Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 11-16)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } . بالمخادعة للمؤمنين ، وإظهار الموافقة لهم بالقول ، وإضمار الخلاف لهم بالقلب ، والاستهزاء بهم عند الخلوة ، والقول فيهم بما لا يليق بهم ، وعبادة غير الله . وأَيُّ فساد أَكبر من هذا ؟ ! . وقوله : { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } . بإظهار الموافقة بالقول . وقوله : { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } . أخبر تعالى أنهم هم المفسدون ؛ لما أَضمروا من الخلاف لهم ، والمخادعة ، والاستهزاءِ بهم . وقوله : { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } . الأول : أَي : لا يشعرون أَن حاصل ذلك لا يرجع إليهم . والثاني : لا يشعرون أن ما كانوا يفعلون الفسادُ . فإن كان هذا فهو ينقض قول من يقول : بأَن الحجة لا تلزم إلا بالمعرفة ، وهو قول الناس ؛ لأَنه عز وجل أَخبر بفساد صنيعهم ، وإن لم يشعروا به . وهو كقوله أَيضاً : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] : أَخبر بحبط الأَعمال وإن كانوا لا يعلمون . وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } . تحتمل الآية : أَن تكون في المنافقين ، وتحتمل : في أَهل الكتاب . فإن كانت في المنافقين فكأَن قوله : آمنوا يا أَهل النفاق في السر والعلانية ، كما آمن أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في السر والعلانية جميعاً ، وهو كقوله : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } [ البقرة : 137 ] . وإن كان في أَهل الكتاب ففيه الأَمر بالإيمان الذي هو إيمان ، وهو التصديق . والإيمان عندنا هو التصديق بالقلب ؛ دليله قول جميع أَهل التأْويل والأَدب أَنهم فسروا { آمَنُواْ } : صدقوا في جميع القرآن . وقوله : { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } الآية . السفه : هو ضد الحكمة ، وهو العمل بالجهل على العلم أَنه يبطل ، والجهلُ هو ضد العلم . والسفهُ هو الشتم ؛ يقول الرجل لآخر : يا سفيه . وقوله : { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } . يقول بعض المتكلمين : إن هذا شتم من الله لهم ، جواباً على المؤمنين ، ويستجيزون ذلك على الجواب ، وإن لم يجز على الابتداءِ ، كالمكر ، والكيد ، والاستهزاءِ ، والخداع ونحوه ، فعلى ذلك هذا . وأما عندنا فهو غير جائِز ؛ لأَن من يشتم آخر يذم عليه ، وهو عمل السفهاء ، فأَخبر عز وجل : أَنهم هم الذين يعملون بالجهل على علمهم أَن دينهم الذي يدينون به باطل ، وأَن الدين الذى يدين به المؤمنون حق . وقوله : { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } . قيل فيه بوجهين : أحدهما : لا يعلمون أنهم هم السفهاء . والثاني : لا يعلمون ما يحل بهم من العذاب لذلك ، والله أعلم . وقوله : { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } . يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : { قَالُوۤا آمَنَّا } . أظهروا لهم الموافقة في العلانية ، ويضمرون لهم الخلاف في السر . وقوله : { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } . قيل فيه بأَوجه : قيل : إن شياطينهم ؛ يعني الكهنة ؛ سموا بذلك لبعدهم عن الحق . يقال : شَطَن ، أَي : بَعُدَ . وقيل : إن كلَّ عاتٍ ومتمرد يسمى شيطاناً لعتوه وتمرده ؛ كقوله : { شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [ الأنعام : 112 ] سموا بذلك لعتوهم وتمردهم ؛ إذ من قولهم : إن الشياطين أَصْلهم من الجن . وقيل : سموا شياطين ؛ لأَنه كان مع كل كاهن شيطان يعمل بأَمره ، فسموا بأَسمائِهم ؛ وذلك جائِز في اللغة جارٍ ، والله أَعلم . وقوله : { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } . قيل : فيه وجهان : الأَول : أَي : معكم في القصد والمعونة . والثاني : إنا معكم ، أي : على دينكم لا على دين أولئك ، والله أَعلم . قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } . بإظهار الموافقة لهم في العلانية ، وإظهار الخلاف لهم في السر . وقوله : { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } . قيل فيه بوجوه : قيل : يجزيهم جزاء الاستهزاءِ . وكذلك قوله : { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] أَي : يجزيهم جزاء المخادعة ، وكذلك قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] أي : يجزيهم جزاء المكر ، يحمل على الجزاء ؛ لما لا يجوز إضافة المكر والخداع والاستهزاءِ مبتدأ إلى الله ؛ لأَنه مذموم من الخلق إلا على المجازاة ، فكيف من الله عز وجل ؟ ! وقال بعضهم : يجوز إضافة الاستهزاء إلى الله ، وإن كان لا يجوز من الخلق أَن يستهزئ بعضهم من بعض ، كالتكبر ، يجوز لله ولا يجوز للخلق ؛ لأَن الخلق أَشكال بعضهم لبعض وأَمثال ، والله - عز وجل - لا شكل له ولا مثل . وكذلك الاستهزاء يجوز له ، ولا يجوز لغيره ؛ لأَن الاستهزاء هو الاستحفاف ، فلا يجوز أَن يستخف ممن هو مثله في الخلقة ، وما خلق له من الأَحداث والغِيَر ، والله تعالى يتعالى عن ذلك . والأَول أَقرب ، والله أعلم . أَو أَضاف استهزاء المؤمنين بهم إلى نفسه كما ذكرنا في المخادعة . ثم اختلف في كيفية الاستهزاءِ : فقال الكلبي : هو أن يُفتح لهم باب من الجنة فيدنون منه ، ثم يغلق دونهم . فإن ثبت ذا فهو كما قال . وقيل : إنه يرفع لأَهل الجنة نور يمضون به ، فيقصد أولئك المضي معهم بذلك النور ، ثم يطفأ ذلك النور ؛ فيتحيرون وهو قولهم : { ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } [ الحديد : 13 ] . وقيل : أن يعطي لهم في الدنيا ما ينتفعون به من أنواع النعم ظاهراً على ما أَظهروا لهم الموافقة في العلانية ، ويحرم لهم ذلك في الآخرة بإضمارهم الخلاف لهم في السر . وقوله : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } . الآية في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ؛ كقوله : { ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] غير أن هذه في المنافقين و الأُولى في الكفرة . وهي تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأَنهم يقولون : إن الله لا يقدر أَن يستنقذهم في حال الاختيار ، وإنما يقدر الاستنقاذ منهم في حال الاضطرار ، فأَخبر عز وجل : أَنه يستنقذهم على فعل الطغيان . وقوله : { وَيَمُدُّهُمْ } أي : يخلق فعل الطغيان فيهم . ويحتمل : أن يخذلهم ويتركهم لما اختاروا من الطغيان إلى آخر عمرهم . ويحتمل : أنه لم يهدهم ولم يوفقهم . وفي هذا إضافة المد إلى الله . وإضافة المد على الطغيان لا يضاف إليه إلا المدح ، والمدح يكون بالأَوجه الثلاثة التي بينا ، وفي هذا أَنه إذا كان هو الذي يُمدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان ؛ فدل أَن الله خالق فعل العباد ؛ إذ من قولهم : إن القدرة التامة هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده . والعَمَهُ : الحيرة في اللغة . قوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } . أي : اختاروا الضلالة على المدعو إليه - وهو الهدى - من غير أَن كان عندهم الهدى ، فتركوه بالضلالة . وهو كقوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] من غير أن كانوا فيه ، فكذلك الأَوَل ، تركوا الهدى بالضلالة ابتداء . وقيل : الضلالة : الهلاك ؛ أي : اختاروا ما به يهلكون على ما به نجاتهم ، وإن كانوا لا يقصدون شراء الهلاك بما به النجاة ؛ كقولهم : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } [ البقرة : 175 ] لا يقدر أحد أن يصبر على النار ، ولكن فما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار . وكذلك قوله : { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } [ البقرة : 90 ] أي : بئسما اختاروا ما به هلاك أَنفسهم على ما به نجاتهم . وفي هذه الآية دلالة جواز البيع بغير لفظة البيع ؛ لأَنهم ما كانوا يتلفظون باسم البيع ، ولكن كانوا يتركون الهدى بالضلالة . وكل من ترك الآخر شيئاً له ببذل يأخذه منه فهو بيع وإن لم يتكلموا بكلام البيع . وكذلك قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ … } الآية [ التوبة : 111 ] . وهو على بذل الأَموال والأَنفس له بالموعود الذي وعد لهم ، وهو الجنة . وقوله : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } . أي : ما ربحوا في تجارتهم ؛ لأَن التجارة لا تربح ولكن بالتجارة يربح ، وقد يسمى الشيء باسم سببه . وهو كقوله : { جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [ النمل : 86 ] ، والنهار لا يبصر ، ولكن بالنهار يبصر . وذلك سائغ في اللغة ، جائز تسمية الشيء باسم سببه . ثم في قوله : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } نفي الربح دون نفي الأَصل في الظاهر ، غير أَن النفي على وجهين : نفي شيء يوجب إثبات ضده ، وهو نفي الصفة ؛ كقولك : فلان عالم : نفيت الجهل عنه ، وفلان جاهل : نفيت العلم عنه . ونفي شيء لا يوجب إثبات ضده ، وهو نفي الأَعراض ؛ لأَنك إذا نفيت لوناً لم يوجب ضد ذلك اللون . وقوله : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } نفي الأَصل ؛ كأَنه قال : بل خسرت تجارتهم ، أَوجبت إثبات ضده . دليله قوله : { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } [ البقرة : 90 ] ، و { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 62 ] .