Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 124-129)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } . قيل : الابتلاء والامتحان في الشاهد : استفادة علم خَفِيَ عليه من الممتحن والمبتلى به ، ليقع عنه علم ما كان ملتبساً عليه . وفي الغائب لا يحتمل ذلك ؛ إِذ الله - عز وجل - عالم في الأَزل بما كان ، وبما يكون في أَوقاته أبداً . ثم يرجع الابتلاء منه إلى وجوه : أَحدها : أَن يخرج مخرج الأَمر بالشيء أَو النهي عنه ، لكن الذي ذكر يظهر بالأمر والنهي ؛ فسمي ابتلاء من الله تعالى . والثاني : ليكون ما قد علم الله أَنه يوجد موجوداً ، وليكون ما قد علم أنه سيكونُ كائناً . وعلى هذا يخرج قوله : { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ } [ محمد : 31 ] ، حتى نعلمه موجوداً ، كما علم أَنه يوجد ؛ كما قال : { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ } [ الأنعام : 73 ، التوبة : 94 ، 105 ، الرعد : 9 ، المؤمنون : 92 ، السجدة : 6 ] ، علم الغيبَ ، علم أنه مُوجَدٌ . وَعلم الشهادةَ ، عَلِم به موجوداً ، حتى يوجد الذي علم أَنه يجاهد منهم - مجاهداً ، و [ الذي ] يصبر منهم صابراً . ثم اختلف في الكلمات التي ابتلاه بها : فقال بعضهم : الكلمات : هي التي ذكرت في سورة الأَنعام ، وهو قوله : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً } [ الأنعام : 76 ] ، ورأَى القمر بازغاً ، ورأَى الشمس بازغة ، هي الحجج التي أَقامها على قومه بقوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] . وقيل : ابتلاه بعشر ففعلهن : خمسةً في الرأْس ، وخمسة في الجسد . لكن في هذا ليس كبيرُ حكمةٍ ؛ إِذ يفعل هذا كل واحد ، ولكنَّ الحكمة فيه هي : ما قيل : إن ابتلاءه بالنار ، حيث أُلْقي فيها ، فصبر ، حتى قال له جبريل : " أَتستعين بي ؟ قال : أَمَّا منْك فلا " . وابتلي بإسكان ذريته الوادي ، الذي لا ماءَ فيه ، ولا زرع ، ولا غرس . وابتُلي بالهجرة مِن عِندهم ، وتركهم هنالك - وهم صغار - ولا ماءَ معهم ، ولا زرع ، ولا غرس . وابتلي بالهجرة إلى الشام . وابتلي بذبح ولده . ابتلي بأَشياءَ لم يبتل أَحد من الأَنبياء بمثله ، فصبر على ذلك . ففي مثل هذا يكون وجه الحكمة . وفيه لغة أُخرى : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } بالرفع { رَبُّهُ } بنصب الباء . ومعناه - والله أعلم - : أَنه سأَل ربه بكلمات فأعطاهن . وهو تأْويل مقاتل . وهو أَن قال : اجعلني للناس إِماماً . قال : نعم . قال : { وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } ، قال : نعم قال : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } . قال نعم . قال : و { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } . قال : نعم . قال : { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } . قال نعم . مثل هذا : سأَل ربه هذا فأَعطاهن إياه . وقوله : { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } . يحتمل : جعله رسولاً يقتدى به ؛ لأَن أَهل الأديان - مع اختلافهم - يدينون به ، ويقرون نبوته . ويحتمل : إماماً من الإمامة والخلافة . وقوله : { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } . فإن قيل : كيف كان قوله : { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } جواباً لقوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } وكانت الرسالة في ذريته ؛ كقوله : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [ الزخرف : 28 ] ؟ يحتمل قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } : أَحب أَن تكون الرسالة تدوم في ذريته أَبداً ؛ حتى لا تكون بين الرسل فترات ؛ فأُخبر أَن في ذريته من هو ظالم ، فلا ينال الظالم عهده . ويحتمل : أَن يكون سؤالهُ جعلَ الرسالة في أَولاد إِسماعيل ؛ لأَن العرب من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - فأُخبر أَن في أَولاده من هو ظالم ؛ فلا يناله . والعهدُ : ما ذكرنا ، هو الرسالة والوحي . وقال الحسن : لا ينال الظالم في الآخرة العهدَ . ويحتمل : أَن يكون المراد من ذلك : وذريتي ، فأخبر أَن فيهم من لا يصلح لذلك . ويحتمل : أَن يريد به الإمامَة لاَ النبوة ، وقد كانت هي في نسل كل الفرق ، والنبوةُ كانت فيهم . ويحتمل : أَن يكون قصدَ خصوصاً من ذريته ، ممن علم الله أَن فيهم من لا يصلح لذلك . ولا يحتمل : أن يريد به الإمامَة لا النبوة وقد ذكر ، أَو قال الإنسان : قيل له : إِنه من ذريتك لكن لا ينال من ذكر ؛ ولهذا خص بالدعاءِ من آمن منهم دون من كفر . وقوله : { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } . قيل : المثابة . المجمع . وقيل : المثابة : المرجع ، يثوبون : يرجعون . وقيل : يحجون . وقوله : { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } . هو فعل العباد ؛ لأَنهم يأْمنون ويثوبون . أَخبر أَنه جعل ذلك ؛ ففيه دلالة خلق أَفعال العباد . ثم بين فيه - عز وجل - شدة اشتياق الناس إليها ، وتمنيهم الحضور بها ، مع احتمال الشدائد والمشقة ، وتحمل المؤن ، مع بعد المسافة والخطرات ؛ فدل أَن الله تعالى - بلطفه وكرمه - حبب ذلك إلى قلوب الخلق ، وأَنه جعل من آيات الربوبية والوحدانية ، وتدبير سماوي ، لا من تدبير البشرية . وفيه دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ إِذ أَخبر عما قد كان ؛ فثبت أَنه أَخبر عن الله عز وجل . وقوله : { وَأَمْناً } لمن دخله من عذاب الآخرة . وقيل : { وَأَمْناً } لكل مجترم آوى به ، وآوى إليه من القتل ، وغيره ؛ كقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] عن كل ما ارتكب . وأما عندنا : فإنه إن قتل قتيلاً ، ثم التجأَ إِليه ، فإِنه لا يقتل ما دام فيه ؛ لأَنه لا يقتل للكفر هنالك . فعلى ذلك القصاص ؛ لقوله : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 191 ] ، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال : " إِنَّ مَكَّةَ حَرامٌ بِتَحْرِيم الله إِيَّاهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْض ، لَمْ تَحِلَّ لأَحِدٍ قَبْلي وَلاَ تَحلُّ لأحد بَعْدِي . وَإِنَّما أُحلَّتْ لِي سَاعَةً مِن نَهَارٍ . لاَ يُخْتلَى خَلاَهَا ، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا ، وَلاَ يُنَفَّر صَيْدهَا " . وما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " لو ظفرت بقاتل عمرَ في الحرم ما قتلته " وإِذا قتل في الحرم يقتل به هنالك . والوجه فيه : أَن إِقامة مثله عليه فيما يرتكبه في الحرم أحق ؛ إذ هي كفارة ؛ لينزجر عما ارتكب ، وأَحق ما يقع فيه الزجر بمثله ، ما هو فيه من المكان . وإذا قتل في غير الحرم ، التجأ إلى الحرم - قال أَبو حنيفة - رحمه الله - لا يخرج من الحرم . وأَبو يوسف - رحمه الله - جعل ذلك للسلطان ، ذهب إلى أَنه قال : { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } ، كما قال : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } ، فأوجب الإخراج ، من حيث أخرج ، كما أوجب القتل من حيث قتل . [ و ] قيل : لم يُخرَج من الحرم إذا لم يخرج منه ، كما لم يُقتل في الحرم إذا لم يقتُل فيه . أَو نقول بالإخراج للقتل ، قَصْد ما لم يَسُغْ فعله فيه كان كالصيد يخرج ، يلزم فيه ما يجب بالقتل ؛ فمثله في موضع الحظر . وبعد فإِنه لو أخرج لم يأمن بالحرم ، بل زيد في عقوبته ؛ إِذ الإخراج