Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 153-157)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } . قد ذكرنا تأويل هذه الآية فيما تقدم . وقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } . قيل فيه بوجوه : قيل : إن العرب كانت تعرف الموتى من انقطع ذكره ، إذا لم يبق له أحد يذكر به من نحو الولد وغيره فيقولون عند موت هؤلاء : إن ذكرهم قد انقطع ، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم مذكورون في ملأ الملائكة . وقال الحسن : إن أرواح المؤمنين تعرض على الجنان ، وتعرض أرواح الكفرة على النيران ، فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لغيرهم من الأرواح . ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم بعرضها على النار ما لا يكون لغيرهم من الكفرة ذلك ، فاستوجبوا اسم الحياة بفضل لذة ما يجدون من اللذة على غيرهم . أخبر عز وجل : أن أرواح الشهداء في الغيب تتلذذ مثل تلذذهم على ما كانت عليه في الأجساد في دنياهم هذه . وقيل : إن الشهيد حي عند ربه ، كما عرف في اللغة : أن الشهيد هو الحاضر ، أخبر عز وجل أنهم حضور عند ربهم وإن غابوا عنكم . وقيل : إن الحياة والموت على ضروب : فمنها : الحياة الطبيعية ، والحياة العرضية ، والموت الطبيعي ، والموت العرضي . فالحياة العرضية هي اليقظة ، وهي الحياة بالدين ، كقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [ الأنعام : 122 ] ، وكقوله في الحياة بالعلم ، إنه ميت بالجهل . والحياة الطبيعية : هي التي بها قوام النفس . والموت الطبيعي : هو الذي به فوات النفس . والشهادة : هي التي بها اكتساب الحياة في الآخرة سمى به { حَيَٰوةٌ } . والله أعلم . ويحتمل قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ } ، أي لا تقولوا { أَمْوَاتٌ } ، لما ينفر طبعكم عن الموت ، ولكن قولوا { أَحْيَاءٌ } لترغب أنفسكم في الجهاد ، إذ هو يرد بحياة الدنيا والدين ، مع ما يحتمل أن يكون الله بفضله يجعل لهم ما كان لهم لو كانوا أحياء يعملون . فكأنهم أحياء فيما جعلت لهم حياة الدنيا . والله أعلم . وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } . وقوله : { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } . وقوله : { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ } وما ذكر فيه تذكير من الله عز وجل للخلق ؛ لئلا يجزعوا على ما يصيبهم من أنواع ما ذكر ، من المصائب . وفي كل نوع ما ذكر من المصائب إضمار " شيء " ، من نحو { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ } و { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ } والله أعلم ؛ لأن الله عز وجل أخبر في غير آية من القرآن : أنه خلقهم للموت والفناء ، وأن ما أعطاهم من الدنيا والزينة فيها كله للفناء والفوات بقوله : { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] وقال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [ الكهف : 7 - 8 ] . أخبر أن الدنيا وزينتها للفناء ، فمن عرف أن ذلك كله [ لما ذكرنا يحق عليه ما يصيبه من الأمراض والأوجاع والنقص في الأموال والأنفس وما ذكر إذ ذلك كله ] دون ما ذكر ، وليعلموا أن ما أعطاهم من الحياة والصحة والسلامة لم يكن أعطاهم لحق لهم ، بل للإفضال والإحسان ، وقد جعل ذلك لمدة لا للأبد ، فكأنها في غير تلك المدة لغيرهم لا لهم ، فعرفوا به منته لوقت وحقه وقت الأخذ . ثم يحتمل ما ذكر من الخوف وجهين : على جهة العبادة من نحو الأمر بمجاهدة العدو والقتال معه . ويحتمل لا على جهة العبادة ، وكذلك الجوع يحتمل الجوع الذي فيه عبادة ، وهو الصوم . ويحتمل ما يصيبهم من المجاعة في القحط ما أصاب أهل مكة سنين ، وكذلك قوله : { وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ } ، يحتمل : { وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ } يمتحنهم بأداء الزكاة والصدقة . ويحتمل الهلاك بنفسها ، وكذلك { وَٱلأَنفُسِ } يحتمل الصرف على الوجهين اللذين ذكرتهما . وكذلك { وَٱلثَّمَرَاتِ } . ثم لا يحتمل خصوص الامتحان بما ذكر دون غيره ؛ لأنهم كلهم عبيده ، له أن يمتحنهم بأجمعهم بجميع أنواع المحن ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه لما عرفهم أن كل ذلك إنما خلق للفناء ، فالبعض منه كذلك ، ليخف ذلك عليهم . والله أعلم . