Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 26-29)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } . كأن هذا - والله أعلم - يخرج جواباً على أثر قول قاله الكفرةُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم - على ما ذكره بعض أَهل التأْويل - فقالوا : ما يستحي ربك أَن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر في نفسه ، وملوكُ الأَرض لا يذكرون ذلك ، ويستحيون ؟ فقال عز وجل جواباً لقولهم : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى … } الآية . لأَن ملوك الأَرض إنما ينظرون إلى هذه الأَشياءِ بالاسحقار لها ، والاستذلال ؛ فيستحيون ذكرها على الإنكاف ، والأَنَفَة . والله - عز وجل - لا يستحيى عن ذلك ؛ لأَن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الجثة والجسم ، أَكبر من الكبارِ منها والعظام ؛ لأَن الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب ، وتركيب ما يحتاج إليه من الفم والأَنف والرجل واليد والمدخل والمخرج - ما قَدروا ، ولعلهم يقدرون على ذلك في العظام من الأَجسام والكبار منها . فأُولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة ، ولكن نظروا للحقارة ، والخساسة أنفاً منهم وإِنكافاً . ثم اختلف أَهل الكلام في إضافة الحياءِ إِلى الله تعالى : فقال قوم : يجوز ذلك بما رُوي في الخبر : " أَن الله يستحيى أَن يعذب من شاب فى الإسلام " ولأنه يجوز كالتكبر ، والاستهزاءِ ، والمخادعة ، وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم . وقال آخرون : لا يجوز إضافته إلى الله تعالى ؛ لأَن تحته الإِنكاف والأَنفه ، وذلك عن الله تعالى مَنْفِيٌّ ، ولكن الحياء هو الرضاء هاهنا ، والحياء الترك ؛ أَي : لا يترك ولا يدع . وقوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } . أي : علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار الأَجسام والجثة حق ؛ لما نظروا إلى ما فيها من الأُعجوبة والحكمة واللطافة . وقوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } . لم ينظروا فيها لما فيها من الأُعجوبة والحكمة ، ولكن نظروا للخساسة والحقارة . وقوله : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } . الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأَنه جواب قولهم : { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } فقال : أَرَاد أَن يضل بهذا المثل كثيراً ، وأَراد أن يهدي به كثيراً ، أَضل به من علم منه أَنه يختار الضلالة ، ويهدي به من علم أَنه يختار الهدى ، أراد من كل ما علم منه أَنه يختار ويُؤثر ، والله أَعلم . وهم يقولون : بل أَراد أن يهدي به الكلَّ ولكنهم لم يهتدوا . والثاني : يُضلُّ به كثيراً ؛ أَي : خَلَقَ فِعْلَ الضلالة من الضال ، وخلقَ فعل الاهتداءِ من المُهتدِي . وقد ذكرنا فيما تقدم . وقوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } . أي : ما يُضِل بهذا المثَل إلا الفاسق الذي لا ينظر إلى ما فيها من الأُعجوبة واللطافة في الدلالة . وقوله : { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ } . عهد الله يكون على وجهين : عهدُ خِلْقةٍ ؛ لما يشهد خَلْقه كُلُّ أحدٍ على وحدانية الرب ؛ كقوله : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] . وكقوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ … } الآية [ الروم : 8 ] . إنه إن نظر في نفسه وتأَمل عرف أَن له صانعاً وأَنه واحد لا شريك له . وعَهْدُ رسالةٍ على أَلْسِنة الأَنبياءِ والرسل عليهم السلام ؛ كقوله : { وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي … } الآية [ المائدة : 12 ] . وكقوله : { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ … } الآية [ آل عمران : 187 ] . فنقضوا العهدين جميعاً ؛ عهدَ الخلقة ، وعهد الرسالة . وقوله : { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } . يَحْتَمِل وجهين : يقطعون الإيمان ببعض الرسل وقد أُمروا بالوصل ؛ كقوله : { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } [ النساء : 150 ] . وقيل : يقطعون ما أمر الله أَن يوصل من صلة الأرحام . وقوله : { وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ } . قيل فيه بوجهين : يفسدون بما يأمرون في الأرض بالفساد ؛ كقوله : { يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ } [ التوبة : 67 ] . وقيل : يفسدون ، أي : يتعاطَوْن بِأنفسهم في الأَرض بالفساد ؛ كقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } [ المائدة : 33 ، 64 ] . وقوله : { أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } . يحتمل أَيضاً وجهين : خسروا لما فات عنهم ، وذهب من المنى والأَماني في الدنيا . ورُوي عن الحسن أَنه قال في قوله : { هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } : أي : قذفوا أَنفسهم - باختيارهم الكفر - بين أَطباق النار ؛ فذلك هو الخسران المبين . وقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } . يحتمل وجوهاً : " كيف " : من أَين ظهرت لكم الحجةُ أَن تعبدوا من دون الله من الأَصنام وغيرها أَنه حق ، ولم يظهر لكم منها الإنشاء بعد الموت ، ولا الإِماتةُ بعد الإِحياءِ ؟ وقيل : كيف تكفرون بالبعث بعد الموت { وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً } يعني نُطَفاً { فَأَحْيَٰكُمْ } ، وأَنتم لا تنكرون إنشاء الأَول فكيف تنكرون البعث والإِحياء بعد الموت ؟ وقيل : كيف تكفرون بالإِحياءِ والبعث بعد الموت ، وفي العقل أن خَلْقَ الخلْق للإِفناءِ والإماتة من غير قصد العاقبةِ عبثٌ ولعبٌ ؛ لأَن كل بانٍ بنى للنقض فهو عابث ، وكذلك كل ساع فيما لا عاقبة له فهو عابث هازل ، فكيف تجعلون فعله عز وجل ؛ إذ لو لم يجعل للخلق داراً للجزاءِ ، والعقاب كان في خلقه إياهم عابثاً هازلاً خارجاً من الحكمة ؟ ! تعالى عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً . وقوله : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . أَي : تعلمون أَنكم تُرجَعون إليه ، وكذلك المصير والمآب . والثاني : ترجعون إلى ما أعَدَّ لَكُم من العذاب . احتج عليهم بما أَخبرهم الله أَنه أَنشأَهم بعد الموتة الأُولى ، وأنه يبعثهم بعد الموتة الأُخرى { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } كأَنه يقول : ثم اعلموا أَنكم إليه ترجعون . قوله : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } . قيل : إنه صلة قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً } أي : كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأرض ما يدلكم على وحدانيته ؛ لأَنه ليس شيء من الأرض إلا وفيه دلالة وحدانيته . ويحتمل : كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأَرض نعيماً من غير أَن كان وجب لكم عليه حق من ذلك لتشكروا لَهُ عليها ، فكيف وجََّهتم أنتم الشكر فيها إلى غيره ؟ ويحتمل { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ } : محنة يمتحنكم بها في الدنيا ؛ كقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] ثم لتجزون في دار أخرى فكيف أنكرتم البعث ؟ ! وفي بيان حكمةِ خلق الخلق في الدنيا للفناءِ ، والإحياء للآخرة - حكمةٌ ، وفي إنكارها ذهاب الحكمة . وقوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } . قيل فيه بوجوه : قيل : استوى إلى الدخان ؛ كقوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] . وقيل : استوى : تمَّ ؛ كقوله : { بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ } [ القصص : 14 ] أي : تَمَّ . وقيل : استوى : أَي : استولى . والأَصل عندنا في قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [ فصلت : 11 ] و { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ، وغيرها من الآيات من قوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ … } الآية [ الفجر : 22 ] ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ … } الآية [ البقرة : 210 ] من الآيات التي ظنت المشبِّهةُ أَن فيها تحقيق وصف الله تعالى بما يستحق كثيرٌ من الخلق الوصفَ به على التشابه . في الحقيقة إنها تحتمل وجوهاً : أحدها : أَنْ نَصِفَهُ بالذي جاء به التنزيل على ما جاء ، ونعلم أَنه لا يشبه على ما ذُكر من الفعل فيه بغيره ؛ لأنك بالجملة تعتقد أن الله ليس كمثله شيء ، وأنه لا يجوز أَن يكون له مثل في شيء ؛ إذ لا يوجد حدثه فيه ، أَو قدم ذلك الشيء من الوجه الذي أشبه الله . وذلك مدفوع بالعقل والسمع جميعاً ، مع ما لم يجز أَن يقدر الصانع عند الوصف بالفعل كغيره ، وأنه حي ، قدير ، سميع ، بصير ، نفى ما عليه أمر الخلق لما يصير بذلك أَحد الخلائق . وإذا بطل هذا بطل التشابه وانتفى ، ولزم أَمر السمع والتنزيل على ما أَراد الله . وبالله التوفيق . والثاني : أَن يمكن فيه معان تُخرِج الكلام مَخْرج الاختصار والاكتفاءِ بمواضع إفهام في تلك المواضع على إتمام البيان ، وذلك نحو قوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ } [ الفجر : 22 ] أَي : بالملك . وذلك كقوله : { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ … } [ المائدة : 24 ] أَي : بربك { فَقَاتِلاۤ } ؛ إذ معلوم أَنّه يقاتل بربه ؛ ففهم منه ذلك . وكذلك معلم أَن الملائكة يأتُون ، فكأنه بين ذلك . يدل عليه قوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وكذلك { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ … } الآية : [ البقرة : 210 ] . ومما يوضح أَنه لم يكن أَحدٌ اعتقد أَو تصوَّر في وهْمِه النظرُ لإتيان الربِّ ومجيئه ، ولا كان بنزوله وعد بنظر . وكان بِنزولِ الملائِكة ؛ كقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ … } الآية [ الفرقان : 22 ] ، وقوله : { مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } [ الحجر : 8 ] . فيما ذكرنا عظيمُ أَمرهم ، وجليلُ شأْنهم ، ومثله في قوله : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] مع ما له وجهان : أَحدهما : أَن يكون معنى العرش الْملك والاستواءُ التام الذي لا يوصف بنقصان في ملك ، أَو الاستيلاءُ عليه ، وألا سلطان لغيره ، ولا تدبير لأَحد فيه . والثاني : أَن يكون العرش أَعلى الخلق وأَرفعه . وكذلك تقدرُه الأَوهام ؛ فيكون موصوفاً بعلوه على التعالي عن الأمكنة ، وأَنه على ما كان قبل كون الأَمكنة ، وهو فوق كل شيءٍ ؛ أي بالغلبة ، والقدرة ، والجلال عن الأَمكنة ، ولا قوة إلا بالله . وأَصله ما ذكرنا : ألا نُقَدِّرَ فعلَه بفعل الخلق ، ولا وصفه بوصف الخلق ؛ لأَنه أخبر أنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . وقوله : { فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . مرة قال : { فَسَوَّٰهُنَّ } ، ومرة قال : { خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } [ الملك : 3 ] ، ومرة قال : { فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } الآية [ فصلت : 12 ] ، ومرة قال : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ البقرة : 117 ] . وكله يرجع إلى واحد .