Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 17-20)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } . اختلف فيه : قيل : إنها نزلت في المنافقين ؛ لأَنها على أَثر ذكر المنافقين ، وهو قوله : { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ البقرة : 14 ] . وقيل : إنها نزلت في اليهود ؛ لأنه سبق ذكر اليهود ، وهو قوله : { … ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ … } [ البقرة : 6 ] . ويحتمل : نزولها في الفريقين جميعاً . ورُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : " إن هذا من المكتوم " فلا يحتمل ما قال ؛ لأَنه مَثَلٌ ضربه الله ، والأَمثال إنما تضرب لتُفْهم وتقرِّب إلى الفهم ما بعُد منه ؛ فلو حمل على ما قال لم يفهم مراده وما قرَّب إلى الفهم شيئاً ، إلا أن يريد من المكتوم : أنه لم يعلم فيمن نزل ، فهو محتمل ، والله أعلم . وقوله عز وجل : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً … } الآية . يحتمل : أن يكون الإضافة إلى من ذكر من المنافقين بقوله : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ … } الآية [ البقرة : 8 ] ، وقوله : { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا … } الآية [ البقرة : 14 ، 76 ] . وذلك يخرج على وجوه : أَحدها : أَنهم قصدوا قصد المخادعة بأَولياءِ الله والاستهزاءِ بهم ؛ ففضحهم الله بذلك في الدنيا والآخرة . فأَما في الدنيا فبما هتك سترهم ، وأطْلَعَ على ذلك أَولياءَه ؛ فعادت إليهم المخادعة ، وعوقبوا بما أطلع على ضميرهم ، وبما أَرادوا ذلك الأَمن ، فأَعقبهم الله خوفاً دائماً كما وصفهم الله { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ … } الآية [ النساء : 77 ] . وقال : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [ المنافقون : 4 ] . وقال : { رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [ محمد : 20 ] ، وقال : { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ … } الآية [ الأحزاب : 19 ] ، وقال : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ … } الآية [ التوبة : 64 ] . أو أَن يكونوا طلبوا - بإظهار الموافقة في الدين - الشرف فيهم والعز ، وكذلك عند الكفرة مما أظهروا أَنهم يخادعون بذلك المؤمنين ، ويستهزئون بهم ؛ فعلموا أَنهم كذلك يظهرون للمؤمنين حالهم معهم ، فَطُرِدوا من بينهم فقال الله : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } [ المجادلة : 14 ] ، وقال : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ … } الآية [ النساء : 143 ] ، فزال عنهم ما التمسوا من الشرف والعز ، وأَبدل لهم به الهوان والذل . فمثلهم في ذلك مثلُ مستوقِد نارٍ ليستضيء بضوئها ، وينتفع بِحرِّها ، فأَذهب الله ضوءه حتى ذهب ما كان يأْمل من الاستنارة بها والانتفاع ، وأعقبه الله تعالى خوف الاحتراق لو دنا منها ، وذهب عنه ما طلب بذلكَ - من شرف الوقود في الأَيام الشاتية ، أو ما يصلح بها - من الأَغذية بذهاب البصر . فيكون ذلك معنى قوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ، و { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } إذ عوقبوا بالخوف بما قصدوا به الأمنَ ، والذلِّ بما طلبوا به العزَّ ، وكذلك مستوقد النار الذاهب نوره ، والله أعلم . وعلى ذلك قوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ … } أي : اختاروا الضلالة لما رجعوا إلى شياطينهم بالهدى الذي قد أَظهروه عند المؤمنين . فيكون تحقيق استهزاءِ الله بهم ، ومخادعته إياهم فعل أَوليائه بهم بما أخبروا من سرائِرهم ، وبما حطوا أَقدارهم ، وذلوا في أَعينهم ، فأُضيف ذلك إلى الله ؛ إذ به فعلوا ، كما أُضيفت مخادعتُهم المؤمنين إليه ؛ إذ عن دينه