Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 87-91)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ } . يعني : التوراة ، وهو ظاهر . وقوله : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } . وقيل : وقفينا : أَرْدَفْنَا ، وهو من القفا ، قفا يقفو . وقيل : أَتبعنا رسولاً على أَثر رسول ؛ كقوله : { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } [ المؤمنون : 44 ] واحداً على أَثر واحدٍ . وقوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ } . قيل : البينات : الحجج . وقيل : العجائب التي كانت تجري على يديه ، من خلق الطين ، وإحياء الموتى ، وإِبراءِ الأكمه والأَبرص ، وإِنباءِ ما يأْكلون وما يدخرون . وقيل : البينات : الحلال والحرام . ثم الرسل في أَنفسهم حفظوا حججاً ؛ فلم يحتج كل قول يقولون إلى أن يكون مصحوباً بدليل وبيانٍ على صدقهم ؛ لأَنهم في أَنفسهم حجة . وأما سائر الناس فليسوا بحجج في أَنفسهم ، فلا بد لكل قول يقولون أَن يأْتوا بدليلٍ يدل على صدقهم ، وبيانٍ يُظهر الحقَّ من الباطل ، والصوابَ من الخطأ ، والصدقَ من الكذب . وبالله التوفيق . وقوله : { وَأَيَّدْنَاهُ } : قويناه . { بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } . اختلف فيه : قيل : روح القدس : جبريل . وفي الأَصل : القدوس ، لكن طرحت الواو للتخفيف . وتأْييدُه : هو أَن عصمه على حفظه ؛ حتى لم يدن منه شيطان ، فضلاً أَن يدنو بشيء ، والله أعلم . وقيل : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } يعني بالروح : روح الله . ووجه إضافةِ روح عيسى إلى الله - عز وجل - : أَن تكون أضيفت تعظيماً له وتفضيلاً ، وذلك أن كل خاص أُضيف إلى الله - عز وجل - أُضيف ؛ تعظيماً لذلك الشيء ، وتفضيلاً له ، كما يقال لموسى : كليم الله ، ولعيسى : روحُ الله ، ولإبراهيم : خليلُ الله ، على التعظيم والتفضيل . وإذا أُضيف الجُمَل إلى الله - عز وجل - فإنما تضاف ؛ تعظيماً له - عز وجل - وتنزيهاً ؛ كقوله : { رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الرعد : 16 ] أُضيف ذلك إليه ؛ تعظيماً وتنزيهاً ، والله الموفق . والأَصل في ذلك : أَن خاصية الأَشياءِ إذا أُضيف ذلك إليه أضيف تعظيماً لتلك الخاصية . وإذا أُضيف جمل الأَشياء إلى الله ، فهو يخرج على تعظيم الرب والتبجيل له . وقوله : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } . في ظاهر هذه الآية أَنهم كذبوا فريقاً من الرسل ، وقَتلوا فريقاً منهم . ويقول بعض الناس : إنهم قتلوا الأَنبياءَ ولم يقتلوا الرسل ؛ لقوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] ، ولقوله : { إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [ الصافات : 172 ] أَخبر أَنه ينصرهم ، ومن كان الله ناصره فهو لا يقتل . ومنهم من يقول : إنهم قتلوا الرسل والأنبياء . فنقول : يحتمل قوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } في رسول دون رسول ، فمن نصره الله فهو لم يقتل . أَو كان ما ذكر من النُّصرة لهم كان بالحجج والآيات . ثم في الآية دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ؛ لأَنه أَخبرهم بتكذيب بعض الرسل ، وقتل بعضهم ، فسكتوا عن ذلك ، فلولا أَنهم عرفوا أنه رسول - عرف ذلك بالله - وإلا لم يسكتوا عن ذلك . وقوله : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } . يعني : في أَكنة عليها الغطاء ؛ فلا نفهم ما تقول ، ولا نفقه ما تُحدِّث . يدَّعون زوال الخطاب عن أَنفسهم ؛ كراهية لما سمعوا . وأَكذبَهُمُ الله تعالى بقوله : { بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ } أَي : طردهم الله ؛ بكفرهم ، وعتوهم ، وتفريطهم في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ، واعتنادهم إياه ، لا أَن قلوبهم بمحل لا يفهمون شيئاً مما يخاطبون به - على ما يزعمون - ولكن ذلك لترك التفكر والتدبر فيها . وقيل في قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } : يعني : أَوعيةً ، تفهم وتعي ما يقال ، ويخاطب ، ولكن لا تفهم ما تقول ، ولا تفقه ما تُحدث ، فلو كان حقّاً وصدقاً لفهمت ولفقهت عليه . يَدَّعون إِبطال ما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ، وذلك نحو ما قالوا لشعيب : { مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } [ هود : 91 ] . وقوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } . قيل فيه بوجهين : قيل : فقليلاً أي بقليل ما يؤمنون من التوراة ؛ لأَنهم عرفوا نَعْته وصفته ، وحرفوه ، فلم يؤمنوا به . وقيل : فقليلاً ، أَي : قليل منهم يؤمنون بالرسل ، صلى الله عليهم وسلم . وقوله : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } . فلولا أنهم عرفوا أَن هذا الكتاب هو