Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 30-39)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } . قال الشيخ - رضي الله عنه - : القول فيما يتوجه إليه مما تضمن قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة ، والكشفُ عما قال فيها أهل التفسير من غير شهادة لأَحد منا لإصابة جميع ما فيه من الحكمة أَو القطع على تحقيق شيءٍ ، ووجهوا إليه بالإِحاطة . ولكن الغالب مما يحتمله تدبير البشر ، ويبْلغه مبلغ علمنا مما يجوز أَن يوصَف به أَهلُ المحنة ، وإن كان تنزيه الملائِكة عن كل معنى فيه وحشةٌ أَوْلى بما وصفهم الله من الطاعة بقوله : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . وقوله : { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً } [ الأنبياء : 26 ] إلى قوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ … } الآية [ الأنبياء : 27 ] . وقوله : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ … } الآية [ النحل : 50 ] . وقوله : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [ الأنبياء : 19 ] . وما جاءَت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصف طاعتهم لله ومواظبتهم على العبادة . وما لا يذكر عن أحد من الرسل وصف ملك بالمعصية ، بل إنما ذلك يذكر عن بعض السلف مما لا لوم في مخالفته في فروع الدين ، فضلاً من أَن يبسط اللسان في ملائِكة الله سبحانه ، وبالله المعونةُ والعصمة . قال الله تعالى لملائِكته : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ … } الآية . زعم قوم أن هذا زلةٌ منهم ، لم يكن ينبغي لهم أن يقابلوا قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } بهذا ؛ لما يخرج مخرج الاستعتاب بقولهم : أَتفعل ونحن نفعل كذا ؟ ! كالمنكرين لفعله . وأَيدوا ذلك بقوله عز وجل : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أنه لولا كان في ذلك طرف من الجهل يحذر عن مثله قائِلُه ، لم يتبع قولهم هذا ، ومعلوم عندهم أَن يكون هو يعلم ما لا يعلمون . وأَيد ذلك بما امتحنهم بالإنباءِ عن أَسْماءِ الأَشياءِ ، مقروناً بقوله : { إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } ولولا أنه سبق منهم ما استحقوا عليه التوعد لم يكن لذلك الشرط عند القول : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ } فائِدة مع ما يوضع موضع التوبيخ والتهدد . ومنهم من قال : إن قوله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } قولُ إبليس ، هو الذي تعرض بهذا القول ، وإن كان الكلام مذكوراً باسم الجماعة ؛ لأَنه جائِزٌ خطاب الواحد على إرادة الجماعة ، وذكرُ الجماعةِ على إرادة الواحد ، وإن كان خطاب الله تعالى لجملة ملائِكته حيث قال : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ … } الآية . قوله : { أَنْبِئُونِي } بكذا ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون ذلك ، ولا يحتمل أَن يأْمرهم بذلك وهم لا يعلمون . ولو تكلفوا الإخبار لَلَحِقَهم الكذبُ في ذلك . ثبت أَن ذلك على التوبيخ والتهدد لما فرط منهم . ويكشف عن ذلك أَيضاً عند اعترافهم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم الله { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } الآية [ البقرة : 33 ] ولو لم يكن منهم ما استحقوا به التأْديب والتنبيه عنْ غفلةٍ سبقت منهم ، لم يكن لذلك كثيرُ معنى ؛ إذ لا يخفى على الله عز وجل عِلْمُ ما ذكر من الكفرة الأَشقياءِ ، فضلاً عن الكرام البررة . ولكن قد يعاتب الأخيار عند الهفوة ، والزلة بما يحل من خوف التنبيه والتوبيخ : نحو قولِهِ : { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ] . وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ … } الآية [ الإسراء : 75 ] . ولملائِكته : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ } [ الأنبياء : 29 ] . واستجازوا إمكان العصيان عند المحنة . ودليلُ المحنة ما بينا من الفعل بالأَمن والخوف المذكورين ، وما مدحوا بعبادتهم لله تعالى ، وما أوعدوا لو ادَّعَوا الألوهية ؛ ولما لم يحتمل أن يُحمدوا على العبادة والطاعة فيما كان فعلهم على الخيْر والشر ، ولا تعظم المحنة فيما لا يمكن المعصية ، ولا تحتملها البنْية ؛ إذ الطاعة هي في اتقاءِ المعصية . وقال أيضاً : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ } [ التحريم : 6 ] ، ولا يقال مثله لمن لا يحتمل فعل المعصية . فثبت أن المعاصي منهم ممكنة ؛ ولذلك خَطَرُ طاعاتهم ، وعِظمُ قَدرِ عبادتهم ، والممتَحَنُ مَخُوفٌ منه الزَّلة والهفوة ، بل المعصية ، وكل بلاء إلا أَن يعصمه الله تعالى ويحفظه ، وذلك من الله إفضال وإحسان لا يُستَحقُّ قبلَه ، ولا يُلْزمه أحدٌ من خلقه . فجائِز الابتلاء به مع ما في زلة أمثالهم من ترك الرجاء بالخلق ، وقطع الإِياس ، والحث على الفراغ إلى الله تعالى بالعصمة والمعونة ؛ إذ لم يقم لطاعته أحد وإن جَل قَدرُهُ عند ما وُكِل إلى نفسه مما يعلم الله أَنه يَختار في شيء الخلاف ، لا أَنه يفزع إليه وينزع إليه . وعلى ذلك معنى زَلات الرسل عليهم الصلاة والسلام . وزعم قوم أَن ذلك ليس منهم بالزَّلة ، بل الله تعالى عصمهم عنها ، ولكن قوله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } يخرج على وجهين : أَحدهما : على السؤال بعد أَن أعلمهم الله أَنهم يفعلون ؛ فقالوا : كيف يَفْعلون ذلك ، وقد خلقتهم ورزقتهم وأَكرمتهم بأَنواع النعم ، ونحن إذ خلقتنا نُسبِّحك بذلك ، ونقدس لك ؟ ! أَو كيف تحتمل عقولهم عصياناً - مع عظم نعمتك عليهم - ونحن معاشر الملائِكة تأْبى علينا العقول ذلك ؟ ! فقال الله عز وجل : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . أَي : أَمْتحنهُم مع ما ركب فيهم من الشهوات التي - لغلبتها على أَنفسهم - تعتريهم أَنواع الغفلة ، ويصعب عليهم التيقظ ؛ لكثرة الأَعداء لهم ، وغلبة الشهوات ؛ فلما عظمت المحنة عليهم يكون منهم ذلك . وهذا الوجه يخرج على سؤال الحكمة في خلق من يعصيه . فأَخبر أَنه يعلم ما لا تعلمون ؛ إذ بذلك بيان الأَولياءِ والأعداءِ ، وبيان أن الله لا يخلق من يخلق لحاجته له ، أو لمنفعة له ؛ إذ لو كان كذلك لم يخلق من يخالفه في الفعل الذي أُمِر به . وإنما خلق الخلق بعضهم لبعض عِبراً وعِظةً ؛ فيكون في عقوبة العُصاة ووعيدهم مَزْجَرٌ لغيرهم وموعِظةٌ ، ولغير ذلك من الوجوه . والوجه الآخر : أَن يكون المعنى من قوله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا } على الإيجاب ، أَي : أَنت تفعل ذلك ؛ إذ ليس عليك في خلق من يعصيك ضرر ، ولا لك في خلق من يطيعك نفعٌ ، جل ثناؤه ، من أَن يكون فعلك لأحد هذين . وذلك كقوله : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ … } الآية [ النور : 50 ] على إيجاب ذلك ، لا على الاستفهام . مع ما يحتمل أن الأَلف زائِدة ؛ كقوله : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ } [ القصص : 19 ] . وقوله : { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] بمعنى : إنكم وتريد ، وذلك يرجع إلى الأول . وقال : ومعنى قوله : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } : أن الله قد كان أخبرهم عن الذين يفسدون ، ولم يكن أَعلمهم ما فيهم من الرسل والأَخيار ، فهو يعلم ما لا تعلمون من الأَخيار فيهم ؛ ولذلك ذكرَّهم عند سؤال الإنباءِ بما أَعلمهم من عظيم امتنانه على آدم أَن جعله بمعنى نبيىء إلى الملائكة بما علمهم الأسماء . ولم يكن بلغ توهمهم أَن في البشر ما يحتاج المخلوقون من النور - الذي هو سبب رفع الأستار عن الأَشياءِ ، وجلاء الأَشياءِ به - ثم يحتاجون في اقتباس العلم إلى من هو من جوهر التراب والماءِ الذي هو أصل الستر والظلمة . فأَراهم الله بذلك ليعلموا أن ليس طريق المعرفة ، والعلم بالأَشياءِ الخلقة ، ولكن لطفُ الله وامتنانُه ، ولا قوة إلا بالله . وقال قوم : كان منهم من استحق العتاب من طريق الخطر بالقلوب ، لا من طريق الزَّلة - التي هي العصيان - ولكنهم يعاتبون على أَمثال ذلك - وإن لم تبلغ بهم المعصية - لعلوّ شأْنهم ، ولعظم قدرهم . كما قد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أَشياءَ وإن لم يكن ذلك منه معصية ؛ كقوله تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ … } الآية [ التوبة : 43 ] . وقوله : { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } [ النساء : 107 ] . وقوله : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ … } الآية [ الأحزاب : 37 ] . ولم يكن إثْمٌ في ذلك ، وقال { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ … } الآية [ أول سورة التحريم ] ؛ [ لأنه ] من غير أَن كان منه عصيان ؛ فمثل ذلك أمر الملائِكة . ثم تكلموا في معنى ذلك : فمنهم من يقول : ظنوا أنهم أكرم الخلق على الله ، وأَنه لا يُفَضِّل أَحداً عليهم . ومنهم من يقول : ظنوا أَنهم أعلم من جميع من يخلق من جوهر النار أَو التراب ؛ من حيث ذكرت من جوهرهم ، أَو لعظم عبادتهم لله ، وعلمهم بأَن في الجن والإِنس عصاة ؛ فلهذا امتحنهم بالعلم ، ثم بالسجود ؛ لإظهار علو البشر وشرفه ، وعظم ما أكرموا به من العلم . ومنهم من [ يقول : ظنوا أنهم فضلوا بفعلهم : ] { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } . وقوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } . قال قوم : يريد به آدم عليه السلام ، يخلف الملائكة في الأرض ومن تقدمه من الجان . وذلك بعيد ؛ كأنهم قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } ولم يكن آدم - عليه السلام - بالذي كان يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء ، بل كان يسبح بحمده ويقدس له . ولكن يحتمل : أَن يريد آدم وولده - إلى يوم القيامة - أَن يجعل بعضهم خلفاء لبعض ؛ كقوله : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ } [ النمل : 62 ] ، أو يجعلهم خلفاء من ذكروا ، إن صح الذي قالوا . وجائِز أَن يكونوا على وجه الأَرض ، إذ هي مخلوقة لهم قراراً ومِهاداً ومعاداً ، وهم جُعِلوا سكانهَا وعُمَّارها - أَن يكونوا خلفاء ، في إظهار أَحكام الله تعالى ودينه ، كقوله لداود عليه السلام : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } [ ص : 26 ] فجعله كذلك ليحكم بين أَهلها بحكم الله ولا يتبع الهوى ، وبذلك أُمر بنو آدم . وقولُه : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . قيل : بأَمرك . وقيل : بمعرفتك . وقيل : بالثناءِ عليك ؛ إذ كانوا أَضافوا ذلك إلى أَنفسهم دون أن يذكروا عظيم مِنَّة الله عليهم بذلك ، واختصاصَه إياهم بالتوفيق له ؛ إذ كيف ذكروا من نُعُوت البشر شرَّ ما فيهم ، دون أَن يحمَدوا الله - بما وفقوا له - أَو يدعوا للبشر بالعصمة والمغفرة مما ابتلوا . ولذلك - والله أعلم - صَرفوا شغلهم من بعد إلى الاستغفار لمن في الأَرض ، ونصر أَولياءِ الله ، ولا قوة إلا بالله . ومن الناس من أَخبر في ذلك : أَن إبليس سأَلهم : لو فُضِّل آدمُ عليهم ، وأُمِروا بالطاعة له ما يصنعون ؟ فأَظهر الله عز وجل أَنه علم ما كتم إِبليس من العصيان ، وما أَظهروا هم من الطاعة . وهذا شيء لا يعلم حقيقته ؛ لأَن المعاتبة كانت في جملة الملائكة ، والمخاطبة باالإِنباءِ ، وما أُلحق به وأَمر بالسجود وكان في غيره . ولم يحتمل أَن يكونوا يؤاخذون بسؤال إبليس اللعين . ولكن يحتمل وجوه العتاب الإِخبار فيما لم يبلغوا العصيان ، والله الموفق . وقوله : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ } . يحتمل : أن يكون علم لهم . ويحتمل : أن يكون علَّم بإِرسال ملك من غير الذين امتحنوا به . وفي ذلك تثبيت أحد وجهين : إما أَن يكون العلم بالأَشياءِ حقيقة ضرورة ، يقع عند النظر في الأسباب التي هي أَدلة وقوعه عند التأَمل فيها ؛ نحو وقوع الدَّرك بالبصر عند النَّظر وفتح العين . وإما أن يكون الله تعالى خلق فعل التعلم الذي يعلم المرء فيما يضاف فيه إلى الله تعالى أَنه علم . وكذا قوله : { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [ الرحمن : 4 ] . وكذا قوله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] ، ولا يحتمل هذه الأَسباب لما كانت له كلها ، ولم يكن تعلَّم حقيقة ليؤذنه . وكذلك قول الملائكة : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [ البقرة : 32 ] ، والله الموفق . وقوله : { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ } . ظاهره أَمر ، ولكنه يحتمل التوعد والمعاتبة على ما بينا ، وذلك فى القرآن كثير . وإن كان في الحقيقة أَمراً ، ففيه دلالة جواز الأَمر فيما لا يعلمه المأْمور إذا كان بحيث يحتمل العلم به إلى ذي العلم تبين له إذا طلب واستوجب رتبة التعلم والبحث . ويحتمل : أَن يكونوا نُبِّهوا حتى لا يسبق إليهم - عند إعلام آدم - أَن ذلك من حيث يدركونه لو تكلفوا . أَو أَراد أن يريَهم آية عجيبة تدل على