Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 54-59)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ } . وقيل : ظلمتم أَنفسكم باتخاذكم العجل إلهاً . وقوله عز وجل : { فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } . قيل : ارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة ربكم . وقيل : ارجعوا عن اتخاذ العجل إلهاً إلى اتخاذ خالقكم إلهاً . وقوله عز وجل : { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } . قال الفقيه أَبو منصور - رحمه الله - : لولا اجتماع أَهل التأْويل والتفسير على صرف ما أَمر الله - جل وعز - إياهم بقتل أَنفسهم على حقيقته ، وإلا لم نكن نصرف الأَمر بقتل أَنفسهم على حقيقة القتل ؛ وذلك لأَن الأَمر بالقتل كان بعد التوبة ، ورجوعهم إلى عبادة الله ، والطاعة له ، والخضوع . دليله قوله عز وجل : - { وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 149 ] . ظهر بهذا : أَنهم تابوا قبل أَن يؤمروا بالقتل . وقد شرع على أَلسن الرسل : قتال الكفرة حتى يسلموا ؛ فلا يجوز ذلك إِنْ أَسلموا ، فيحصل الإرسال للقتل خاصة ، لا للدين ، والله أعلم . ولأَن القتل هو عقوبة الكفر ، لا عقوبة الإسلام ، وخاصة قتل استئصال ، على ما روي في الخبر : أَنْ قتل سبعون أَلفاً في يوم واحد . وذلك استئصال وإهلاك ، ولم يهلك الله قوماً إلا في حال الكفر والعناد ؛ إذ الإسلام سبب درء القتل وإسقاطه ؛ لأَن من يقتل لكفره إذا أَسلم سقط القتل عنه وزال ، وكذلك إذا أَسلم وتاب ومات عليه ، لم يعاقب في الآخرة لكفره في الدنيا . فعلى ذلك : يجب ألا يعاقب هؤلاءِ في الدنيا - بالقتل - بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله وطاعته . ويصرف الأَمر بالقتل ، إلى إجهاد أَنفسهم بالعبادة لله ، والطاعة له ، واحتمال الشدائد والمشقة ؛ لتفريطهم في عصيان ربهم ، باتخاذهم العجل إلهاً ، وبعبادتهم إياه دون الله . وذلك جار في الناس ، يقال : فلان يقتل نفسه في كذا ، لا يعنون حقيقة القتل ، ولكن : إجهاده نفسه في ذلك ، وإتعابه إياها ، واحتمال الشدائد والمشقة فيه . فعلى ذلك ، يصرف الأَمر بقتل أَنفسهم إلى ما ذكر ، بالمعنى الذي وصفنا ، والله أعلم . ثم صرْف ذلك إلى حقيقة القتل احتمل وجهين : أَحدهما : أَن يجعل ذلك ابتداءَ محنة من الله - تعالى - لهم بالقتل ، لا عقوبة لما سبق من العصيان . ولله أَن يمتحنهم - ابتداء - بقتل أَنفسهم ؛ كقوله : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ } الآية : [ النساء : 66 ] على تأْويل كثير من المتأَولين في ذلك ؛ إذْ لَه أَنْ يميتهم بجميع أَنواع الإِماتة . فعلى ذلك : له أَن يأْمر بقتل أَنفسهم ، وفيه إماتة ، مع ما فيه الاستسلام لعظيم ما دعوا إليه ، من بذل النفس لله ، مما في مثله جعل وفاءِ إبراهيم الأَمر بالذبح ، وبذل ولده النفس له . فيكون في ذلك القدر وفاء وتوبة لا حقيقة القتل ، والله أعلم . والثاني : يجوز ذلك ؛ لأَن عقوبات الدنيا وثوابها محنة ، لجواز الامتحان بعد التوبة والرجوع إلى طاعة الله ؛ لأَنها دار محنة . وأَما عقوبات الآخرة وثوابها فليستا بمحنة ؛ لأَنها ليست بدار امتحان ؛ لذلك : جاز التعذيب في الدنيا بعد التوبة ، ولم يجز في الآخرة إذا مات على التوبة ، والله أعلم . ثم قيل في قوله : { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } ، بوجوه : قيل : أُمروا ببذل الأَنفس للقتل ، والتسليم له ؛ فصاروا كأَن قد قتلوا أَنفسهم . ويجوز أَن يكون الأَمر بقتل أَنفسهم أَمراً بمجاهدة الأَعداء ، وإن كان فيها تلفهم على ما قال : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ … } الآية [ التوبة : 111 ] مذكور ذلك في التوراة . وكذا قوله : { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ } [ البقرة : 84 ] نهى عن القتل الذي فيه قتل أنفسهم . وقد قيل في قوله : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] بمعنى : أي لا تقتلوا مَن تَقتلون ، فكأَنما قد قتلتم أنفسكم ، وعلى هذا التأْويل خَرَّج أَبو بكر قوله : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 66 ] . والله