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر الذين صبروا على المصائب التي امتحنهم بها عز وجل ، ولم يجزعوا عليها ، وقالوا : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } . فيه الإقرار بوحدانيته عز وجل ، وبالبعث بعد الموت . وقيل : إن هذا الحرف خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم ؛ لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة ؛ ألا ترى أن يعقوب - عليه السلام - على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه ، ولكن قال : { يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [ يوسف : 84 ] ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره ؛ فدل أنه مخصوص لهذه الأمة . والله أعلم . وروي عن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : " من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفاً صالحاً يرضى به " . ثم الصبر : هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت ؛ إذ هو كله لله عز وجل مستعار عند الخلق ، والجزع على فوت ما لغيره محال ؛ ألا ترى إلى قوله عز وجل : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [ الحديد : 23 ] . نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا ؛ إذ هو في الحقيقة ليس لنا ، وأن نفرح بما أتانا ؛ إذ هو في الحقيقة لغيرها . والله الموفق . وقوله : { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ } ، فهو على إضمار " الشيء " في كل حرف ، إذ هو بحق العطف على ما تقدم ؛ فكأنه قال : بشيء من الخوف ، وبشيء من الجوع . ولا قوة إلا بالله . ثم يتوجه ما أخبر من البلوى إلى وجهين : أحدهما : أن يبلوه بعبادة فيها ما ذكر . والثاني : أن يبلوه بالذي ذكر لا على عبادة يدفع إليه ؛ وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد ، وفيه الخوف ، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به ، فيخاف عند ذلك على نفسه . والجوع : أن يبلوه بالصيام الذي فيه ذلك ، أو بقلّة الإتراب وغلاء الأسعار . ونقص من الأموال : يكون في الجهاد ، والحج ، والزكوات ، والمؤن المجعولة في الأموال ، ويكون في الخسران في التجارات ، وما يلحق أنواع المكاسب من الحوائج . والأنفس : يكون بالجهاد ، ومحاربة الأعداء ، ويكون بأنواع الأمراض . والثمرات : ترجع إلى قلة الإنزال ، وقصور الأيدي عما به ينال ، ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه . ثم الله سبحانه وتعالى أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا ، لا بالكل . دل أنه - عز وجل - لم يقطع عليهم كل المخارج ، بل جعل لهم في كل نوع من ذلك مسلكاً وإن كان في ذلك نقصاً وضرراً ، وجائز بلوغ ذلك تمام ما في كل نوع ، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء ، وعلى ذلك جميع الفعال ذي المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء ، وكذلك هم في أنفسهم . ولا قوة إلا بالله . ثم إن الله دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل بمثله البذل لمن لا حق له ، فكيف ومن له كليته ذلك ؛ فقال الله تعالى : { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } . ثم وصف الصابرين فقال : { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } هدى الله عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة ؛ إذ جعل التوحيد داخلاً في ذلك الحرف . وفيه التبري من أن يكون له في حكم الله تدبيراً ورأى ، وبذل النفس له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء . وقوله : { إِنَّا للَّهِ } ، كأنه قال : ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير ، وأبداً يكون الحكم في كل ملك لمن يملكه . وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره . وقوله : { وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } ، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا ، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق ، بل في التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل . وفي ذلك تذكير النفس عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئاً مما به قوامه إلى مكان قراره ، وقد انتهى الخبر بالبلوغ . فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه ، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه . وبالله التوفيق . وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة ، وجعل كل شيء منها زائلاً فانيا لينال به الدائم الباقي . فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذي أنشىء وما له يسعى ، فيعلم أنه بلغ في تجارته غايتها من الربح ، وأنه باع الشيء الفاني بالباقي ، مع ما كان كل شيء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك ، فأبدل المأوى بالذي لا آفة فيه . فيجب في التدبير ألا يعد ذا مصيبة ، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح ، لكن البشر جبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التي لعلها يرغب فيها كل أحد ، لا أن ينفر عنها . والله المستعان . فإن قال قائل : هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة ؛ إذ قال يعقوب : { يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [ يوسف : 84 ] الآية . فهو والله أعلم ، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن قولوا ذلك ، لا أن هذا المعنى مما يحتمل أن يكون يعقوب لا يحققه ، بل حققه بقوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } [ يوسف : 83 ] وقوله : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ يوسف : 86 ] . { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] وهو مع ذلك قد كان بما أخبره يوسف ، وبما أوحى إليه أنه قد علم أنه لم يهلك بعد ، ولم يوجد منه إلى حيث يرجع هو إليه من البعث بعد الموت . ولا قوة إلا بالله . وقوله : { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } ، قيل : الصلاة من الله عز وجل يحتمل وجوهاً : يحتمل : الرحمة والمغفرة . ويحتمل : الصلاة منه - مباهاته الملائكة ؛ جواباً لهم لما قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } [ البقرة : 30 ] ، كيف قلتم هذا ؟ وفيهم من يقول كذا . وقيل : الصلاة منه : الثناء عليهم . وأي كرامة تبلغ كرامة ثناء الله عليهم . [ وقوله { وَرَحْمَةٌ } قال بعضهم الرحمة والصلاة واحد وهو على التكرار ، وقيل : الرحمة : النعمة وهي الجنة ] . وقوله : { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } . شهد الله عز وجل بالاهتداء لمن فوض أمره إلى الله تعالى ، ويسلم لقضائه وتقديره السابق وهو كائن لا محالة ؛ كقوله : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] . قال الشيخ - رحمه الله - : قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ } يبلوهم بالذي كان به عالماً ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهي بحق المحنة ، وهو كما يستخبر عما هو به خبير ، مع كانت المحنة في الشاهد لاستخراج الخفيات يكون بالأمر والنهي ، فاستعملت في الأمر والنهي ، وإن كان لا يخفى عليه شيء ، بل هو كما قال : { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ } [ الأنعام : 73 ] . ثم له جعل الغيب شاهداً ، فجرت به المحنة ، ليعلم ما قد علمه غائباً شاهداً ، إذ هو موصوف بذلك في الأزل . وبالله التوفيق . ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة فهو لله في الحقيقة ، لكنه بفضله وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ويأمره به ، فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] ، وقال : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } [ المزمل : 20 ] ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم في البذل لما طلب منهم ، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شيء يعدهم عليه ، فعلى ذلك قال - عز وجل - : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } بالذي ذكر ، يدلهم على أن ذلك منه ؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم ، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم ، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم ، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذي ذكر ليطيبوا أنفسهم به ، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم ، فيضجرون عند الابتلاء بذلك ، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول ، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يعلم به ، مع ما كان في ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم ، فقدم الله في ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذي جرى به الوعد ، وذلك كقوله : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } [ الحديد : 22 ] ، الآية ، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه . والأصل في هذا : أن جميع ما ذكر البلوى به في التحقيق ليس بحق للعبد ، بل هو امتنان من الله وإفضال منه ، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية ، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه ، وإذا سكن العبد على هذا الذي جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه ، وطابت به نفسه ، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت ، ثم هو نعمة على غيره ولغيره ، فيكون المأخوذ منه في الحقيقة لغيره ، وإن كان الله عز وجل ذكره في الابتلاء والمصائب ، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عز وجل . ولا قوة إلا بالله . ثم بين الله عز وجل ما يكرمهم ؛ إذا خضعوا لحكمه ورضوا لقضائه ، مع ما دل عليه أيضاً بقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ … } الآية [ الأحزاب : 36 ] ، فقال : { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } ، وقال