهم . وقال بعضهم : إن من الملائكة قبيلة يقال لها : الجن ، فكان إبليس منها ؛ فنسب إليها . وقال الحسن : ما كان إبليس من الملائكة قط طرفة عين ؛ ولكنه من الجنّ ، كما قال الله فهو أصل الجن ، وهو أول من عصى ربه من الجن ، [ و ] إن آدم هو أصل الإنس ، وهو أبوهم ؛ فعلى ذلك إبليس أبو الجنّ . وقال بعضهم : { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } ، أي : صار من الجنّ ، وكذلك قالوا : { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } [ البقرة : 34 ] أي : صار من الكافرين . وقال بعضهم : { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } ، أي : كان في علم الله في الأزل أنه يكون من الجنّ ، وكان في علم الله في الأزل أنه يكون من الكافرين وقت عصيانه ربه وإبائه السجود لآدم . وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم . وقوله - عز وجل - : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } . قيل : عتا وعصى ، وأصل الفسق : الخروج ، أي : خرج عن أمر ربّه ، وكذلك قال القتبي : ففسق ، أي : خرج عن طاعته ، يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها . وقوله - عز وجل - : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أنه أراد بقوله : { مِن دُونِي } نفسه ؛ فكأنه قال : أفتتخذونه وذريته أربابا وآلهة من دوني وهم لكم [ عدو ] ، وليسوا بآلهة ولا أرباب ؛ فكيف يجوز أن يتخذ العدو ربا وإلها ؟ ! والثاني : أنه أراد بقوله : { أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } ، أي : من دون أوليائي ؛ فكأنه قال : أفتتخذونه وذريته أولياء من دون أوليائي ، وهم لكم عدو ، أي : كيف تتخذون الأعداء أولياء ، وتتركون من هم لكم أولياء ولا تتخذونهم أولياء ؟ ! والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } ، أي : بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم أن عبدوا إبليس وأطاعوه ؛ فبئس ذلك لهم بدلا . أو أن يكون قوله : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } ، أي : ما اتخذوا أعداءهم أولياء بدلا عن أوليائه أو بدلا عن ألوهيته وربوبيته . وقوله : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } . قال بعضهم : قال هذا لمشركي العرب : حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام التي عبدوها : إنها آلهة وإنها شركاؤه ، فيقول : ما أشهدتهم خلق الملائكة وخلق الأرض ولا خلق أنفسهم ، ولا كان لهم كتاب ، ولا آمنوا برسول ؛ فكيف عرفوا ما قالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام آلهة وشركاؤه ؟ ! وأسباب العلم والمعارف هذا : إما المشاهدة وإما الرسل ، فإذا لم يكن لهم واحد مما ذكرنا ؛ فكيف عرفوا ربهم ؟ ! وبم علموا ما قالوا في الله من الولد والشركاء ؟ ! وإلى هذا يذهب الحسن . ومنهم من قال : لاتخاذهم إبليس وذريته أولياء وأربابا ، وهو صلة ما قال : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ … } الآية ، وفيه وجوه من التأويل : يقول : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } ، أي : ما استحضرتهم خلق أنفسهم ؛ لأنهم لم يكونوا في ذلك الوقت ، ولا خلق السماوات والأرض ؛ لأنه خلقهما ولم يكونوا - أيضاً - شيئاً . أو { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } ما أعلمتهم تدبير خلق السماوات والأرض ، ولا تدبير خلق أنفسهم ؛ فكيف قالوا ما قالوا في الله من الدعاوى ؟ ! والثالث : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } أي : ما استعنت بهم في خلق السماوات والأرض ، ولا في خلق أنفسهم ؛ فكيف أشركوا في ألوهيتي وربوبيتي ، وما استعنت بهم في ذلك . والله أعلم . وقد استدل كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن خلق الشيء هو غير ذلك الشيء لأنه قال : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } ، وقد شهدوا السماوات والأرض ، وشهدوا أنفسهم حتى قال لهم : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] ثم أخبر أنه لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ؛ دل أن خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم - غير السماوات والأرض وغير أنفسهم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } . قال بعضهم : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ } : عن الإيمان والهدى أعوانا لديني . والثاني : وما كنت متخذ المضلين عبادي بنصر ديني ، أو بعون أوليائي . وقال بعضهم : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ } الذين أضلوا بني آدم عونا فيما خلقت من خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم ، وهو إبليس وذريته . أو { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ } : أولياء ، إنما اتخذتهم أعداء ، وما كنت لأولي المضلين عضدا على أوليائي ؛ كقوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] ونحوه ، وكله قريب بعضه من بعض . وقوله - عز وجل - : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ } . قال { شُرَكَآئِيَ } ؛ على زعمهم ، وإلا : لم يكن لله شركاء . { فَدَعَوْهُمْ } . يعني : دعوا الأصنام التي عبدوها . { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } . قال أبو بكر الأصم : لم يجيبوهم في وقت ، وقد أجابوهم في وقت آخر ، وهو ما قالوا : { إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [ يونس : 29 ] ، ولكن قوله : { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ؛ لما كانوا يعبدونها في الدنيا ، وإنما كانوا يعبدونها طمعا أن يكونوا لهم شفعاء وأنصارا ؛ كقولهم { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] وقوله : { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ } [ مريم : 81 - 82 ] فيكون قوله : { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } : ما طمعوا هم بعبادتهم الأصنام : من الشفاعة ، والنصرة ، ودفع ما حل بهم عنهم ، والمنع عن عذاب الله ، والله أعلم . وقوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } . أي : بين أولئك وبين الأصنام ، { مَّوْبِقاً } ، قال بعضهم : مهلكا . وقال بعضهم : الموبق : الذي يفرق بينهم وبين آلهتهم في جهنم . وقال بعضهم : نهر فيها . وقال بعضهم : جعلنا وصلهم في الدنيا الذي كان بين المشركين وبين الأصنام موبقاً ، أي : مهلكا . وقوله - عز وجل - : { فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } . أي : علموا وأيقنوا أنهم داخلوها . { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } . أي : لم تقدر الأصنام التي عبدوها أن تصرف النار عنهم : قال أبو عبيدة : { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } ، أي : معدلا . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } . { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } قد ذكرناه وبيّناه في غير موضع ، وقوله : { مِن كُلِّ مَثَلٍ } يحتمل وجهين : أحدهما : { مِن كُلِّ مَثَلٍ } ، أي : من كل صفة ؛ كقوله : { وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [ الروم : 27 ] ، أي : الصفات العليا . والثاني : المثل : هو الشبيه ؛ كقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . فإن كان التأويل : الشبيه ؛ فكأنه يقول - والله أعلم - { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } ، أي : بينا { فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } من كل ما بهم حاجة إلى معرفة ما غاب عنهم ؛ جعل لهم شبيها مما شاهدوا أو عرفوا ليعرفوا به ما غاب عنهم . وإن كان تأويل المثل : الصفة ، فكأنه يقول - والله أعلم - : ولقد بيّنا في هذا القرآن من كل ما يؤتى وما يتقى صفة : يعرفون بها ما لهم وما عليهم ، [ و ] ما يأتون وما يتقون ، والله أعلم . وقوله : { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } . قال أهل التأويل : { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ } يعني : الكافر { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } ، أي : جدالا ؛ كقوله : { وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ } . ويشبه أن يكون قوله : { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } ، أي : وكان جوهر الإنسان أكثر جدلا من غيرهم من الجواهر ؛ لأن الجن لما عرض عليهم القرآن والآيات قبلوها على غير مجادلة ذكرت ؛ حيث قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً … } الآية [ الجن : 1 ] ، وكذلك الملائكة لم يذكر منهم الجدال ولا المحاجة في ذلك . وقد ظهر [ في ] جوهر الإنسان المجادلات والمحاجات في الآيات والحجج ، من ذلك قوله : { هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ … } الآية [ آل عمران : 66 ] ، وقوله : { وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وقوله : { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] ، وقوله : { وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ } [ الكهف : 56 ] ، وأمثال هذا ؛ لذا احتيج إلى إنزال كثرة الآيات والحجج ؛ لكثرة ما ظهرت منهم المجادلة . وفيه الإذن بالمجادلة والمحاجة في الدين على الوصف الذي ذكر ، والله أعلم .