الموفق . وقيل : أمر بعضاً بقتل بعض ، كقوله : { فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً } [ النور : 61 ] أَي : يسلم بعضهم على بعض . وقيل : أَمر كلَّ من عبد العجل بقتل نفسه ، والله أعلم . وقوله : { ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } . قيل : إن التوبة خير لكم عند خالقكم . وقيل : قتلكم أنفسكم خير لكم من لزوم عبادة العجل . ويحتمل : عبادة الرب - عز وجل - خير لكم من عبادة العجل ، والله أعلم . وقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } . وقد ذكرنا المعنى في ذلك فيما تقدم . وفي بذل أَنفسهم للقتل ، والصبر عليه ، وكف أيديهم عن الدفع ، والممارسة - فيه وجهان : أَحدهما : أَنه كأَنهم طبعوا على أَخلاق البهائم والدواب . وذلك أَن موسى صلى الله عليه وسلم استنقذهم من خدمة فرعون وآله ، ونجاهم من الشدائد التي كانت عليهم ، ولحوق الوعيد بهم ، وأَراهم من الآيات العجيبة : من آية العصا ، واليد البيضاءِ ، وفَرق البحر ، وإهلاك العدو فيه ، وتفجير الأَنهار من حجر واحد ، وغير ذلك من الآيات ما يكثر ذكرها ، أَن لو كانت واحدة منها لكفتهم ، ودلتهم على صدقه ونُبُوته . ثم - مع ما أَراهم من الآيات - إذا فارقهم ، دعاهم السامري إلى عبادة العجل ، واتخاذه إلهاً ، كقوله : { هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ } [ طه : 88 ] فأجابوه إلى ذلك ، وأَطاعوه . وكان هارون - صلوات الله على نبينا وعليه - فيهم ، يقول : { يٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوۤاْ أَمْرِي } [ طه : 90 ] ، فلم يجيبوه ولا صدقوه ، ولا اكترثوا إليه ، مع ما كان هارون من أَحب الناس إليهم . فلولا أَنهم كانوا مطبوعين على أَخلاق البهائم والدواب ، وإلا ما تركوا إجابته ، ولا عبدوا العجل ، مع ما أُروا من الآيات التي ذكرنا . فإذا كان إلى هذا يرجع أَخلاقهم لم يبالوا ببذل أَنفسهم للقتل ، والله أَعلم ، ونحو ذلك قوله : { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] . وعلى ذلك جعلت آيات موسى كلها حسية لا عقلية ؛ إذ عقولهم كادت تقصر عن فهم المحسوس ودركه ، فضلاً عن المستدل عليه ، والله أعلم . والثاني : يحتمل أَن أُروا ثواب صبرهم على القتل في الآخرة ، وجزيل جزائهم ، وكريم مآبهم ؛ فهان ذلك عليهم وخف . كما روي أن امرأَة فرعون لما علم فرعون - لعنه الله - بعبادتها ربها ، وطاعتها له ، أَمر أَن تُعاقب بأَشد العقوبات ، فَفُعِل بها فضحكت في تلك الحال ، لما أُريت مقامها في الجنة ، وكريم مآبها ؛ فهان ذلك عليها وسهل . فعلى ذلك يحتمل بذل هؤلاء أَنفسهم للقتل ، والصبر عليه لذلك ، والله أَعلم . وقوله : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } . قال بعضهم : قال الذين اختارهم موسى - وكانوا سبعين رجلاً - لن نُصدقك بالرسالة والتوراة حتى نرى الله جهرة ، يخبرنا أَنَّه أَنزلها عليك . ويحتمل : لن نؤمن لك أَنه إله ، ولا نعبده حتى نراه جهرة عياناً . فاحتج بعض من ينفي الرؤية في الآخرة بهذه الآية ؛ حيث أَخذتهم الصاعقة لما سأَلوا الرؤية . قالوا : فلو كان يجوز أَن يُرى لكان لا تأْخذهم الصاعقة ، ولا استوجبوا بذلك العذاب والعقوبة . وأَما عندنا ، فإنه ليس في الآية دليل نفي الرؤية ، بل فيها إثباتها . وذلك أَن موسى - عليه السلام - لما سئل الرؤية لم ينههم عن ذلك ، ولا قال لهم : لا تسأَلوا هذا . وكذلك سأَل هو ربه الرؤية ، فلم ينهه عنها ، بل قال : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] وإذا صرف الوعد لا يجوز ذلك ، لو كان لا يحتمل ؛ لأَنه كفرٌ ، ومحال ترك النهي عنه . وكذلك ما روي في الأَخبار : من سؤال الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا : أَنرى ربنا ؟ لم يأْت عنه النهي عن ذلك ، ولا الرد عليهم ؛ فلو كان لا يكون لنُهوا عن ذلك ومنعوا . وإنما أَخذ هؤلاء الصاعقةُ بسؤالهم الرؤية ؛ لأَنهم لم يسألوا سؤال استرشاد ، وإنما سأَلوا سؤال تعنت . دليل التعنت ، فما جاءَ من الآيات ، من وجه الكفاية لمن يُنْصف ؛ لذلك أَخذتهم الصاعقة ، والله أعلم . أَو أَن يقال : أَخذتهم الصاعقة بقولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } ، لا بقولهم : { حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } . وسنذكر هذه المسألة فى موضعها ، إن شاءَ الله تعالى . وقوله : { فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ } . قيل : الصاعقة كل عذاب فيه هلاك . لكن الهلاك على ضربين : هلاك الأَبدان والأَنفس . وهلاك العقل والذهن ، كقوله : { وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } [ الأعراف : 143 ] قيل : مغشيّاً . وفيه هلاك الذهن والعقل ؛ وكذلك قوله : { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 68 ] أَي غشى . والله أعلم . وقيل : الصعقة : صياح شديد . وقوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } . قيل فيه بوجهين : قيل : تعلمون أَن الصاعقة قد أَخذتهم وأَهلكتهم بقولهم الذي قالوا ؛ فكونوا أَنتم على حذر من ذلك القول . وقيل : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } - الخطابُ لأُولئك الذين أَخذتهم الصاعقة - أَي : تنظرون إلى الصاعقة وقت أَخذتها لكم ، أَي : لم تأْخذكم فجأَة ، ولا بغتة ، ولكن عياناً جهاراً ، والله أعلم . وقوله : { ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } . يذكرهم - عز وجل - عظيم مِنَّته عليهم ، وجزيل عطائه لهم ؛ ببعثهم بعد الموت ، وتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المن والسلوى من السماءِ لهم ، وذلك مما خصوا به دون غيرهم . ثم ما كان لنا من الموعود في الجنة ، فكان ذلك لهم في الدنيا معاينة ، من نحو البعث بعد الموت ومن الظل الممدود ، والطير المشوي ، والثياب التي كانت لا تبلى عليهم ولا تتوسخ ؛ فذلك كله مما وعد لنا في الجنة ، وكان لهم في الدنيا معاينة يعاينون . مع ما كان لهم هذا لم يجيبوا إلى ما دعوا ، ولا ثبتوا على ما عاهدوا ، وذلك لقلة عقولهم ، وغلظ أَفهامهم ، ونشوئهم على أَخلاق البهائم والدواب ، والله أعلم . وقوله : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } . يحتمل وجهين : يحتمل : ما لم يحل لهم الفضل على حاجتهم ، فأَباح لهم القدر الذي لهم إليه حاجة ، وسماه طيبات . ويحتمل أَنه سماه طيبات ؛ لما لا يشوبه داء يؤذيهم ، ولا أَذى يضرهم ، ليس كطعام الدنيا مما لا يسلم عن ذلك ، والله أعلم . وقد قيل : الطيب هو المباح الذي يستطيبه الطبع ، وتتلذذ به النفس . وقوله : { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ … } الآية . وقد ذكرنا معنى الظلم فيما تقدم . وقَدْ يحتمل وجهاً آخر : وهو النقصان ؛ كقوله : { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] أي : لم تنقص منه . وحاصل ما ذكرنا : أَن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ، وكل ما ذكرنا يرجع إلى واحد . وقوله : { وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ } . اختلف في تلك القرية : قيل : إنها بيت المقدس ، كقوله : { ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 21 ] . أُمروا بالدخول فيها ، والمقام هنالك ؛ لسعة عيشهم فيها ورزقهم ؛ إذ هو الموصوف بالسعة والخصب . وقيل : إن تلك القرية التي أُمروا بالدخول ، والمقام هنالك ، هي قرية على انقضاء التيه ، والخروج منها . غير أَن ليس لنا إلى معرفة تلك القرية حاجة ، وإنما الحاجة إلى تعرف الخلاف الذي كان منهم ، وما يلحقهم بترك الطاعة لله والائتمار ، والله أعلم . وقوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } . والرغد قد ذكرنا فيما تقدم : أَنه سعة العيش ، وكثرة المال . وقوله : { وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً } . يحتمل المراد من الباب : حقيقة الباب ، وهو باب القرية التي أُمروا بالدخول فيها . ويحتمل المراد من الباب : القرية نفسها ، لا حقيقة الباب ؛ كقوله : { وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ } ذكر القرية ولم يذكر الباب ، وذلك في اللغة سائغ ، جائز ، يقال : فلان دخل في باب كذا ، لا يعنون حقيقة الباب ، ولكن : كونه في أَمر هو فيه . وقوله : { سُجَّداً } . يحتمل المراد من السجود : حقيقة السجود ؛ فيخرج