خادعوهم . والله أعلم . وعلى هذا التأْويل أَمكن أَن يخرج قول من زعم : أَن الآية نزلت في الكافرين ، أَنهم كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجدوا نعته في التوراة والإنجيل ، أنه { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ … } الآية [ الأعراف : 157 ] ، وقوله : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } [ الفتح : 29 ] إلى آخر السورة ، وقال عز وجل : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ، الأنعام : 20 ] ، وقوله : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] . كانوا كمستوقد النار ، أي : طالب الوقود ليستضيء به ، فلما ظفر به أَذهب الله نوره بعد معرفتهم بمنفعة نور النار ، فلم ينتفع به . فكذلك لما كفروا عند بعث النبي صلى الله عليه وسلم حسداً من أَنفسهم وبغياً ؛ إذ كان من غيرهم ؛ أو خشية منهم على ملكهم ومأْكلتهم بعد العلم منهم بعظم المنفعة فيه ، ولا قوة إلا بالله . وأما في الآخرة أنهم قصدوا مخادعة المؤمنين ، وموالاتهم في الظاهر ، ومشاركتهم إياهم في المنافع نحو المغانم والتوارث والتناكح ، وخالفوهم في الباطن . فكذلك الله أَشركهم في المنافع الظاهرة الحاضرة في الدنيا ، وخالفهم بمنافع دينه في الباطن الغائب وهي الآخرة ؛ أراهم المشاركة مع المؤمنين في الدنيا ، وصرفها عنهم في الآخرة . فكما أرَوْهم الموافقةَ في الظاهر مع المخالفة في الباطن ، فكذلك مستوقد النار أظهر من نفسه الرغبة في ضوئها بالإيقاد ، وقد أَذهب الله ضوء بصره ؛ فذهب عنه مَنفعته عند ظنه أَنه يصل إليها ، كالمنافقين في الآخرة ، إذ ظنوا في الدنيا أنهم شركاؤهم في الآخرة لو كانت ؛ ولذلك قالوا : { ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [ الحديد : 13 ] ، وقوله : { أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ … } الآية [ النساء : 141 ، الحديد : 14 ] فذلك وجه الاستهزاءِ بهم ، والمخادعة أَنه أَشركهم في أَحكام الدنيا وخالفهم في أَحكام الآخرة . وعلى ذلك اشتراء الضلالة بالهدى ، على معنى اختيارهم ما فيه الهلاك على ما فيه نجاتهم . وعلى ذلك يخرج تأْويل من صرف إلى أَهل الكتاب ؛ لأَنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذ آمنوا بكتبهم وقد كان فيها نعته الشريف ، فلما وصلوا إلى منافع الإيمان بالبعث إليهم ، وشاهدوا كفروا به ؛ فعوقبوا بحرمان منافع كتبهم ، وإيمانهم عند معاينة الجزاء كما ردّوا إيمانهم به عند المشاهدة ، والله أعلم . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه ضم تأْويل هذه الآية والتي تتلوها من قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ البقرة : 19 ] إلى قوله : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] وذلك - والله أعلم - أنهم قوم لا يعرفون الله حق المعرفة ؛ فيعبدونه بحق الربوبية له قبلهم ، ولا يؤمنون بالآخرة ؛ فيكون عملهم للعواقب ، ولا يعرفون غير الدنيا ومنافعها ، فجعلوا دينهم وعبادتهم ثمناً لها . فإذا رأوا في دين الإسلام الغنائم والسلوة ، رأَوا تجارتهم مربحة فطمأَنوا بها ، واجتهدوا بالسعي فيها . وإذا أَصابتهم الشدة والبلايا رأَوا تجارتهم مخسرة فصرفوا إلى غير ذلك الدين ؛ فمثلهم مثل المستوقد ناراً ؛ إنه يجتهد في الإيقاد ما دام يطمع في نور النار ، ومنافع حرها لمصالح الأَطعمة ، فإذا ذهب نور بصره أبغض النار بما يخشى من الاحتراق بالدنو منها ، وبما يذهب من منافع خفية إن لم يكن كاستوقد ، كالمنافق فيما استقبله المكروه في الإسلام تمنى أن لم يكن أَسلم قط . وذلك قوله : { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ } [ الأحزاب : 20 ] . وقوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا } [ آل عمران : 154 ] . وقوله : { قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ } [ التوبة : 50 ] . وقوله : { أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } [ النساء : 72 ] . وكذلك البرق الذي يضيء يمشي المرء في ضوئه ، وكذلك المنافق ، إذا رأَى خيراً فى الإسلام مشى إليه ، وإذا أظلم عليه قام متحيراً حزيناً ؛ أَلا يكون اختار السلوك ، والله الموفق . وقال أَبو بكر الأصمُّ : مَثَلُ من يظهر الإيمان فيما يتزين بنوره في الناس ، مثل مستوقد النار فيما يستضيء حول النار بنورها ، ثم يذهب الله نوره في الآخرة كما أَذهب هو في السر ، وكذلك أَذهب الله نور المستوقد ؛ فيذهب به التزين بالنور حول النار . قال : وقيل : ذا لعنٌ . كما يقال : أَذهب الله نوره ، أي : الذي كان يظهره ؛ فيبقى المنافق في ظلمات الآخرة ، والمستوقد في ظلمات العمى والليل . ثم قال : جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيّب ، وما فيه من الجهاد كظلمة الليل ، وما فيه من الغنيمة كالبرق ، وجعل أَصابعهم في الآذان من سماع ما في الإسلام من الشدائد نحو جعل ذلك من الصواعق { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ } . أي : ما في الإسلام من الغنيمة يدعوهم إليه . وإذا أَظلم عليهم بالشدائد قاموا وصدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو شاءَ الله لذهب بما ذكر ، أَي : أَصمهم وأَعماهم . وروي عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أَن ضوء البرق والنار ليسا بدائمين " ؛ فشبه به إيمان المنافق أَنه عن سريع يزول . وقال القتبي : كان المنافق في ظلمة الكفر فاهتدى بما أعطى من النور ، كمستوقد النار بنوره في ظلمة الليل . وكذلك السالك في ظلمة الليل ، فلما ذهب نوره - أَو سكن لمعان البرق - رجع إلى ما فيه من الظلمة . والأَصل في هذا الباب : أَن الله تعالى خلق هذه الدار لمحنة أَهلها ، وجعل لهم داراً يجزيهم فيها ، مما لولا هي لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثاً ؛ إذ يكون خلق الخلق للفناءِ بلا عواقب لهم ، وذلك عبث في العقول ؛ لأن كل شارع - فيما لا عاقبة له - عابث ، وفيما لا يُريد معنى يكون في العقل هازلٌ ؛ ولذلك قال : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] . فإذا كان كذلك صارت هذه الدار دليل الأخرى ؛ فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلاً بالمعروف من هذه ؛ إذ بهذه عرفت تلك ؛ ولهذا خلق الله الممتَحنين بحيث يألمون ويتلذذون ؛ ليعرفوا قدر الآلام التي بها أوعدوا ، واللذات التي فيها رغبوا . فعلى ذلك ضرب الله مثل من عمي عن الآخرة ، وصم عن سماع ما يرغب فيها ، أو عمي عن أَمر الله ونَهْيه ، أو أُلحق بالأَعمى ، والأَصم ، والميت ونحو ذلك ؛ لذهاب منافع البصر والسمع والحياة ؛ إذ هي مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأَمل والتدبر . فإذا غفل عن ذلك سمي بالذي ذكرنا . وبينا أَنه لولا الآخرة ودار الجزاءِ ، لم يكن لخلق شيء من ذلك حكمة نعقلها نحن . فعلى ذلك ضرب المثل لذهاب نور القلب - الذي به يبصر العواقب وينتفع بها - بذهاب نور البصر ، في زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره ، وكذلك أَمر السمع وغيره . فكان على ذلك أَمكن إخراج المثلين جميعاً على الكفرة والمنافقين . أَما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه - وهو نور البصر - لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذي بصر ، وكذلك سائر منافع النار ؛ فمثله إذا ذهب عنه نور بصر القلب وحياته لم ينتفع بنور الآخرة وجزائِها . وكذلك الذي ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيراً ؛ إذ به يبصر الطريق كمن يذهب عنه بصر القلب ؛ إذ به يبصر عواقب الأَشياءِ . بل الذي قصد السلوك بالبروق ، والاستضاءَة بنور النار ، إذا ذهب كان أَعظمَ حسرة وأَشد خوفاً من النارِ ، وشدةِ المطرِ ، وخبثِ الطريق من الذي لم يعرف - في الابتداءِ - نفع النار أَو البرق ، ويكره المطر على شدة رغبته فيه ، والنار بما ذهب منه . وكذلك المنافق في الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر إذ به يُرد إلى درك الأَسفل ، ولا قوة إلا بالله . وكذلك الكافر لم يبصر - بما أَعطاه من البصر - عوقب البصر الظاهر ، ولا يسمع - بما أَنعم عليه من السمع - عواقب السمع ؛ إذ حق ذلك أن يؤدي ذلك ما أَدركه إلى العقل ليعتبر به أَنه لم يخلق شيء من ذلك بالاستحقاق ، ولا يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة ، فيعلم عظم نعمة الله وخروج مثله عن العبث ، فيقوم بأداءِ شكره ؛ وبذلك يصير به إلى الجزاءِ في العواقب ، ولا قوة إلا بالله . وقوله عز وجل : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } . يحتمل وجهين : أَحدهما : صم ؛ لأَنه ختم على آذانهم ، وعلى سمعهم ، وعلى قلوبهم ؛ فلا يسمعون ، ولا يبصرون ، ولا يعقلون . ويحتمل : أَنهم صم بكم عمي ؛ لما لم ينتفعوا بأسماعهم ، وأَبصارهم ، وقلوبهم . ثم اختلف في جواز إضافة لفظ " الاستهزاءِ " إلى الله تعالى : فأجازه قوم ، وإن كان ذلك قبيحاً من الخلق ؛ لما قبح منهم بما لا أحد يستهزئ بأَحدٍ - إما لجهله ، أَو لقبح في الخلقة ، أَو لزيادة في الخلق - إلا والمستهزئ نحو هذه قد يحتمل ذلك لولا إنعام الله عليه الذي قد أغفل عنه ، أَو لدناءة في الخلق باشتغاله بما ذكر ، مع ما لعل الإغفال من هذ أَوحش ، وأَقبح من حال المستهزأ به . ولذلك قال عز وجل : { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ … } الآية [ الحجرات : 11 ] . وذلك نحو التكبر : أنه قبيح من الخلق ، بما لهم أَشكال في الحدث ، وآثار الصنعة ، واحتمال كل منهم بما احتمل غيره . وجائِز إضافته إلى الله تعالى ، لتعاليه عن الأَشباه والأَشكال ، وإحالة احتمال ما احتمل غيره ، وبه يقول حسين النجار . وأبى قوم ذلك إلا على أَثر أَحوال تصرف فهم السامع إلى معنى الاستهزاءِ ، نحو أن يذكر على أثر فعل له جزاء ؛ فيفهم منه جزاءُ الاستهزاءِ كذكر السيئة في الجزاء ، والمكر ونحو ذلك . ثم يخرج ما نحن فيه على أوجه : أَحدها : ما بينا . والثاني : ما ينسب إليه فعل المأْمور ، نحو قول المؤمنين للمنافقين في الآخرة : { ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ } [ الحديد : 13 ] وقول أَهل الجنة ، ودعائهم أهل النار بالخروج ، لو ثبت ما ذكره الكلبي ، وقول الملائِكة : { فَٱدْعُواْ وَمَا دُعَاءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [ غافر : 50 ] وغير ذلك . وقوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ * يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 19 - 20 ] . ثم ما ذكر من " الظلمات " يخرج على وجوه ثلاثة : أَحدها : ظلمات كفرهم بقلوبهم ؛ إذ أظهروا الإيمان أَولاً . والثاني : المتشابه في القرآن ، وهو الذي تعلق به كثير من المشركين حتى نزول قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ … } [ آل عمران : 7 ] . والثالث : ما في الإسلام من الشدائد ، والإفزاع من الجهاد ، والحدود وغير ذلك . وأَمكن صرف الأَول ، والآخر إلى الفريقين : الكافر ، والمنافق ، وصرف تأْويل المتشابه إلى الكافر . على أنا بيَّنا أَن لكلٍّ من ذلك حَظًّا ، ويدل آخر الآية - وهو قوله : { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } - على أن المثل لهم ، إلا أن المنافق شريكهم في الكفر ، والله الموفق . وجائِز أن يكون المثل المضروب بالآية إنما هو للقوم الذين شهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كانوا قبل بعثه صنفين : صنفٌ ينتحل الكتاب