موافق لما معهم من الكتاب ، غير مخالف له ، وإلا لأَظهروا الخلاف لو عرفوا ذلك ، ولتكلفوا على إِطفاءِ هذا النُّور ودفعه ؛ فدل سكوتهم عن ذلك ، وترك اشتغالهم بذلك ، أَنهم عرفوا موافقته لما معهم من التوراة ؛ ففيه آية نُبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } . { يَسْتَفْتِحُونَ } : يستنصرون { عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، يقولون اللهم انصرنا بحق نبيِّك الذي تبعثه ، فلما لم يجئهم على هواهم ومرادهم كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين . وقوله : { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ } . يقول : اشتروا ما به هلاكهم بما به نجاتهم . وذلك أَنهم كانوا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ فكان إيمانُهم به نجاتَهم في الآخرة ، فكفروا به ، وذلك هلاكُهم ، وبالله التوفيق . وقيل : { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ } : باعوا به أَنفسهم بعرض يسير من الدنيا ، بعذاب في الآخرة أَبداً . وقوله : { بَغْياً } . قيل : حسداً منهم ؛ وذلك أَنهم قد هَووا أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم من أَولاد إسرائيل ؛ لأَنهم كانوا أُمَّتَه ، فلما بُعث من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - والعربُ كانت من أَولاده كفروا به ، وكتموا نعته حسداً منهم . وقوله : { أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } . يعني : النبوة والكتاب على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : { بَغْياً } أَي : ظلماً ، ظلموا أَنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتكذيبهم إياه . وقوله : { فَبَآءُو } . قد ذكرنا فيما تقدم . وقوله : { بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } . يحتمل وجهين : قيل : استوجبوا الغضب من الله ؛ بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، على أَثر غضب ؛ بكفرهم بعيسى ، وبما جاء به . وقيل : إنما استحقوا اللَّعنة على أَثر اللَّعنةِ ؛ بعصيانٍ بعد عصيانِ ، وبذنب على أَثر الذنب . والله أعلم . وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } . على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن . وقوله : { قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } . يعني التوراة ، وهم لم يكونوا آمنوا بالتوراة ؛ لأنهم لو كانوا آمنوا بها لكان في الإيمان بها إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أُنزل عليه ، وإيمان بجميع الأَنبياءِ - عليهم السلام - والرسل ، وبجميع ما أُنزل عليهم ؛ لأَن فيها الأَمرَ بالإِيمان بجميع الرسل وبكتبهم ؛ لأَنه قال : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } ، وموافقاً له . فالإيمان بواحد منهم إيمان بجميع الكتب ، وبعضها موافق لبعض . وقوله : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } . قيل : وراءَ التوراة كفروا بالإِنجيل والفرقان ؛ كأَنه قال : كفروا بالذي وراءَه وهو الحق ؛ إذ هما موافقان لما معهم ، غير مخالف له . ويحتمل : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } يعني : وراء موسى بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ كأَنه قال : من ورائه صلى الله عليه وسلم . وقوله : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } . فإن قالوا : إنا لم نقتل الأَنبياءَ ، ونحن مؤمنون . قيل لهم : إنكم - وإن لم تتولوا القتلَ - فقد رَضيتُم بصنيع أُولئك ، واتبعتم لهم ، مع ما قد هَمُّوا بقتل محمد صلى الله عليه وسلم مراراً ؛ ولذلك أُضيف إليهم . وقيل : أَخبر - عز وجل - نبيَّه صلى الله عليه وسلم غاية سفههم ، وعتوهم ، ومكابرتهم في تكذيبه . وذلك : أَن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإِيمان به ، وبما أُنزل عليه . فقالوا : ائتنا بالآيات والقربان ، وكما كانت الأَنبياء - من قبل - يأْتون بها قومهم . يقول الله - عز وجل - : قد كانت الأَنبياء من قبل تجيء - بما تقولون - إلى آبائكم ؛ من الآيات والقربان ، فكانوا يقتلُونهم . فيقول الله - عز وجل - لمحمد صلى الله عليه وسلم : أَنْ قل لهم : لن تقتلون ؟ يقول : لم قتل آباؤكم أَنبياء الله قَبْلَ محمد صلى الله عليه وسلم وقد جاءُوا بالآيات والقربان إن كنتم صادقين بأَن الله عهد إليكم في التوراة : ألا تؤمنوا لرسول حتى يأْتيكم بقربان تأْكله النار ، وقد جاءُوا به . فَلِم قتلوهم ؟ ! فهو - والله أعلم - أَنهم أَخذوا هذه المحاجة من أَوائلهم ، وإن علموا بما ظهرت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأَنه مبعوث ، وأَنتم تقلدونهم ، فتُقلدونهم - لو أوتيتم - كما قلدتموهم ، وإن علمتم بما عاينتم ؛ إذ لا حجة لكم . والله أعلم .