نبوته ، ذكّرهم عجزهم عن ذلك ، وألزمهم الخضوع لآدم عليه السلام في إفادة ذلك العلم له ، كما قال عز وجل : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 17 ] ذكره أَولاً حالَه وحالَ عَصاه ، ليعلم ما أَراه ما في يده من آية نبوته على نبينا وعليه السلام . وقوله : { إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ * قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } . قوله : { إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } في المعاني التي ذكروا ؛ إذ كنتم مذ خُلِقتم موصوفين بالصدق . أو على تحذير القول بلا علم وكأَنه قال : واصدقوا ، واحذروا القول بالجهل . وفي ذلك أَنهم لم يتكلفوا بالقول في شيء لم يعلمهم الله تعالى . قال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان : هذا يبطل قول المنجمة والعَافة بدعواهم على الغيب بلا تعليم ادَّعوه من الله تعالى . وفي قصة آدم عليه السلام دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذْ أَخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بما علم بما في غير القرآن من الكتب السماوية من غير أَن عُرِف بالاختلاف إليهم ، أَو معرفة الأَلسن التي بها ذكرت في كتبهم . ذكرَها على ما لم يَدِّع أَحدٌ - له العلمُ بها - النكيرَ عليه ؛ ليُعلم أَنه بالله علم ذلك . وفيها دلالة فضل آدم عليه السلام أَبِى البشر ؛ إذ أَحوجَ ملائكتَه إليه لاقتباس أَصل الأَشياءِ ، وهو العلم الذي كل خير له كالتابع ، وبه يصلح وينفع ، ولا قوة إلا بالله . وفيها دلالة محنة الملائكة بوجهين : أَحدهما : تعلُّمُهم العلم الذي هو أحق شيء يحتمل الخير ؛ إذ قد يُلْهَم المرءُ ربما من غير تكلف ، وهم قد أُمروا به مع ما قدم ما يخرج مخرج التهدُّد في القول من قوله : { أَنْبِئُونِي } وذلك - فيما لا محنة - فاسد مع ما سبق من دليل المحنة . والثاني : فيما أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام حتى صيّر مَنْ أَبَى كافراً إبليساً . وفي ذلك أيضاً دليل فضل آدم عليه السلام ؛ إذ جُعِل موضعَ عبادةِ خيار خلقِ الله معه ، وبالله التوفيق وفي ذلك أن السجود ليس بنفسه عبادةً ؛ إذ قد يجوز السجود لأَحد من الخلق كما أمر به لآدم عليه السلام : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } [ البقرة : 34 ] ولم يجز الأمر بالعبادة لآدم ، ولله اسم المعبود ، ولو جاز لأحد ذلك لكان غيرُ الله إله . دليل ذلك تسمية العرب كلَّ شيء يعبدونه إلهاً ، ولا قوة إلا بالله . ثم السجود يحتمل وجهين : [ الوجه الأول ] : الخضوع كما قال الله تعالى : { يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ … } الآية [ الحج : 18 ] . وقوله : { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] ، فإن كان المراد منه الخضوع له والتعظيم ، [ فكلذلك يحتمل وجهين : أحدهما : أن الله تعالى إذ فضله عليهم بما أطلعه على علوم خصه بها أمره بالخضوع والتعظيم ] ، فذلك الحق على كل محتاج إلى آخر ما به رجاءُ النجاة ، أو دَرْك العلو والكرامة أَن يعظمهُ ويبجلَّهُ ، ويخضعَ له . والثاني : امتحنهم بوجه يُظهر قدرَ الطاعةِ ؛ لأَن الخضوعَ لمن يعلو أَمرُه ويجِلُّ قدره ، أَمر سهلٌ ، عليه طُبع الخلق ، فإذا كان في تقدير المأمور بالخضوع أَنه دونه في الرتبة ، أو شكله ، أَو لم يكن بينهم كثيرُ تفاوت اشتدَّت المحنة في مثله بالطاعة له والخضوع . فامتحنهم الله به حتى ظهر الخاضع لله ، والمستسلم لحقه ، والمتكبر فى نفسه ، وهو إبليس . وعلى ذلك الغالبُ من أَتباع الأَنبياء عليهم السلام والذين يأْبون ذلك ، أَن الذي يحملهم على الإباءِ عظمُهم في أنفسهم ، وظنُّهم أَنهم أَحقُّ بأَن يكونوا متبوعين ، والله أَعلم . والوجه الثاني : أَن يكون المراد من ذكر السجود حقيقة السجود فهو يُخَرَّج على وجهين : أَحدهما : أن يُجعل السجود تحية ؛ أَلزم الملائِكة تحيةَ آدم به ، وهو ابتداء ما أَكرم به أَصل الإنس ، وإليه مرجع جملة المؤمنين في الجنة أَن يأْتيهم الملائكةُ بالتحياتِ والتحف ، وإن اختلفت أَنفس التحيات . وفي ذلك دليل بيِّن : أَنَّ السجودَ ليس بعبادة في نفسه ؛ إذ قد يؤمر به للبشر ، ولا يجوز الأَمر بعبادةِ غيرِ الله ؛ فيكون السجود لغيره من حيث الفعل ، والعبادةُ به لله كغيره من المعروف ، يصنع إلى الخلق . ومثله أَمر سجودِ يعقوب وأَولاده ليوسف عليه السلام ، والله أعلم . والثاني : أَن يكون السجود له بمعنى التوجه إليه ، وهي الحقيقة لله تعالى ، نحو السجود إلى الكعبة لله تعالى تعظيماً له ، وتبجيلاً لكعبته ، وتخصيصاً من بين البقاع . كذلك أَمْرُ السجودِ لآدمَ عليه السلام ، تعظيماً له وتبجيلاً من بين سَائِر البشر ، كلاهما سِيَّان . ثم قد ثبت نسخ السجود للخلق بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال : " لو كان يحل لأَحد أَن يَسجد لأَحد لأَمرت المرأَة أَن تسجد لزوجها " . ولم جُعِل السجودُ في العبادة عبادةً للمسجود له ، واعترافاً بعرف الأشرار بعبادة عظمائهم ، ومن يعبدونه من دون الله ؛ فيصير ذلك المعنى هو السابق في القلوب ، وذلك مما لا يُحتمَل لأَحدٍ دون الله ؛ فنهى عنه لذلك - وإن لم يكن بنفسه عبادة للمسجود له في الحقيقة - كما نُهي عن أَشياء بما يتصل بها من الوحشة ، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة مُحْتَملاً له ، فكذلك الأَمر الأَول ، كما نُهي عن سَبِّ من يُعْبَد من دون الله خَوْفاً لسبِّ الله ، ويؤمر بأُمور ليست - بنفسها - بقُربةٍ ليتوصل بها إلى القُرْبة ، كالسعي إلى الحج والجمعة ، ونحو ذلك . وفيه أَن السُّنَّة تنسخ الكتابَ ؛ لأَن السجود لآدم عليه السلام في الكتاب ، ومثله السجود ليوسف ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فحرم ؛ فدل أن السنة تنسخ الكتاب . وقولُ الملائِكة : { سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } . يُشْبه أَن يكون السابقُ إلى وهمهم مُنىً ، أَو خَطَرَ فِعلِ ما كان بالله خرج من أَن يعقلوا حكمته ؛ إمَّا بما لم يبلغهم العلم بها ، أَو يخطر ببالهم أَنه تعالى كيف يأمرهم ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون بها ، أو خطرَ ببالهم من غير تحقيق ذلك ، ولكن على ما يُبْلَى به الأَخيارُ ؛ كقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ … } الآية [ الحج : 52 ] . أو كما لا يخلو به الممتَحَنُ عن الخواطر التي تبلغ المحنةُ بهم المجاهدةَ بها في دفعها ، وإن لم يكن لهم بما يخطر ببالهم صُنع . فقالوا : { سُبْحَٰنَكَ } ؛ نزّهوا عَمَّا خطر ببالهم ، وسبق إلى وهمهم . ووصَفوا بأَنه { عَلِيمٌ } : لا يخفى عليه شيء . { حَكِيمٌ } : لا يخطىء في شيء ، ولا يخرجُ فعلهُ عن الحكمة ، وبالله التوفيق والعصمة . وفي الآية منعُ التكلم في الشيء إلا بعد العلم به ، والفزع به إلى الله عن القول به إلا بعلم ، وهذا هو الحق الذي يلزم كلَّ من عرف الله . وبه أَمر الله تعالى نبيَّهُ عليه الصلاة والسلام فقال : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ … } الآية : [ الإسراء : 36 ] . وسُئل أَبو حَنيفة - رضي الله عنه - عن الإِرجاءِ ما بدؤُه ؟ فقال : فعل الملائكة إذا سئلوا عن أَمرٍ لم يعلموا فوضوا ذلك إلى الله تعالى . ومَعنى الإرجارِ نوعان : أحدهما : محمود ؛ وهو إِرجَاء صاحب الكبائر ، ليحكم الله تعالى فيهم بما يشاء ، ولا يُنْزلهم ناراً ولا جنة ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] . والإِرجاء المذموم هو الجبْر ، أَن تُرجَأَ الأَفعالُ إلى الله تعالى ، لا يجعلُ للعبد فيه فعلاً ، ولا تدبيرَ شيءٍ من ذلك . وعلى ذلك المروِيُّ ، حيث قال : " صنفان من أُمتي لا ينالهم شفاعتي ؛ القدريةُ والمرجئةُ " . والقدرية : هي التي لم تر لله - في فعل الخلق - تدبيراً ، ولا له عليه قدرةَ التقدير . والمرجئةُ : هي التي لم تر للعبد فيما ينسب إليه من الطاعة والمعصية فعلاً ألبتة ؛ فأبطلت الشفاعة لهما ، وجُعِلت للمذهب الأَوسط بينهما ، وهو الذي يُحَققُ للعبد فعلاً ، ولله تقديراً ، ومن العبد تحركاً بخير أَوْ شر ، ومن الله خلقه . وذلك على المعقول مما عليه طريقُ العدل والحق بين التفريط والتقصير . وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الأُمور أَوساطها " . وكذلك قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً … } الآية [ البقرة : 143 ] ، ولا قوة إلا بالله . وعن ابن جريج قال : سجودُ الملائِكة لآدم إيماءٌ ، ولم يكن يحل وضع الوجه بالأَرض لأَحد . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان سجودُ الملائكة سجودَ تحيةٍ ، ولم يكن سجود عبادة . وعن قتادة قال : كانت الطاعة لله ، والسجدة لآدم عليه السلام إكراماً له ، والله أعلم . ثم اختلف في إِبليس : قال بعضهم : هو من الملائِكة . وقال آخرون : لم يكن من الملائِكة ، وهو قول الحسن ؛ والأَصم : ذهبوا في ذلك إلى وجوه : أَحدها : ما ذكر عز وجل عن طاعة الملائِكة له بقوله : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ … } الآية [ التحريم : 6 ] . وقال : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ … } الآية [ الأنبياء : 27 ] . وقال : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ … } الآية [ الأنبياء : 19 ] . وصف الله تعالى طاعتهم له ، وائْتِمارَهم إياه ؛ فلو كان اللعين الرجيم منهم لأطاعَه كما أَطاعوه . والثاني : قوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] والملائِكة إنما خلقوا من النور . والثالث : قوله تعالى : { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } [ الكهف : 50 ] ولم يقل من الملائِكة فَدَلَّ هذه الآياتُ أنه لم يكن من الملائكة . ثم قال في قوله : { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } : إنه قد يجوز الاستثناء من غير نوع المستثنى منه ؛ نحو ما يقال : دخل أَهل الكوفة هذه الدارَ إلا رجلاً من أَهل المدينة . وذلك جائِز في اللغة . ويستدل بالاستنثاء أَن الأَمر كان عليهم جميعاً في الأَصل ، وكان الأَمرُ بالسجود له وللملائِكة جميعاً ؛ كقوله : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } [ البقرة : 199 ] دل أَنْ كان هنالك أَمرٌ للناس بالإفاضة ، فكذلك الأَول ، والله أعلم . وذهب من قال : إنه من الملائِكة ، أنه لما لم يذكر في قصةٍ من القصصَ - مع كثرة التكرار لها في القرآن ، وغيره من الكتب السالفة - أَنه ليس منهم ، وليس فيما ذكر من الآيات ما يدل على أَنه لم يكن منهم ؛ لأَن قوله : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] لو لم يُتَوهم منهم العصيانُ والخلافُ لله تعالى لم يكن للمدح بالطاعة والخضوع له معنى . ألا ترى إلى قوله : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ … } الآية [ الأنبياء : 29 ] مع ما ذكرنا : أنهم يُمتحنون بأَنواع المحن ، وكل مُمْتَحَن في شيء يجوز كون المعصية منه والخلاف لديه . وأَما قوله : { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } [ الكهف : 50 ] أي صار من الجن . وقيل : الجنُّ أَراد به الملائكة ؛ سُمُّوا جنّاً لاستتارهم عن الأَبصار ؛ كقوله : { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النجم : 32 ] . وأما قوله خلق الملائِكة من النُّور ، وإبليسَ من النار - فهو واحد ؛ لأَنه أخبر - عز وجل - أنه خلقه من مارج من نار . وقيل : المارجُ هو لهبُها مع ما ليس في القرآن ، ولا في الخبر أَنهم إنما خلقوا من النور ، ولم يخلقوا من غيره . ثم اختلف في إبليس : إنه لم كفر بالله ؟ قيل : إنَّه كفر لما لم ير الأَمرَ بسجود من فوقه لمن هو دونه حكمةً . وقيل : كفر لما رأَى أَن الله تعالى وضع الأَمر في غير موضع الأَمر ، ورآه جوراً ؛ فكفر به . وقيل : كفر لما أَبى الائتمار بالسجود واستكبر فكفر . وقيل : كفر لما أَضمر إضلال الخلق . وقيل : أَبى الطاعة فيما أُمر به ، واستكبر على آدم ؛ لما رأَى لنفسه فضلاً عليه بقوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] . وقوله : { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } . أي صار كقوله : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ النساء : 22 ] . وكقوله : { فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } [ الأعراف : 175 ] أي : صار . وقيل : كان في علم الله تعالى أَنَّه سيكفر . وقوله : { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } . قد ذكرنا فيما تقدم أَن الجَنة هي اسم البقعة التي حُفت بالأَشجار والغُروس وأنواع النبات . دليله : قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } . وذلك أيضاً ظاهرٌ معروفٌ عند الناس ؛ ألا تُسمى كل بقعة من الأرض بستاناً ، ولا جنة حتى يجتمع فيها ما ذكرنا . ثم لا يُدْرَى ما تلك الجنة التي أمر آدمُ وحوّاء بالكَون ، والمُقام فيها : أهي التي وُعد المتقون ، أَو جنةٌ من جنات الدنيا ؟ إذ ليس في الآية بيان ذلك . وفي الآية دلالة أن الشرط في الذكر قد يُضْمر ، ويكون شرطاً بلا ذكر ؛ لأنه قال : { أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ } [ طه : 118 ] ثم قد جاع وعَرِيَ حين عصى ، فدل أَن ترك المعصية كان شرطاً فيه . ثم مضى الأَمر من الله تعالى لآدم وزوجته بالسُّكنى في الجنة ، والمُقام فيها ، وأَمْرهما بالتناول من جميع ما فيها إلا شجرةً نُهِيا عن التناول منها ، وأُمِرَا بالاجتناب عنها بقوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } وذي صورةُ الممتحن أَن يُؤمر بشيء ويُنْهَى عن شيء . وقوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } . قوله : { رَغَداً } أَي : سعَةً ؛ يقال : أَرْغَد فلانٌ إذَا وسِّع عليه ، وكثر مالهُ . وقوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } . أَي : لا تأْكلا . دليله قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا } ؛ ولأَنه بالقُربان ما يوصل إلى التناول . واللغةُ لا تَأْبى تسمية الشيء باسم سببه . ثم اختُلف في تلك الشجرة : فقال بعضهم : هي شجرة العنب ، ولذلك جعل للشيطان فيها حظاً لما عصيا ربهما بها . وقيل : إنها كانت شجرة الحنطة ؛ ولذلك جعل غذاءُ آدم وحواءَ - عليهما السلام - وغذاءُ أَولادهما منها إلى يوم القيامة ليُقاسوا جزاءَ العصيان والخلاف له . وقيل : إنها شجرة العلم ؛ لما علما من ظهور عورتهما ، ولم يكونا يعلمان قبل ذلك ، وهو قوله : { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } [ الأعراف : 22 ] والله أعلم . والقولُ في ماهيتها لا يجوز إلا من طريق الوحي . ولا وحي في تلاوتها . ولا يجوز الْقطعُ على شيء من ذلك . ثم احتَمَل معنى النهي عن التناول منها وجوهاً : أَحدها : إيثار الآخر عليه . وقد يكون هذا أَن ينهى الرجل عن التناول من شيء إيثاراً لآخر عليه . ويحتمل : النهي عن التناول من الشيء لداءٍ يكون فيه لما يخاف الضرر به ، لا على جهة الإيثار ، ولكن إشفاقاً عليه ورحمة . ويحتمل أيضاً النهي عن التناول من الشيء على جهة الحرمة ، فإذا كان ممكناً هذا محتملاً حمل آدم وحواء على التناول منها لما اشتبه عليهما ، ولم يعرفا معنى النهي بأَنه نهيُ حرمة ، أَو نهي إيثار غيره عليهما ، أَو نهي داءٍ ؛ لأَنهما لو كانا يعلمان أَن ذلك النهي نهي حرمة لكانا لا يأتيان ولا يتناولان ، وبالله التوفيق . ثم في الآية دلالة على أن الحال التي يكون فيه الإنسان في سعة ورغد يشتد على الشيطان اللعين ؛ لأَنه إنما تعرض لآدم وحواءَ بالوسوسة التي وسوس إليهما ليزيل تلك الحال عنهما . وإنما يبلى بالسعة ، والرخاء ثم لما لحقته من الشدائد والبلايا مما كسبت أيدينا ؛ لقوله : { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] . ثم الآية ترد على بعض المتقشفة قولهم بتحريم الطيبات والزينة . وقوله : { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } . أي : الضّارِّين ؛ لأَن كل ظالم ضارٌّ نفسَه في الدارين جميعاً . وقوله : { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا } . أي : دعاهما ، وزين لهما إلى سبب الزلة والإخراج عنها ، لا أَن تولى إخراجهما وإزلالهما . وقد ذكرنا أَن الأَشياءَ تسمى باسم أسبابها ، أَو الأَسباب باسم الأشياء . وذلك ظاهر معروف في اللغة ، غير ممتنع تسمية الشيء باسم سببه . ثم تكلموا فيما أصاب آدم من الشجرة ، وفي جهة النهي عنها : فقال قوم : أكل منها وهو ناسٍ لعهد الله نسيان ترك الذكر . وأَبى ذلك قوم . واحتج الحسن بأَن نسيانه نسيان تضييع واتباع الهوى ، لا نسيان الذكر بأَوجهٍ : أحدها : ما جرى في حكم الله - تعالى - من العفو عن النسيان الذي هو ترك الذكر ، وألا يلحق صاحبَه اسمُ العصيان ، وقد عوقب هو به ، ونسب إلى العصيان بقوله : { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [ طه : 121 ] مع ما تقدم القول فيه أن يكونا من الظالمين . والثاني : أَنَّ عَدُوَّه قد ذكَّره لو كان ناسياً ؛ حيث قال : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ … } الآية [ الأعراف : 20 ] . وقوله : { وَقَاسَمَهُمَآ } [ الأعراف : 21 ] . وقوله : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [ الأعراف : 22 ] . ولو كان نسيان الذكر لم يكونا ليغترا بالقسم والإغواء عن ذلك ، ولا وُصِفا بأَن استزلهما الشيطان ونحو ذلك . فثبت أَنه كان نسيان تضييع ، وذلك كقوله : { وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [ طه : 126 ] ، وقوله : { فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا } [ الأعراف : 51 ] ، وغير ذلك مما ذكر فيه النسيان ومعناه التضييع ، سُمي به لما كان كل منسيٍّ متروكاً ، وترك اللازم تضييع ، أو بما ينسى به ويغفل عما يحل به من نعمة الله ، فسمي به كما وصف ذنب المؤمن بجهالة الجهلة بما يحل به لا بجهله بحقيقة فعله . أو سمي به من حيث لا يُقصد بذلك عصيانُ الرب أَو طاعة الشيطان . وإلى ذلك يصرف بعض وجوه النسيان ، لا حقيقته . ومن يقول : بأَنه كان على النسيان فهو يُخرِّج النسيان على وجوه : أَحدها : أنه لكثرة ما كان بينه ، وبين عدوه التراجع اشتغل قلبه بوجوه الدفاع له ، والفكر في الأَسباب التي بها نجاته ، ويتخلص من مكائِده ، حتى أَنساه ذلك ذكر العهد . والسبب الذي يدفع الأَشياءَ عن الأَوهام في الشاهد كثرة الاشتغال ، وإنما كان النسيان عدوّاً في الأُمور وسبباً للعفو ؛ لأَنه لا يَخْرج الآخذ به عن الحكمة ، وذلك معلوم في الشاهد ، أن من أَقبل على أَمر ، وأَخذ في تحفظه وتذكره عمل عليه ذلك ، وإذا أحب ذلك مع الاشتغال بغيره من الأُمور صعب عليه ، بل الغالب في مثله الخفاء . وجائز معاتبة آدم مع ذلك وتسميته عصياناً بأَوجه : أَحدها : أَنه لم يكن امتُحن بأَنواع مختلفة يتعذر عليه وجه الحفظ في ذلك . وإنما امتحن بالانتهاءِ عن شجرة واحدة بالإشارة إليها ؛ فجائز ألا يُعذر في مثله . وكذلك النسيان فما يُعذر في الشاهد ، إنما يُعذر في النوع الذي يُبْلى به ، وتكثر به النوازل . ألا ترى أنه يُعذر بالسلام في الصلاة ، وترك التسمية في الذبيحة ونحو ذلك ، ولا يُعذر في الأَكل في الصلاة ، وفي الجماع في الحج ، ونحو ذلك ، فمثله الأَمر الذي نحن فيه . والثاني : أنه جائِز أخذ الأَخيار ومعاتبة الرسول بالأَمر الخفيف اليسير الذي لا يؤخذ بمثل ذلك غيْره ؛ لكثرة نعم الله عليهم ، وعظم مِنَّته عندهم ، كما أُوعدوا التضاعف في العذاب على ما كان من غَيْره . وعلى ما ذكر في أَمر يونس