في موضع آخر : { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] ، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجراً ، ومعلوم أن كان ذلك حقّاً لله عليهم ، بالسابق من نعمه ، مع عظم مننه ، لكنه سمى ما أفضل به أجراً له ، مع ما كان العبد يعمل لنفسه ، ولا يحتمل أن يستحق به الأجر لولا الإنعام منه جل ثناؤه . ثم وعد له في حال فعله بخصال ثلاثة : إحداها : أن عليه صلاته . وصلاته تحتمل مباهاته الملائكة تعظيماً لما بذل عبده له ، وخضع لحكمه عليه ، وهو أن قالوا : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ … } الآية [ البقرة : 30 ] ، فيخبرهم أن هذا قد سبح حضرة المصيبة ، وخضع لحكمه عليه فيها بالاسترجاع . ويحتمل : مغفرته وإيجاب الثواب الجزيل له بقوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ آل عمران : 157 ] { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ } [ آل عمران : 169 - 171 ] وقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] إلى ما ذكر من الإفضال . والله الموفق . ويحتمل ثناؤه ذكرهم في أخبار عباده ، كقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } [ البقرة : 154 ] ، وقوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً … } الآية [ آل عمران : 169 ] . مع ما يرجى له من زيادة الهدى في الدنيا بقوله : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] ، وقوله : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . والثانية : الرحمة . قد يرجع [ إلى ما ذكرنا ، وجائز أن تكون ] رحمته هي التي أكرمته بذلك الاسترجاع . ويحتمل : النعمة ، أو رحمة يلقيها في قلوب العباد حتى يحبونه بها ، أو خلف يعطيه في الدنيا . والثالثة : ثم شهد الله لهم بالهداية وذلك يحتمل : أن يكونوا اهتدوا لدينه ، ولما من عليهم في المصيبة من التسليم لله . ويحتمل : الاهتداء لطريق الجنة على ما بينه أنه وعد الشهداء . ولا قوة إلا بالله . وقوله : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] للاسترجاع . وقد روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لم يعط الاسترجاع من كان قبلكم " ، فهو على ما بينا من القول به ، وأما حق التسليم فقد كان في توقيت وقت الصبر ، ثم روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الصبر عند الصدمة الأولى " وقد روي عن أنس ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : " ما من مصيبة وإن طال عهدها فيجدد لها العبد بالاسترجاع إلا جدد الله له ثوابها كلما استرجع " . فلعل هذا لمن أحسن القبول وقت المصيبة ، أو رجع عما كان فرط منه وتاب . والأول فى غير ذلك . والله الموفق . ثم في الآية وجوه من المعتبر : أحدها : ما يلزم العبد من المصائب ، وما يستوجبه إذا وفى بما عليه . والثاني : في ذلك بيان أن الصحة ، والأمن ، وحفظ المقدر لأحد ليس بلازم في الحكمة ، لكنها إنعام من الله ، وله الابتلاء بأخذه ؛ إذ لو كان عليه الأول لم يكن يلزمه الشكر في ذلك . والله الموفق . والثالث : أن الله تعالى ذكر أنه بَلاَ العباد بالذي ذكر ، ومعلوم أن ذلك يجري على أيدي العباد بهم ، فأضاف ذلك إلى نفسه . ثبت أن له في ذلك تدبيراً حتى يبلوهم به . والله أعلم . وفيه أن الله تعالى قال : ونبلوكم بكذا ، ولم يكن كان يومئذ ثم كان ذلك ، وكذلك قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم … } الآية [ البقرة : 214 ] ، ثم بلوا بذلك ليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بذلك بالله ، وتبين أيضاً أنه بموضع البشارة بما يعظم على الخلق ويقتضي القرار في الطبع ، لم يحتمل أن يجيزهم به لولا الأمر به وطاعة الله في ذلك . وأيضاً أنه ذكر الخوف فيعلم أن الخوف من الخلق لا يوهن الاعتقاد ، وكذلك قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } [ النساء : 101 ] فعلى ذلك الرجاء والطمع وجملته أن أمر الدنيا محمول كله على أسباب ، لا أنها توجب ولكن الله تعالى أجرى أحكامه عليها ، فيكون الخوف والرجاء في التحقيق من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سبباً . والله الموفق . وأيضاً : أن يعلم أن المصائب في الدنيا ليست كلها عقيب الآثام ، بل لله تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات ، أيضاً لا يدل على وهن عقد المصائب ، ولا زلة بلي بها . وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل ، عليهم السلام ، ولكن على وجهين : أحدهما : أن يكون لله تعالى يريد أن يحمي وليه لذات الدنيا لينالها موفرة في الآخرة . والثاني : أن يكون لهم بعده زلات لا يسلم عنها البشر ، فيبتلوا ، فيبعثوا يوم القيامة ولا زلة بقيت مما يجزيهم تلك . ولا قوة إلا بالله . وإنما كذلك جعلت لمحنة .