عقوبة ، فقد زيد عليه ، مع ما لم يجز في الكفار - الذين نهوا عن قتلهم - إِخراجهم للقتل ، كذلك القاتل . وذهب الآخر : إلى أنه يُخْرج ؛ لإقامة الحد عند أبي حنيفة - رحمه الله - وإن لم يرتكب فيه . وإِخراج المرتكب له ، أَقل في الحكم من إِقامته عليه . غير أنه غلط ؛ لأَنَّ إِخراجه للقتل يرفع من الحد ؛ لأَنه يصل إلى قتله ، ولما في القتل عقوبة واحدة ، وفي الإخراج عقوبتان . ثم لم يلزمه العقوبة الواحدة - وهي القتل - إِذا لم يقتل فيه كان من ألا يلزمه العقوبتان أَحق . وقوله : { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } . اختلف في { مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ } : منهم من جعل الحرم كله مقامه - يصلى إليه - لمقامه هنالك بأَولاده . ومنهم من جعل المسجد مقامه ؛ لأَنه كان مكان عبادته فهو المصلى . ومنهم من جعل ما ظهر من مقامه - وهو موضع ركوبه ونزوله - لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَنه لما قدم مكة قام إلى الركن اليماني ، فقال عمر : " يار سول الله ! أَلا تتخذ مقامَ إبراهيم مصلى ؟ ! " فأَنزل الله - تعالى - : { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } " . وعندنا : القبلةٌ البيتُ ؛ كقوله - تعالى - : { فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ، 150 ] وقوله : { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] أي : مقاماً لقيام العبادات . وقوله : { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } . فيه الأمر ببنائه . وقوله : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } . يحتمل التطهير لوجهين : أَحدهما : عن الأَصنام والأَوثان التي كانت هنالك ، وعبادةِ غير الله والأَنجاسِ . ويحتمل : التطهير عن كل أَنواع الأَقذار ، وعن كل أَنواع المكاسب ، على ما روي في جملة المساجد . وقوله : { لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } . قيل : الطائف : هو القادم ؛ سمي طائفاً لدخوله بطوافه . وقيل : الاستحبابُ الطوافُ ؛ لذلك قال أَصحابنا - رحمهم الله - الطوافُ للقادم أَفضل من الصلاة . والصلاة للمقيم أَفضل . والعاكفُ : المقيمُ . { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } منهما جميعاً . وقيل : العاكفون : المجاورون ؛ يعني : من أهل مكة والقادمين إليها . وقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } . قد ذكرنا الوجه في قوله : { آمِناً } . وقوله : { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } . لما علم أَن المكان ليس بمكان ثمرٍ ولا عُشب دَعَا ، وَسأَل ربه : أن يرزق أَهله عَطفاً على أَهله ، وعلى كل من ينتاب إليه من الآفاق . ثم خص المؤمنين بذلك ؛ لوجوه : أَحدها : أَنه لما أَمرهما بتطهير البيت عن الأَصنام والأَوثان ظن أَنه لا يجعل لسوى أَهل الإيمان هنالك مقاماً ؛ فخص لهم بالدعاءِ ، وسؤال الرزق . والثاني : أَنه أَراد أَن يجعل آية من آيات الله ؛ ليرغِّب الكفار إلى دين الله ، فيصيروا أُمة واحدة ؛ فكان كقوله : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ … } الآية [ الزخرف : 33 ] . ووجه آخر قيل : لما كان قيل له : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } فلعله خشي أَن يخرج ذلك مخرج المعونة لهم على ما فيه العصيان . وفي ذلك : أن لا بأْس ببيع الطعام من الكفرة . ولا يصير ذلك كالمعونة على ما هم عليه . ويحتمل الدعاءُ المبهم للكفرة : القبحَ ؛ إذ ذلك اسم من يعبد غير الله . وقوله : { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } . بالنعم ؛ لأن الدنيا دار محنة ، لا توجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق ، ولا إلى الولي من العدو في الدنيا . وأما الآخرةُ فهي دار جزاء ، ليست بدار محنة ؛ فيوجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق . ومعنى قوله : { قَلِيلاً } لأن الدنيا كلها قليلٌ . ثم الامتحان على وجهين : امتحانٌ بالنعم ، وامتحان بالشدائد . وقد قرئ : " فأَمْتِعْه " على معنى دعاءِ إِبراهيم - عليه السلام - " ومن كفر فأمتِعْه " بالجزم . فإن قيل : لم لا كان تفاضل الامتحان بتفاضل النعم . وإنما يعقل فضل الامتحان بفضل العقل ، ويعلم أَن المؤمن هو المفضَّل بالعقل . كيف لا وقع فضل ما به يمتحن - وهو النعم - لأَن العقل الذي به يدرك الحق واحد ، لا تفاضل فيه لأَحد . ثم العقل الذي به يمتحن واحد ؛ فهما متساويان - فيما به دَرْكُ الحق - إلا أَن أَحدهما يدركه فيتبعه ، والآخر يدركه فيعانده . فهو - من حيث معرفته - ذو عقل ، أَعرض عنه ؛ فيسمى معانداً ، إذ من لا عقل له يُسمى مجنوناً . وقوله : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ } . ذكر الاضطرار ، وهو كقوله : { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [ الدخان : 47 ] وهو السوق ، وكقوله : { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ } [ مريم : 86 ] إِنهم يساقون إليها ، ويُدَعُّون ، لا أنهم يأْتونها طوعاً واختياراً . وقوله : { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } . أي : بئس ما صاروا إليه . وقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } . أُمِرَا برفع البيت وببنائه ؛ فَفَعلا ، ثم سأَلا ربهما : أَن يتقبل منهما . فهكذا الواجب على كل مأْمور بعبادةٍ ، أَو قُربة - إذا فرغ منها ، وأَداها - أَن يتضرع إلى الله ، ويبتهل ؛ ليقبل منه ، وأَلا يرد عليه ؛ ليضيع سعيه . وقوله : { إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } لدعائهم . { ٱلْعَلِيمُ } بما نَوَوْا وأَضمروا . وقوله : { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } . والإسلام قد ذكرنا فيما تقدم أَنه يتوجه إلى وجوه : أَحدها : هو الخضوع له والتذلل . والثاني : هو الإخلاص . ثم اخْتَلَفَ أَهل الكلام في الإسلام : فقال بعضهم : إِنه يتجدد في كل وقت ؛ لذلك سأَلوا ذلك ، وهو كقوله - تعالى - { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ النساء : 136 ] معناه : آمنوا بالله في حادث الوقت ؛ لأَنه تارك فعل الكفر في كل وقت ؛ فبترك الكفر يتجدد له الإيمان . وعلى ذلك : يخرج تأْويلنا في الزيادة بقولهم : زادتهم إيماناً يتجدد له ، ويزداد في حادث الوقت . وقال آخرون : كان سؤالهم الإسلام سؤال الثبات عليه والدوام . وقد ذكرنا أَن العصمة لا ترفع خوف الزوال . ومثل هذا : الدعاء والسؤال - على قول المعتزلة - يكون عبثاً ؛ لأَنه لا يملك إِعطاءَ ما سأَلوا عندهم ؛ بل هم الذين يملكون ذلك ، فيَخرج السؤال في هذا - عندهم - مخرج اللعب والعبث ، فنعوذ بالله من السرف في القول والزيغ عن الهدى . ثم الإيمان : هو التصديق والتصديق بالقلب يتجدد في كل وقت ، فلا وقت يخلو القلب عنه في حال سكونٍ ، أَو حال حركةٍ ، والله أعلم . وقوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } . يحتمل : أَن الأُمةَ المسلمة هي أُمةُ محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك : أَنَّه لم يكن من أَولاد إِسماعيل رسولٌ سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، فسألا : أَن يجعل من ذريتهما رسولاً ، وأُمه مسلمة ، خالصة له . وإنما الرسل كانوا من أَولاد إِسحاق ومن نسله ، والله أَعلم . وقوله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } . وقيل : في قوله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } : يريد