عليه السلام من العقوبة بماء لعل ذلك من عظيم خيرات غيره ؛ إذ فارق قومه عما عاين من المناكير فيهم ، وفعل مثله من حد ما يوصف به غيره . وكذلك ما عوتب محمد صلى الله عليه وسلم فيما خطر بباله تقريب أَجِلة الكفرة ؛ إشفاقاً عليهم ، وحرصاً على إسلامهم ومن يتبعهم على ذلك مما لعل من دونه لا يعدل شيء من خيرَاته بالذي عوتب به ، وبالله التوفيق . والثالث : أَنه لما عوتب بالذي يجوز ابتداء المحنة به ، ولمثله خلقه حيث قال لملائكته : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } لكنه بِكرمه ، وبالذي عَوّد خلقه من تقديم إحسانه وإنعامه في الابتلاءِ على الشدائد والشرور ، وإن كان له التقديم بالثاني ، وذلك في جملة قوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [ الأعراف : 168 ] ، وقوله : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ } [ الأنبياء : 35 ] ، وبالله التوفيق . وعلى ما في ذلك من مبالغة غيره ، والزجر عن المعاصي ، وتعظيم خطره في القلوب ؛ إذ جوزي أَبو البشر وأَول الرسل منهم - على ما فضله بما امتحن ملائكته بالتعلم منه ، والسجود - بذلك القدر من الزلة ؛ ليعلم الخلقُ أَنه ليس في أمره هوادةٌ ، ولا في حكمه محاباة ؛ فيكونون أَبداً على حذرٍ من عقوبته ، والفزع إليه بالعصمة عما يوجب مقته ، وألاَّ يكلهم إلى أَنفسهم ؛ إذ علموا بابتلاءِ من الذي ذكرت محله في قلوبهم بذلك القدر من الزلة ، ولا قوة إلا بالله . والثاني : أَن يكون حَفظ النهي عنه لكنه خطر ببَاله النهي عن وجه لا يلحقه فيه وصف العصيان ، أو نسي قوله : { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } ، وقد ذكرنا النهي في وقت الفعل ، ولكن يسمى الوصف بالفعل من الظلم والنهي ؛ لعله سبق إلى وهمه غير جهة التحريم ، إذ يكون النهي على أَوجه : أَحدها : للحرمة . والثاني : نهي لما فيه من الداء وعليه في أكله ضرر ، وهذا معروف في الشاهد بما عليه الطباع ، نهي قوم عن أشياءَ محللة هي لهم ما يؤذي ويضر ، فيحتمل أَن يسبق إلى وهمه ذلك ، لما وعد له في ذلك من عظيم النفع . يحتمل ما خوف به ليصل إلى ما وعد على ما سبق وُجِّه النهي إلى ما وجه من حيث الضرر والمشقة ، ونسي قوله : { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } أَو ذكرا وعرفَا أَن الظلم قد يقع على الضَّرر ؛ كقوله : { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] أي : لم ينقص منه ، والنقصان في النفس ضرر . وعلى ذلك فسر عامة أهل التفسير الظلم في القرآن أَنه الضرر . واسم الضرر يأْخذ ضررَ الداءَ ، وضرر المأْثم وإن كانت حقيقته وضع الشيء في غير موضعه ، ولا قوة إلا بالله . وقد يحتمل النهي أَن يخرج مخرج المنع ؛ ليكون غيره هو الذي يبدأ به ، ويُخص ذلك لغيره ، لا على التحريم ، نحو الأَمر بالمعروف ، فيما يمنع الرجل ولده عن التناول مما يريد به غيره ، لا على التحريم . وإذا احتمل ذا ، ثم بُيِّن له عظيمُ ما في ذلك من البركة من غير أَنْ عاين عدُوه ليعلم أَن ذلك صنيعه . وجائز أَن يسبق إليه أَن ذلك إِشارةُ مَلَكٍ أَو إِلهامٌ في النفس - على ما يكون لكثير من الأخيَار - إلا أَنه من وحي عدُوه ، فدعته نفسه إلى الأكل ، فيكون كالناسي والجاهل بحقيقة وجه النهي ، وإن كان تعمد أَكله ، ولا قوة إلا بالله . والأَصل في هذا أَن فعله صلى الله عليه وسلم إن كان على نسيان العهد ، أو على الذكر له ، فإن الذي أَصابه عقوبة . وإن كان بالذي يكون به المحنة ، فلولا أَنَّ الله إِنْ يعاقبه على ما فعله لم يكن ليُغيِّر عليه نعمة أَنعم عليه بعذاب ، وقد قال : إنه لا يُغَيِّر نعمَهُ التي أَنعمها على قوم حتى يغَيروا ما بأَنفسهم . وما لا يحتمل العقوبة بالتغيير لم يكن ليفعل بعد وعده ذلك ، مع ما قد اعترفا بالظلم ؛ إذ قالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا … } الآية [ الأعراف : 23 ] . وقد قال الله تعالى : { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [ طه : 121 ] . وقد كان قال لهما : { فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأعراف : 19 ] . فكان فيما بُليَ به وجهان : أَحدهما : أَن ذلك لم يُزِل عنهما اسمَ الإِيمان ، ولا دعيا إليه بعدُ لفعلهما ذلك . ثبت أَنه لا كلُّ ذنبٍ يزيل اسمَ الإِيمان ، وأَن الذنُوب لا يُحقَّق فيها الكذب فيما اعتقد ألا يعصي الله في شيء . وفي ذلك فساد أهل الخوارج والمعتزلة ، وبيان أن قوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً } [ النساء : 14 ] ليس على كل عصيانٍ ، ولا الوعيد بالظلم المطلق بوجه كل ظالم وكل عصيانٍ وغواية ، بل يلزم به تقسيم هذه الحروف على ما يليق به ، ومن يريد بها الجمع في كل الأَنامِ خارج عن المعروف من أحكام الله في أَهل المآثم . والثاني : قد عوقب بوجه لا يجب جزءٌ منها بما يسميه المعتزلة كبيرة ، بل يُزيل به اسمَ الإِيمان ؛ من نحو شُرب قطرة من الخمر ، أو قذف محصنة ، أَو أَخذ عشرة دراهم من مال آخر . وكذلك فعل أَولاد يعقوب . ثم لم يجترىء أَحد على دعوى خروج من ذكرت من دين الله ؛ لزم بطلان قولهم ، مع ما كان من قولهم : إن الصغيرة لا يَجوزُ في الحكمة التعذيبُ عليها ، ولا الكبيرة العفو عنها . وقد كان عذب آدم عليه السلام - بأنواع العذاب ، لما لو لم يكن سوى ما أَظهر فعلَهما على رءوس الخلائق لكان عظيماً . ثم اختلف في الوجه الذي بلي : منهم من يقول : لما كان من صلبه من الكفرة وهم ليسوا بأَهل الجنة . وقيل : رحمة للخلق لئلا ييأَسوا ، ولا يزيل الولاية بكل ذنبٍ . وقيل : بليا لتنبئة الخلق - بهما - ألا يقوم أحد بتعاهد نفسه عما يذم إليه إذا وكل نفسه إليه ، فيكون ذلك سبباً لزجر الخلق عن النظر إلى أنفسهم في شيء من الخير ، والفزع إليه ، بالعصمة عن كل شيء . وقيل : بلي بحق المحنة ؛ إذ هي ترد صاحبها بين اللذات والآلام ، وبين أَحوال مختلفة لا يحتمل أن يصير بحيث يأْمن الزلل ، وإنما ذلك بحفظ الله ومَنِّه ؛ لا بتدبير أَحد وجهده ، وإن كان الله تعالى يوفق على قدر الجهد ، ويعصم على قدر الرغبة إليه والاعتصام به ، ولا قوة إلا بالله . وليس بنا حاجة إلى ذكر حكمة الزَّلة ، إذا كانت نفسُه مجبولةً على حبه ، باعثةً إلى مثله لولا نعمة الرب . كما قال يوسف - عليه السلام - : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ … } الآية [ يوسف : 53 ] . وقال : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } [ الأنعام : 164 ] . ثم اختلف في ماهية الشجرة : قيل : بأَنها