على وجوه : يخرج على التحية لذلك المكان . ويخرج على الشكر له ؛ لما أَهلك أَعداءَهم الذين كانوا فيها ، لقولهم : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } [ المائدة : 22 ] . ويحتمل : حقيقة السجود ؛ لما روي عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ بني إسرائيل أُمروا بالدخول سُجداً فدخلوا منحرفين " فما أَصابهم إنما أَصاب بخلافهم أَمر الله . ويحتمل : الكناية عن الصلاة ؛ إذ العرب قد تسمى السجود صلاةً ؛ كأنهم أُمروا بالصلاة بها . ويحتمل الأَمر بالسجود : لا حقيقة السجود والصلاة ، ولكن : أَمر بالخضوع له والطاعة ، والشكر على أَياديه التي أَسدى إليهم وأَنزل : من سعة التعيش ، والتصرف فيها في كل حال ، والله أعلم . وقوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ } . قيل بوجهين : قيل : الحطةُ : هو قول : لا إله إلا الله ، سميت حطة ؛ لأَنها تحط كل خطيئة كانت من الشرك وغيره ؛ فكأَنهم أمروا بالإيمان والإسلام . وقيل : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } : أَي اطلبوا المغفرة والتجاوز عما ارتكبوه من المآثم والخطايا ، والندامة على ما كان منهم ؛ فكأَنهم أمروا أَن يأْتوا بالسبب الذي به يغفر الذنوب ، وهو الاستغفار ، والتوبة ، والندامة على ذلك ، والله أعلم . وذلك يحتمل الشرك ، والكبائر ، وما دونهما . ذكر - عز وجل - مرة خطايا ، ومرة خطيئات ، ومرة قال : ادخلوا ، ومرة قال : اسكنوا ، ومرة قال : فأَنزلنا ، ومرة قال : فأَرسلنا - والقصة واحدة - حتى يعلم : أَن ليس في اختلاف الأَلفاظ والأَلسن تغيير المعنى والمراد . وأَن الأَحكام والشرائع التي وضعت لم توضع للأَسامي والأَلفاظ ، ولكن للمعاني المدرجة والمودعة فيها ، والله أعلم . وقوله : { وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } . يحتمل المراد من المحسنين : المسلم الذي كان أَسلم قبل ذلك . ويحتمل : الذي أَسلم بعد قوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } ، وكان كافراً إلى ذلك الوقت . والزيادةُ تَحتمل : التوفيق بالإحسان من بعد ، كقوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ … } الآية [ الليل : 5 ] . ويحتمل : الثواب على ما ذكر من قوله : { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ … } الآية [ القصص : 54 ] . وقوله : { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ } . قوله : " بَدَّلَ " يحتمل : إحداث ظلم ، بعد أَن لم يكن ، والخلاف لما أَمرهم به عز وجل . ويحتمل : نشوءَهم على غير الذي قيل لهم . ولم يبين : ما ذلك القول الذي بدلوا ؟ وليس لنا - إلى معرفة ذلك القول - حاجة ؛ إنما الحاجة إلى معرفة ما يلزمهم بالتبديل ، وترك العمل بأَمره ، وإظهار الخلاف له ، فقد تولى الله بيان ذلك بفضله ، وبالله التوفيق . وقوله : { فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } . قيل : " الرجز " هو العذاب المنزل من السماء على أَيدي الملائكة ؛ لأَن من العذاب ما ينزل على أَيدي الملائكة كعذاب قوم لوط وغيره . ومنه عذاب ينزل من السماء - لا على أَيدي أَحد - نحو : الصاعقة ، والصيحة ، ونحوهما . وقوله : { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } . مرة ذكر " يَفْسُقُونَ " ، ومرة ذكر " يَظْلِمُونَ " ، وهو واحد . وفي هذه الآيات التي ذكرناها ، والأنباء التي وصفنا - دلالةُ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإِثباتُ نبوته . وذلك أَن أَهل لكتاب كانوا عرفوا هذه الأَنباء بكتبهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ذلك بمشهدهم ، كما في كتابهم ، ولم يكن ظهر منه اختلاف إليهم ، ولا درس كتابهم ؛ فدل : أنه بالله عرف ، وكان فيها تسكين قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصبر عليه ؛ لظهور الخلاف له من قومه ، وترك طاعتهم إياه ، وأن ذلك ليس بأَول خلاف كان له من قومه ، ولا أَول تكذيب ، بل كان من الأُمم السالفة لأَنبيائهم ذلك ، فصبروا عليه ؛ فاصبر أَنت كما صبروا ؛ كقوله : { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ … } الآية [ الأحقاف : 35 ] .