الإِراءَة إلى يوم القيامة ، يدل على قراءَة عبد الله : " وأَرهم مناسكهم " ، وفي قراءَة غيره على ضم الرؤية إلى نفسه . والمنسكُ : هو القربة . وأَفعالُ الحج سميت مناسكاً . ثم لا يحتمل : أَن يسأَلا ذلك ، من غير أَمر سبق منه - عز وجل بذلك ؛ لأَنه ليس من الحكمة سؤال : إِيجاب فضل عبادة ، أَو قربة بغير أَمر ؛ فدل أَنه قد سبق منه بذلك أَمر ، لكنه لم يبين لهما ، فسأَلا : تعليم ماهيتها وكيفيتها ، فعلمهما جبريل ذلك . ففيه : دلالة تأْخير البيان عن وقت قرع السمع الخطاب ؛ أَلا ترى أَنه أَمر بالنداء للحج ولم يعلم . والثاني : أَن آدم والملائكة قد كانوا حجوا هذا البيت قبل إبراهيم - عليه السلام - فدل أَن الأَمر به قد سبق . والثالث : قوله - في نفس الحج - : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] . ثم لا يحتمل : لزوم الكلفة بالخروج قبل وجوب الحج ؛ لما لم يأْمر بفعل ما له إيجاب الحقوق والفرائض . لكنها أوجبت شكراً لما أَنعم عليه ؛ فدل أَن الحج كان واجباً قبل الخروج ، وقد تأَخر الإمكان ؛ فمثله البيان ، والله أعلم . واحتج بقوله : { أَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ } [ البقرة : 43 ، 83 ، 110 ، النساء : 77 ، 103 ] : أَن ظاهره يوجب خضوعاً ، لزم به ما أَداه السمع على تأَخر ما بينه ، وكذلك الزكاةُ ، وكذا ظاهرُ قوله : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] . واحتج أَيضاً بقول القائل وسؤاله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن أَوقات الصلاة ففعله في يومين ، وقد كان يمكنه تعليمه وقت السؤال ، لكنه أَخر ؛ فدل أَن البيان يجوز تأَخره عن وقت قرع الخطابِ السمعَ . ثم في تأْخير البيان محنة المخاطب به ؛ أَمر في تعلم العلم وطلب مراد ما تضمن الخطاب ، والله أعلم . وذكر في أَمر الحج - عند كل نسك من المناسك - معاني لها ، لكنها ذكرت الأَحوالِ كانت في شأْن آدم وأَمر إبراهيم ، وأَمر محمد - عليهم الصلاة والسلام - وقد كان الحج قبلهم . وقد ذكر في أَمر الرَّمَل أَنه كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ؛ ليُعلِم به قوتهم ؛ حتى قال عمر - رضي الله عنه - : " علام أَهز كتفي ، وليس أَحد إِزاءَه ؟ ! لكني أَتبع رسول الله ، عليه السلام " أَو كما قال ، رحمه الله . وقد ذكر ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام : أَنه رمل ، ولم يكن في وقته من كان الفعلُ لأَجله ، وكذلك غيرُه من الأَنبياء ، صلى الله عليهم وسلم . إلا أَنَّا نقول : جعل الله كذلك ؛ لعلمه بالحاجة إلى ذلك في وقت قد جعل ذلك نسكاً ، فحفظ ذلك على حق النسك ، وإن لم يكن المعنى مقارناً له في كل وقت ، على ما قيل : " إِن صلة الرحم تزيد في العمر " - بمعنى جعل الله أَجله ذلك بما علم أَنه يصل الرحم - فيكون صرف العمر إلى تلك المدة لذلك . وكما يكتب شقيّاً أَو سعيداً في الأَزل للوقت الذي فيه يكون كذلك ، ونحو ذلك ، والله الموفق . ثم الأَصل : أَن الله - جل ثناؤه - جعل على عباده في كل الأنواع التي يتقلب فيها البشر للمعاش ، أَو لأَنواع اللذات ؛ لتكون العبادة منهم في كل نوع مقابل ما يختار صاحب ذلك شكراً لما مكن من مثله ، لما يتلذذ به ويتعيش ؛ إِذ كل لذة ، وكل ما يتعيش به نعمة خصَّ الله بها صاحبها ، بلا تقدُّم سببٍ يستوجبها العبد ؛ فلزمه - في الحكمة - الشكر لمن أَسدى إليه تلك النعمة . وعلى ذلك : نجد التقلب - من حال القيام ، إلى حال القعود ، والاضطجاع - أَمراً عامّاً في البشر ، من أَنواع اللذات ، فمثله يكون العبادة بذلك النوع عامة ، نحو الصلوات . وعلى ذلك : معنى الرق ، والعبودةُ لازم لا يفارق ، فمثله الاعتراف