شجرة العنب ، وجعل للشيطان فيها نصيباً بما بلي به أبو البشر وأُمهم . وقيل : الحنطة فيها جعل غذاء ولده ؛ ليبدل بالراحة الكد ، وبالنعمة البؤس . وقيل : شجرة العلم ، إذ بدت لهما سوآتهما فعلما بذلك ما لم يسبق لهما في ذلك ، وفزعا إلى ما يُستران به من الورق . فالأَصل أَن هذا النوع ما يعلم بالخبر من عند عالم الغيب ، وليس بنا إلى تعرف حقيقته حاجة ، وإنما علينا معرفة قدر المعصية ؛ فنعتصم بالله عنها ، والطاعةِ ؛ فنرغب فيها ، وبالله العصمة . والأَصل فيه أَن الله تعالى فرق بين دار المحنة ودار الجزاءِ ؛ إذ الجمع بينما يزيل البلوى ، ويكشف الغطاءَ ؛ فجعل اللذيذَ الذي لا راحة فيه ، والمؤلمَ الذي لا تنغيص فيه - جزاءً ، والترد بينهما محنة ، ولا قوة إلا بالله . وقوله تعالى : { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } . أي : تصيران منهم . وكذلك القول في إبليس : { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } أي : صار منهم . ويحتمل : ممن يكونون كذلك ؛ إذ في علم الله أَنهم يصيرون ممن في علم الله كذلك ، مع جواز القول بلا تحقيق آخر ؛ كقوله : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] ، لا أَنَّ ثَمَّ خالقاً غيره . ثم اختلف في الوجه الذي أوصل إبليسُ إليه الوسوسة : فقال الحسن : كان آدم - عليه السلام - في السماء وإبليس في الأَرض ، ولكنه أوصل إليه بالسبب الذي جعل الله لذلك . وقال قوم : كان خاطبهُ في رأْس الحية . وقيل : تصور بغير الصورة التي كان عليها عند قوله : { إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ … } الآية [ طه : 117 ] فاغتر به ، ولو عرفه لما اغتر به بعد أَن حذره الله عنه ، والله أَعلم كيف كان ذلك . وعلى ذلك اختلف في الوجوه التي يوسوس إلى بني آدم : منهم من يقول : يجري بين الجلد واللحم كما يجري الدم ، فيقابل وجه بصره بقلبه ؛ فيقذف فيه . ومنهم من يقول : هو بحيث جُعلَتْ له قوةُ إيصال الخطر ببَاله ، والقذف في قلبه من الوجه الذي جعل له ، وذلك لا يعلمه البشر . ومنهم من يقول : إن النفس كأَنها سيالة في الجسد ، دائرة في جميع الآفاق ، لولا الجسد الذي يَحبسه لكان له الانتشار ، على ما يظهر في حال النوم عند سكون جسده ، ومن ذلك سلطان فكرة الرجل على مَنْ في أَقصى بقاع الأَرض حتى يصير له كالمعاين ؛ ففي ذلك يكون قدحه وقذفه . ونحن نقول - وبالله التوفيق - : إنا لا نعلم حقيقة كيفية ذلك ، لكن الله تعالى جعل للحق أَعلاماً ، وكذلك الباطل . وكل معنى يدعو إلى الباطل ، ويحجب عن الحق ، فهو عمل الشيطان ، يجب التعوذ منه والفزع إليه وإن لم يعلم حقيقة كيفية ذلك ؛ قال الله تعالى : { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [ الأعراف : 200 ، فصلت : 36 ] . وقال الله عز وجل : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ } [ الأعراف : 201 ] . وقال الحسن في قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] : وقد علم آدم أن الملائكة أفضل ، وقد علم ألا خلود يكون معه ، وقد أُخبر أَنه يموت ، وقد علم أَنه لا يكون ملكاً ، وقد خلق من طين والملائكة من نور ، ولكن يكون على فضل الملائكة . { وَقَاسَمَهُمَآ } [ الأعراف : 21 ] . حلف لهما في وسوسته أَنه يقول ذلك عن نصيحة ، فتابعاه في الأكل لا على القبول عنه ما ذكر ؛ إذ لو كان عن قبول كان أعظم من الأَكل ، ولكن أَكلا على الشهوة ، واتباع الهوى . ولو صدَّقاه في ذلك لكفرا ، وكان هذا أَعظم من الأَكل ، ولم يقل لهما ذلك فيهما لأَجل ذلك الشيء . وذلك كما يقول الرجل لآخر - في شيء يقتل عليه أَو يقطع له - : لو فعلتَ لا يُفعلُ بك ذلك ، فيقدُم عليه ، أنه يقدم لشهوته ، لا على التصديق له في ذلك . وكذا من يُذكِّر أَحداً بمثل امرأَةٍ بحبها وإيثارها إياه ؛ فيأْتيها بشهوة لا بتصديق الآخر ؛ فمثْلُه أمر آدم فيما وسوس إليه الشيطان . وهذا الذي يذكر الحسنُ يوجب أن يكون آدم كان يعلم أَن ذلك كان من الشيطان عدُوِّه . وذلك إقدامٌ على أَثر ما ذكر على ما يصف أَنه كان يعلم أَنه أَمرٌ فظيع يوجب فِعله - على العلم بالنهي - أَنه لا ينال به خيراً ، ولا يصل بذلك إلى فضل ، بل اتبع الشيطان بما هوى واشتهى . وهذا لو كان شهده كان فظيعاً أَن يدَّعيَه على أَبي البشر ، ومن قد فضَّله الله بالذي سبق ذكره . بل لو قيل له : إنه لم يكن علم أَنه من عدوه ، أَو إلهام - على ما يكون للأخْيار - أَو كان أَسمع على غير الصورة التي أَدَّاها من قبل ، كان أَقرب وأَحق أَن ينطق به من أَن يذكر الذي ذكر . ومتى يكون الإقدام لجهة بخير لا على طمع في ذلك ؟ ! بل لا يُنكَر أَن يكون له ، ولكن على ما بينا . وليس من ذلك الوجه ، الوحشة في الدين . ثم قدم ذكر ملكين ، والكلام في الفضلِ وغَير الفضل - على قوله - لا معنى له ؛ لأَنَّه يجعل فعلهم جبراً - ومن فِعْله جبرٌ لا ترتفع درجته ولا يعلو قدره ، ثم يجعل الفضل لهم بالخِلقة ، فيكف كان يطمع في ذلك ولم يكن هو بخلقتهم . ولهذا أنكر أن يكون منهم عصيانٌ ؛ إذ خلقوا من نور ، ومن لا يعصي بالخلقة ، فإنه لا يحمد . ولو كان يجب الحمد به لوجب في كل موات ، وكل حيوان لا يعصي بالخلقة ، وذلك بعيد . وجائز أَن يكون آدم - عليه السلام - طمع أن يكونا ملكين ؛ بأَن يُجعل على ما عليه صنيعهم من العصمة ، أَو الاكتفاء بذكر الله وطاعته عن جميع الشهوات . والله قادر على أَن يجعل البشر على ذلك ، وذلك على ما يوجَد فيهم من معصوم ومخذول ، ليعلم أَن الخلقة لا توجب شيئاً مما ذكر ، ولا قوة إلا بالله . ثم الأَصل أَن معرفة موت البشر وما عنه خلق كل شيء إنما هو سمعي ، ليس هو حسي ، ولا في الجوهر دليلُ الفناء ، ولله أن يميت من شاءَ ويُبقيَ من شاءَ . فقولُ الحسنَ - إِنّه علم ذلك ثبت بثبات الخبر عن الله - ينتهي إليه أَنه كان بلغه في ذلك [ الوقت ] . وكذلك أَمرُ الملائكة ، وحالُ الإغذاء ، ومحبةُ الذِّكر ، وظهورُ العصمة تعرف بالمحبة والمشاهدة بمنها ، ولا قوة إلا بالله . ثم ذكر الحسن في خلال ذلك : أن آدم - عليه السلام - قد علم أَن الملائكة لا يموتون . لا أَدري ما هذا ؟ أَهو عقدٌ اعتقد ، أوْ جَرَى على لسانه ؟ لأَن مثلَه لا يُعلَم إلا بما لا يرتاب في ذلك أَنه جاءَ عن الله ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا } . أي : دعاهما وزيَّن لهما ، أَي : سبب الزَّلة والإخراج منها ، لا أن تولى هو إخراجهما وإزلالهما . وقد ذكرنا أَنه قد تُسمَّى الأَشياءُ باسم أَسبابها ، والأسباب باسم الأَشياء . وذلك ظاهر معروف في اللغة ، غير ممتنع تسمية الشيء باسم سببه ، والله أعلم . وقوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } [ البقرة : 36 ] . من الخصب ، والسَّعة ، والنعم التي أَنزلهما الله - تعالى - فيها ، وأَباح لهما التناول مما فيه . ثم اختلف في وسوسة الشيطان لآدم وحواءَ - عليهما السلام - فيم كان ؟ ومن أَين كان ؟ ولماذا كان ؟ . قيل : إنه كان في السماء ، فوسوس إليهما من رأْس الحيَّة ؛ حسداً منه لما رآهما يتقَلّبان في نعم الله ، ويتنعمان فيه ، فاشتد ذلك عليه . وقيل : إنه كان في الدنيا فوسوس لهما من بُعدٍ ، والله أعلم . ثم اختلف في الشيطان : أَله سلطان على القلوب ؟ أَو يوسوس في صدورهم من بُعد ؟ فقال بعضهم : له سلطان على القلب ؛ على ما جاءَ أَنه يجري في الإنسان بين الجلد واللحم مجرى الدم . وقيل : إنه لا سلطان له على القلوب ، ولكنه يَقْذف فيهم من البعد ، ويدعوهم إلى الشر بآثار ترى في الإنسان من الأحوال ؛ من حال الخير والشر ، وكأن تلك الأحوال ظاهرة من أَثر الخير والشر . فإذا رأَى ذلك فعند ذلك يوسوس ، ويدعوه إلى الشر . وعلى ذلك قوله عز وجل : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] أخبر أنه لا سلطان له علينا سوى الدعاء لنا وهو لا يشبه ، والله أَعلم . ثم قيل فيمن عصى ربه : أَليس قد أَطاع الشيطان ؟ قيل : بلى . فإن قيل : فإذا أَطاع أَلاَ يكفر ؟ قيل : لا ؛ لأَنه ليس يقصد قصد طاعة الشيطان ، وإنما يكفر بقصد طاعة الشيطان ، وإن كان في عصيان الرب طاعته . وكذلك روي عن أبى حنيفة - رضي الله عنه - أنه سئل عن ذلك فأَجاب بمثل هذا الجواب . والأَصل : أَن الفعل الذى يُبْلى له ليس هو لنفسه فعل الطاعة للشيطان ليصير به مطيعاً ، إنما يجعله طاعة القصد بأَن يجعلَه طاعة له ، وقد زال ، وإن سُرَّ هو به وفرح كما سُرَّ بزوال السرور عنهما واللذة ، وإن كان ذلك بفعل من لا يجوز وصف من فعل ذلك بطاعة الشيطان ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ } . قيل : الهبوط النزول في موضع ، كقوله : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } [ البقرة : 61 ] أي : انزلوا فيه . ويحتمل الهبوط منها هو النزول من المكان المرتفع إلى المنحدر ، والدون من المكان . وقوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } . قيل : يعني إبليسَ وأَوْلاده ، وآدمَ وأَولادَه ، بعضهم لبعض عدو . والعداوة فيما بيننا وبينهم ظاهره . وقيل : بيننا وبين الحيَّة التي حملت إبليس حتى وسوس لهما من ذُؤابتها . فهذا لا يعلم إلا بالسمع ، إذْ ليس في الكتاب ذلك . غير أن العداوة بيننا وبين الحيَّات عداوةُ طبع ، والعداوَة التي بيننا وبين إبليس عداوةُ اختبار وأَمر ؛ إذ الطبعُ ينفر عن كل مؤذٍ ومضر ، وبالله التوفيق . وقوله : { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } . يقرون فيها ، كقوله : { جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً } [ غافر : 64 ] . وقوله : { وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } . أي : متاعاً لكم إلى انقضاء آجالكم . ويحتمل : متاعاً لكم لانقضاء الدنيا وانقطاعها . وقوله : { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ } . أي : أخذ . وقوله : { مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } . قيل : إن فيه وجوهاً : قيل : فتاب عليه ، أي : وفق له التوبة ، وهداه إليها فتاب ، كقوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ } [ التوبة : 118 ] ، أي : وفق لهم التوبة فتابوا . وقيل : خلق فعل التوبة منه ، كما قلنا في قوله : { وَهَدَاهُ } [ النحل : 121 ] ، أي : خلق فعل الاهتداء منه فاهتدى . وقيل : تاب عليه ، أَي : تجاوز . وقيل : إن التوبة هي الرجوع . رجع آدم عن عصيانه ؛ فرجع هو إلى الغفران والتجاوز ، وبعضه قريب من بعض . وفي الآية : أنه إنما تاب عليه لكلمات تلقاها من ربه . والآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأَنهم يقولون : إن من ارتكب صغيرة فهو مغفور له لا يحتاج إلى الدعاء ، ولا إلى التوبة . فآدم - عليه السلام - دعا بكلمات ، تلقاها منه ؛ فتاب ليه . ولو كان مغفوراً له ما ارتكب لكان الدعاء فضلاً وتكلفاً ، وبالله التوفيق . والكلمات هي ما ذكرت في سورة أُخرى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا … } الآية [ الأعراف : 23 ] . وقوله : { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } . أي : قابل التوبة . وقيل : أي موفق التوبة ، وهادي لها ؛ كقوله : { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [ غافر : 3 ] وقد ذكرنا في قوله : { فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] ما احتمل فيه . { ٱلرَّحِيمُ } بالمؤمنين ، ورحيم بالتائبين . وقوله : { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً } . ذكر هبوطهم جميعاً ؛ فإذا هبطوا فُرادى لم يخرجوا من الأمر ، بل كانوا في الأمر ، فدل أَن الجمع في الأَمر ، والذكر ، لا يُصَيَّر الجمعَ في الفعل شرطاً . وقوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } . أي : ليأْتينكم . وهذا جائز في اللغة . وقوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } . أي : من تبع هداي ، ودام عليه حتى مات ، فلا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون وكذلك قوله : { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ } فى الدنيا ، { وَلاَ يَشْقَىٰ } [ طه : 123 ] في الآخرة ، إذا مات عليه . وهذه الآية والتي تليها وهو قوله : { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ } . تنقض على الجهمية ؛ لأَنهم يقولون بفناء الجنة والنار ، وانقطاع ما فيهما . فلو كانت الجنة تفنى ويَنقطع ما فيها ، لكان فيها خوف وحزن ؛ لأَن من خاف في الدنيا زوال النعمة عنه وفوتها يحزن عليه ، وينغصه ذلك ، ولهذا وصف الدنيا بالخوف والحزن لما يزول نعيمها ولا تبقى ، فأَخبر عز وجل أَلا خوف عليهم فيها ؛ أي : خوف النقمة ، ولا حزن ، أَي : حزن فوات النعمة . { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } دل أنها باقية ، وأن نعيمها دائم ، لا يزول . وكذلك أخبر عز وجل أن الكفار في النار خالدون وأَن عذابها أليم شديد ، فلو كان لهم رجاء النجاة منها لخف ذلك العذاب عليهم وهان ؛ لأَن من عوقب في الدنيا بعقوبة ، وله رجاء النجاة منها هان ذلك عليه وخف ، وبالله التوفيق .