الذي هو عندهم مما جاءَ به الرسل ، [ لكن أَئمتهم ] قد غيروا ما في كتبهم من دين الله وأَحكامه حتى عطلوا ذلك ، وأَبدعوا غير الذي جاءَت به الرسل من الدين والأَحكام . بَيَّن ذلك قولُه : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ … } الآية [ آل عمران : 105 ] . وقوله : { قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ } [ المائدة : 15 ] . وقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ … } [ الأنعام : 159 ] . ومنهم من أبدع الكتاب ونسب إليهم ؛ كقوله : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ … } الآية [ آل عمران : 78 ] . تبين ما ظهر من التفرق فيهم ، ومن القول في أنبيائهم ، وفي الله سبحانه ، ومعلوم أن دين الرسل واحد غير مختلف ، وبما كان من الفترة اندرست الكتب ، وذهبت الرسوم ؛ فصاروا في ظلمة الضلالة ، وحَيرة الزيغ ، وتاهوا في سبيل الشيطان ، وانقطع من بين أظهرهم الأَئمة الذين يوثق بهم في الدين ، بما ليس لأَحد برهان يشهد له بالتمسك بسبيل الأنبياءِ ، والاعتصام بكتبهم ؛ إِذْ كلهم يدعي ذلك - وقد ظهر فيهم القول المختلف والمتناقض الذي لا تحتمله الحكمة ، وَلا يصبر عليه العقل . وصنف : لا ينتحل الكتاب ، ولا يؤمن بنبي من الأَنبياءِ ، بل يعبدون الأَوثان والنيران والأحجار ، وما يهوون مما لا يملك الضرر ولا النفع ، ليس لهم شرع ، بل هم حيارى ، لا يعرفون معبوداً ، ولا يبصرون طريقاً ، وليس فيهم مَنْ إذا فزعوا إليه دلهم على المحجة ، وأطلعهم على الحق ، بل هم في الضلال تائهون ، وفي الظلمات متحيرون . فأَحوج الفريقين جميعاً ما حل بهم من الحيرة والتِّيه ، إلى من يشفيهم من داءِ الضلالة بنور الهدى ، ومن ظلمة الاختلاف بضياءِ الائتِلاف ، ويخرجهم من سبيل الشيطان إلى سبيل الله ، ويَدُلُّهم على معرفة المعبود الحق لئلا يتخذوا من دونه أَرباباً . فبعث إليهم - عند شدة حاجتهم - رسولاً ، وأكرمهم بما أَراهم من الآيات التي يعلمهم بها أَنه أنعم بها عليهم ؛ ليستنقذهم من الضلالة إن هم أَطاعوه ، وشكروا نعمة الله . فكانوا كقوم بُلُوا بظلماتِ الليل والسحاب ، فتحيروا فيها بما حالت الظلمة بينهم وبين حاجاتهم ، وتعذر عليهم الوجه فى وضع أَقدامهم ، فتاهوا فدفعهم التِّيهُ إلى استيقاد النار ؛ ليبلغوا حوائجهم ، ويأْمنوا العَطَبَ في وضع الأَقدام . وكقوم بُلُوا في شدة الجوع والعطش لضيق الزمان وجَدْبِهِ ، فاستغاثوا بمن يملك كشف ذلك عنهم فأَغاثهم بالمطر . ثم منهم من عرف نعمة من أَنعم عليهم بالوقود وأَغاثهم بالمطر ، فتلقوا نعمته بالشكر فنجوا بذلك فما خشوا من الهلاك ، ووصلوا إلى حوائِجهم بالنار والمطر . وذلك مثل من اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وعرف نعم الله فشكره . ومنهم من تلقى نور النار بالكفران والجهل بالمنعم به عليه ، ونسي ما كان عليه ، وهو قوله : { فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ } [ الزمر : 49 ] آيات فيها ذكر ما بَينت ، وقوله : { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ … } الآية [ الإسراء : 67 ] ، فأَذهب الله نورَهُ فلا ينتفع بنور النار ، ولا وَصل إلى حاجته التي بها يقضى . وذلك مثل الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم : أنهم لم ينتفعوا به ، ولا قضوا حاجاتهم ، بل زادهم ذلك ظلمةً وحيرة ، كمستوقد النار إذا ذهب بصرهُ . وكذلك قوم بُلوا بالسلوك في الطريق عند شدة الظلمة ، ولم يتلقوا النعمة بالشكر من الوجه الذي جُعل لهم لوضع أَقدامهم بنور البرق فأَذهب الله نوره ، وسَكَنَ لمعانُ البرق ؛ فعاد الغياث له هلاكاً ، والمطر - الذي وجهه - عليه بلاء . فمثله من كابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعترض على الاستماع إليه ، ولا قوة إلا بالله .