به ، والاعتقاد دائم لا محالة لا يخلو منه وقت . وعلى ذلك : أَمر إِعطاءِ النفس شهواتها ، من المطاعم ونحو ذلك ؛ لا يعم الأَوقات عموم التقلب من حال إلى حال ؛ إذ لا يخلو عنها المرءُ وإن كانت مختلفة . فجعلت عبادة الصيام في خاص الأَوقات . ثم لم يمتد ما بين الأَوقات امتداداً متراخياً ، فعلى ذلك : جعل العفو عن الصيام ، لم يجعل كذلك ، بل في سنة ، مع ما قد يدخل الصيام في كثير من الأُمور . ثم للناس في الأَموال معاش ، وبها تلذذ : لكن منها قوت لا بد منه ؛ فالارتفاق بمثله لازمم ، لا يحتمل جعل القربة فيه ، سوى أَن جعل ذلك لعينه قربة ؛ إذ فرض على المرء الاستمتاع به . ومنها فضْل ، به جعلت قرب التصدق ؛ لأَنه له بحق التلذذ ، لا بحق ما لا بد منه . وكذلك نوع تقلب الأَحوال في النفس التي هى بحق الضرورة ، لم يجعل لمثل ذلك فضل قربة يؤديها سوى ما به حياته . وذلك يجعل بحكم الفرض عليه ولا ندبه . وكذلك أَمر الصيام : لم يجعل عما لا بد منه للقوة ، ولكن فضل قوة في الاحتمال . لكن الزكاة هي من حقوق ما يجوز أَن يكون هي لغير من عليه ، ففرض عليه البذل إلى غيره . وحقوق الأَفعال لا تحتمل أَن يصير السبب الذي له به يجب أَن يكون لغيره فيجب عليه ؛ فجعل فرض ذلك الفعل في نفسه . وهي تجب للأَحوال لوجهين : أَحدهما : أَن فيها حقوقاً شائعة ، على نحو النفقات ، فأخرت هي إلى الحول ؛ تخفيفاً ، أَو لما هي تجب فيما له حكم الفضل . والفضل : ما يفضل عن الحاجة . والحاجات تتجدَّد في أَوقات - لا أَنها تتتابعُ - لا يظهر في مثله الفضل إِلا بمدةٍ بينةٍ أكثرها حول . ثم فَرْضُ الحجِّ جُعِل في العمر مرة ؛ لأَنه في حق الأَسفار المديدة ، التي لا يختار مثلها للذات إلا في النوادر ، فلم يوجَب مثلُه إلا خاصّاً ؛ فأُوجب في جميع العمر مرة . وقد أَوجب في الأَموال في كل سنة ؛ لأَن أَرباب الأَموال قد يتقلبون في البلاد النائية رغبة في فضول اللذات ؛ فلذلك يجوز فرض مثل ذلك . وعلى ذلك أَمر الجهاد - على أن الجهاد كالذي لا بد من الأَقوات - إذ في ترك ذلك خوف غلبة الأَعداءِ ، وفيها تلف الأَبدان والأَديان ، والأَموال ففرض على قدر ما فرض من الأَقوات ؛ لما بينت من الخلل ، ثم كانت أَحوال أَهل السفر تكون على غير المعروف من أَحوال المقيمين - في حق الرَّزانة والوقار ، وحق الانبساط والنشاط - فعلى ذلك : فرائض الأَمرين - نحو الجهاد - فيه أَنواع : ما عُدَّ في غيره من اللعب ، وكذلك أَمر الحج . وعلى مثل هذا يخرج رمي الجمار والرمَل والسعي ونحو ذلك . فجعل ذلك في حق الأَسفار سُنَّة ، وإن كان مثل ذلك عُدَّ في غير ذلك عبثا ؛ إِذ قد بينا مخرج العبادات ، على ما عليه أَحوال العباد بأَنفسهم ، لولا العبادات ، والله أعلم . ثم جعل ذلك في أَمكنة متباعدة الأَطراف ؛ إِذ هو بحق أَمر الأَسفار يجب في المعهود ؛ فجعل في النسك ، بنفسه بالذي به يقطع الأَسفار ، ولا قوة إلا بالله . ووجه آخر : من المعتبرات : أَن العبادات جعلت أَنواعاً : منها ما يبلغ القيام بحقها العامَ فصاعداً ، وهذه لم يجز أَن يجعل وقتها ينقص عن احتمال فعلها . ولا وقت من طريق الإشارة أجمع لمختلف الأَحوال بعد سقوط اعتبار العمر من السنة . ثم لأَن فعل الحج قد يمتد ذلك ، ويجاوز ، لم يجعل ذلك وقتاً له ، وإنما جعل العمر ، لما كان لا وقت يشار إليه إلا وجميع ما فيه مما يحتمله العام الآخر ، وما تقدمه وما تأَخره ، ثم في العمر أَحوال ، لا تحتمل إِضافتها إلى الأَعوام ؛ لأَن ما يضاف إلى عام فذلك لكل عام . وليس ما يضاف إلى العمر موجوداً بحق الأَعوام . فجعل ذلك وقته ، والله أعلم . ثم الزكاة هي تجب للأَموال ؛ صوناً لها ؛ لكسب عدد ، وفضل غنى ، ولكن على ذلك تكتب لأَحوال الحياة لا لما يخلف ؛ فلم يمتد أَمرها إلى العمر ؛ على أَنها جعلت حقّاً للفقراء . ومتى أُريد جعل الوقت له العمر يصير لغيره ، ويجب فيه ما يجب في الأَول ؛ فتبطل الزكاة ويبقى الفقراء بلا عيش ؛ إذ الله - بفضله - قدر أَقوات الخلق ، ثم فضل الخلق في الأَملاك ، حتى كان بعضهم بحيث لا يملك شيئاً ، وبعضهم يجاوز ما ينالُ أَضعافَ عمره . ثبت أَن ذلك له بما يقتضي به كفاية الفقراء ؛ فلا بد أَن يجعل لذلك مدة يتوسع في ذلك الفريقان جميعاً . ثم كانت الأَقوات - التي هي مجهولة للخلق جميعاً - تتجدد في كل عام على ذلك ؛ إذ جعلت أقوات الفقراء في أموال الأَغنياء ، جعلت في كل عام . على أَنه إِذ جعلت أَقوات الخلق في بركات السماء والأَرض ، جعلها الله متجددة بتجدد الأَعوام ، ولا قوة إلا بالله . والصلاة والصيام عبادتان تلزم قوى الأَبدان ، فعلى ما يختلف قواهما ، اختلف في الأَمر بهما والترك ، وفي أَنواع الرخص . لكن الصلاة ليس فيها مكابدة الشهوات ، ولا مدافعة اللذات ؛ إِذ لا سبيل إلى مثلها متتابعاً لما يصير اللذة أَلما ، والشهوة وجعاً ؛ فيبطل حق التتابع ؛ وقدر المفروض من الصلوات لا يشتغل عما يقوم بها النفس . والصيام يضاد ذلك ، ويضر في البدن . فجعل عبادة الصلوات في كل يوم ، وعبادة الصيام في أَوقات متراخية ؛ إذ هي تضاد معنى المجعول له الأغذية بين إِقامة الأَبدان ، وفي الصيام خوف فنائها ؛ لذلك استعين بطول الاغتذاء على أَوقات الصيام ، ولا قوة إلا بالله . وإن شئت قلت : إن الله أَنعم على البشر بما هو غذاء وقوام ، وبما هو لذة وشهوة ، ثم أَنعم عليهم بما هو لهم ربه رفعة وجاه عند الخلق - وهي الأَموال - فأَلزمهم في كل نوع من هذه الأَنواع عباداتٍ . وعلى ذلك : وقع كل نوع منها لفوت النعمة ، التي هي المرغوبة المختارة في الطبيعة ، وإلى ما يدوم تلك يدعو العقل ببذل ما ينقطع منه ، ثم جعلت قوى النفس بشهواتها ، ونعم الأَموال بأَنواع الكد والجهد . فعلى ذلك : خفف حقوق الأَموال ؛ فلم يجعل إلا في الفضل الذي لا اختيار لهم ألا يبلغوا بالجهد ذلك ، ففي ذلك جعلت الحقوق على ما يحتمل الوسع لهم من الترتيب ، مع اليسر الذي أَخبر الله أَنه يريد بهم ذلك ، لا العسر ، والله أعلم . وقوله : { وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } . دل سؤال التوبة أَن الأَنبياء - عليهم السلام - قد يكون منهم الزلات والعثرات ، على غير قصد منهم . ثم فيه الدليل على أَن العبد قد يُسْأَل عن زلة لم يتعمدها ولم يقصدها ؛ لأَنهم سأَلوا التوبة مجملاً . ولو كان سبق منهم شيء علموا به وعرفوه لذكروه ؛ فدل سؤالهم التوبة مجملاً على أَن العبد مسئول عن زلات لم يتعمدها . وقوله : { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } . يحتمل وجوهاً : يحتمل { رَسُولاً مِّنْهُمْ } : من المسلمين : لأَنه أَخبر أَن عهده لا يناله الظالم . ويحتمل { رَسُولاً مِّنْهُمْ } : من جنسهم ، من البشر ؛ لأَنه أَقرب إلى المعرفة والصدق ممن كان من غير جنسهم ، كقوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً … } الآية [ الأنعام : 9 ] . ويحتمل { رَسُولاً مِّنْهُمْ } : أي من قومهم ، ومن جنسهم ، وبلسانهم ، لا من غيرهم ، ولا بغير لسانهم - والله أعلم - كقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ } [ التوبة : 128 ] . وقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ } . قيل : الآيات هي الحجج . وقيل : الآيات هي الدين . ويحتمل : يدعوهم إلى توحيدك ، والله أعلم . وقوله : { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ } . يعني القرآن : ما أَمرهم به ، ونهاهم عنه ، ونحو ذلك . وقوله : { وَٱلْحِكْمَةَ } . قيل : الفقه ، يقول : يعلمهم الكتاب وما فيه من الفقه . وقيل : الحكمة ما فيه من الأَحكام من الحلال والحرام . وقيل : الحكمة : هي السنة ها هنا . وقيل : الحكمة : هي الإصابة . وبعض هذا قريب من بعض ، وبالله التوفيق . وقال الحسن : الحكمة : هي القرآن ؛ أَعاد القول به . يعني تكراراً . وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : الحكمة : الفقه . وقوله : { وَيُزَكِّيهِمْ } . قال ابن عباس - رضي الله عنه : يأْخذ زكاة أَموالهم - فذلك يزكيهم - كقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] . وقيل : يزكيهم إلى ما به زكاة أَنفسهم . وقيل : يزكيهم بعمل الصالح . فإن قال لنا قائل ممن ينتحل مذهب الاعتزال : أَليس الله - عز وجل - أَضاف التزكية والهداية إلى رسوله ، ولم يكن منه - حقيقة - فعل التزكية والهداية ، ولا خلق ذلك منه - كيف لا قلتم أيضاً - فيما أَضاف ذلك إلى نفسه : أَن ليس فيه منه خلق ذلك ، ولا حقيقة سوى الدعاء والبيان ، على ما لم يكن في إضافة ذلك إلى رسول الله سوى الدعاء والبيان ؟ ! قيل : كذلك على ما قلتم : أَنه أَضاف ذلك إلى رسوله بقوله : { وَتُزَكِّيهِمْ } [ التوبة : 103 ] ، وبقوله : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، وقوله : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، غير أَنه جعل إلى نفسه فضْلَ هدايةٍ ، لم يجعل ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم وأَثبت زيادة تزكيةٍ ، لم يثبت ذلك لرسوله عليه السلام ؛ كقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] ، وكقوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } [ النور : 21 ] . فدل إضافة تلك الزيادة إلى نفسه على : أَنَّ له فضلَ فعلٍ ، ليس ذلك لرسوله ، وهو خلق فعل الاهتداء ، وفعل التزكية ، وبالله التوفيق . وبعد : فإن الرسول لا يحتمل أَن يملك قدرة فعل أَحد يُقدره عليه لو أَراده بما أَقدرهم الله على الفعل ، حتى قدَروا ؛ فجاز أَن يكون له عليه قدرة . وفي تحقيقها جواز خلق ذلك له ، ومثله في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتمل ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } . أي : لا شيء يعجزه ، والعزيز بذاته ، وكل شيء دونَه غيرُ عزيز ، ذليل . وقيل : العزيز : المنيع . وقيل : العزيز : المنتقم من أَعدائه . والحكيم : هو المصيب في فعله . والحكيمُ في أَمره ونهيه . والحكيم هو الذي أَحكم كل شيء جعله دليلاً على وحدانيته . ثم ذكر بعض المفسرين علل المناسك فقال : سميت العرفات عرفات ؛ لما قيل له : عرَفتَ , . ومِنىً ؛ لما قيل له : تمنَّهُ . ورَمى الجمار ؛ لما استقبل لإبراهيم الشيطان فرمى . فهذه العلل لا تطمئن بها القلوب وتنفر عنها الطباع ، أَلا ترى أَنه ذكر في قصة آدم فعل ذلك جملةً ؛ فزال المعنى الذي ذكر في إِبراهيم عليه السلام ؟ ! ثم قد ذكر في الخبر أَن الملائكة قالت لآدم : حججناها قبلك بأَلفي عام ؛ فثبت أَنهم قد فعلوا هذا كله . ثم يمكن نصب الحكمة فيه من طريق العقل ، وهو أَن الحج قصد لزيارة ذلك المكان ؛ فأَمر بمختلف الأَفعال الواقع بها الزيارة . كالصلاة : إنها الخضوع لعينة ؛ ولذلك أَمر فيها بإحضار الأَفعال المختلفة من حال الخضوع . ثم المرءُ قد يخضع مرة بالقيام ، ومرة بالركوع ، ومرة بالسجود . أَمر بإحضار مختلف الأَفعال التي فيها الزورة . غير أَن الصلاة تخالف الحج ؛ فلأَن أَفعالها فعل المعاش أَمر فيها بإِحضار حالة تذكره الخضوع ، والوقوف لله ، مفرقاً بين تلك الحالة وحالة المعاش ؛ ولهذا تُقْضَى في كل مكان . ثم أَفعال الحج في ظاهرها إلى أَفعال المعاش ، وما إليه وَقع القصد - لا عينها - غير أن فيه تكلف المعاش ؛ ولهذا ما لا يقضى في كل مكان .