Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 101-106)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } . قال عامة أهل التأويل : إنه لما نزل قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] قالت الكفرة : إن عيسى وعزيراً والملائكة قد عبدوا من دون الله فهم حصب جهنم ، فنزل قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } استثنى من سبق له الحسنى منه ، وهو عيسى وهؤلاء ، وكذلك في حرف ابن مسعود : ( إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى ) على الاستثناء . عن علي - رضي الله عنه - قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ … } الآية : ذاك عثمان وطلحة والزبير ، وأنا من شيعة عثمان وطلحة والزبير ، ثم قال : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ … } الآية [ الأعراف : 43 ] . ولكن قد ذكرنا الوجه فيه ، فإن ثبت أنه نزل بشأن هؤلاء وإلا فهو لكل من سبق له من الله الحسنى . ثم { ٱلْحُسْنَىٰ } يحتمل الجنة ، كقوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } [ الليل : 5 - 6 ] أي : بالجنة ، فعلى ذلك قوله : { سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } ، ويحتمل { ٱلْحُسْنَىٰ } : السعادة والبشارة بالجنة وثوابها . وقوله : { أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } أي : لا يعودون إليها أبداً ، ليس على بعد المكان كقوله : { أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } [ إبراهيم : 3 ] أي : لا يعودون إلى الهدى أبداً . أو أن يكون قوله : { مُبْعَدُونَ } عنها مكاناً ، لكن قد ذكر في آية : { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } [ المطففين : 34 - 35 ] وقال في آية : { فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [ الصافات : 55 ] ولا نعلم هذا أنه يجعل في قوى أهل الجنة أنهم متى ما أرادوا أن ينظروا إلى أولئك ويروهم يقدرون على ذلك ؛ أو تقرب النّار إليهم فينظرون إليهم ، والله أعلم ، والأوّل أشبه أنهم لا يعودون إليها أبداً . وقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } أي : صوتها ، وهو ما ذكر من الإبعاد ، وإذا بعدوا منها لم يسمعوا حسيسها . وقوله - عز وجل - : { وَهُمْ فِي مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } وهو ما قال في آية أخرى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الزخرف : 71 ] . وقوله - عز وجل - : { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } أي : لا يحزنهم أهوال يوم القيامة وأفزاعها { وَتَتَلَقَّاهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } أي : تتلقاهم الملائكة بالبشارة ، كقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ … } الآية [ فصلت : 30 ] . أو { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } ، أي : لا يحزنهم ما يحل بالكفرة من الفزع والعذاب ، كمن رأى في الدنيا إنساناً في بلاء وشدة ، أو يعذب بعذاب ، فإنه يحزن ويهتم بما حل به ، فأخبر أنّهم لا يحزنون بما حل بالكفرة من العذاب والشدائد . قال أبو عوسجة : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] قال : الحصب والحطب واحد ، قال : وما أكثر من العرب من يتكلم بهذه اللفظة ، قال : ولا أعرف ( حضب جهنم ) بالضاد . وقال غيره ما ذكرنا من إلقاء الحطب فيه والتهييج . وقوله : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي : داخلون . وقوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } الزفير : هو شدة النفس في الصّدر ، يقال : زفر يزفر زفيراً . وقال بعضهم : الزفير : هو أنين كل محزون ومكروب ، وهو قريب ممّا ذكرنا . وقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } ، أي : صوتها ، وهو من الحس : وهو الصّوت . وقال القتبي : حصب جهنم : ما ألقي فيها ، وأصله : من الحصباء ، وهي الحصاة ، ويقال : حصبت فلانا - أي : رميته - حصبا بتسكين الصّاد ، وما رميت به حصب ، بفتح الصّاد ، وكما تقول : نفضت الشجرة نفضا ، وما وقع نفض ، واسم حصى الجمار : حصب . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } كأن هذا خرج على إثر سؤال سألوه على غير ابتداء ؛ لأن الابتداء بمثله على غير تقدم أمر لا يحتمل ، فكأنه - والله أعلم - لما ذكر أهل النار في قوله : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } إلى قوله : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } وذكر أهل الجنة ووصفهم بقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ … } إلى آخر ما ذكر من قوله : { هَـٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } فكأنهم قالوا : متى يكون ذلك ؟ فقال عند ذلك : { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } أخبر أن السماء تطوى كما يطوي السجل الكتب . ثم ذكر في السماء الطي مرة والتبديل في آية بقوله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ … } الآية [ إبراهيم : 48 ] ، وذكر [ الانفطار و ] الانشقاق في آية ، كقوله : { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [ الانفطار 1 ] و { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } [ الانشقاق : 1 ] ونحوه ، كما ذكر في الجبال أحوالا ، مرة قال : { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] ، وقال في آية [ أخرى ] : { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] ، وقال في آية أخرى : { هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] وقال في آية أخرى : { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [ النمل : 88 ] ونحوه ، فجائز أن يكون كذلك على اختلاف الأحوال ، على ما ذكرنا فيما تقدم ، ثم تتلاشى وتفنى حتى لا يبقى منها شيء ، كما ذكر { هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ؛ فعلى ذلك السماوات والأرضون يختلف عليها الأحوال على ما ذكر ، ثم آخرها التبديل كما ذكر { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ } [ إبراهيم : 48 ] فيما ذكر في هؤلاء الآيات من تغيير الجبال والسماوات والأرضين دليل فناء هذا العالم بجملته وأسره ؛ لأن فناء السماوات والأرض والجبال يبعد عن أوهام الخلق ، وأمّا غيرها من الخلائق فإنهم يشاهدون فناءه ، فذكر فناء ما يبعد في أوهامهم ، ليعلموا أن هذا العالم يفنى بأسره ، ويستبدل عالماً آخر ، يحتمل البقاء للجزاء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } . هذا أيضاً لا يحتمل إلا على تقدم ذكر ، فهو محتمل ما ذكرنا مما سبق من ذكر أهل الجنة وأهل النار ، فقالوا : كيف يحيون ؟ فقال عند ذلك : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } ثم اختلف فيه : فقال بعضهم : نطفا ، ثم علقاً ، ثم مضغا ، ثم عظاماً ، ثم لحماً ، ثم ينفخ فيهم الروح . وقال بعضهم : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } حفاة عراة على ما خلقوا في الابتداء . وقال بعضهم : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } يعني : السماوات السبع يطويها الله فيجعلها سماء واحدة كما كانت أولا قبل أن يخلق فيها ست سماوات ، والأرضين كذلك . وجائز أن يكون ذكر هذا إخباراً أنه قادر على أن يعيدهم كما قدر على ابتداء خلقهم . وقوله - عز وجل - : { وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } أي : بعثهم { وَعْداً عَلَيْنَآ } لا يختلف ذلك على ما قال : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [ آل عمران : 9 ] ثم اختلف في السجل ، وفي قراءته : قال بعضهم : السجل : اسم رجل ، وهو كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : هو اسم الملك الذي يكتب . وقال بعضهم : السجل : الصحيفة . ثم قال بعضهم : من قرأ { ٱلسِّجِلِّ } بالتشديد فهو الصحيفة ، ومن قرأ { ٱلسِّجِلِّ } بالتخفيف : هو ملك موكل بالصحف ، اسمه : السجل ، ويقرأ الكتاب . قال أبو عوسجة : { كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } قال : يقال : أسجلت وسجلت ، أي : كتبت ، إسجالا وتسجيلا ، وسجلت أيضاً : عملت ، وسجل : خلق ، يقال منه : سجل يسجل سجلا ، والمساجلة : المفاخرة ، ويقال : ساجلته : فاخرته ، ويقال : أسجلت الكلام فهو مسجل ، أي : أطلقته وأرسلته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } . قال بعضهم : إن كل كتب الله التي أنزلها هي زبور . { مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ } أي : الكتاب الذي عند الله وهو اللوح المحفوظ ، معناه - والله أعلم - على هذا التأويل : كتبنا في الكتب التي أنزلناها بعد ما كان مكتوباً في اللوح المحفوظ { أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا … } كذا . وقال بعضهم : كتب الله في الزبور المعروف ، وهو زبور داود بعد ما كتب { مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ } أي : التوراة { أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا } يعني : الجنة { يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } وكتب ذلك في هذا القرآن فقال : { إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } . وقال بعضهم : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ } ، أي : زبور داود بعد ما كتب في الذكر الذي عنده . وجائز أن يكون قوله : { كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ } : في بعض كتاب ، أي : في بعض السور : { مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ } ، أي : من بعد السورة { أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا } كذا . وجائز أيضاً : { كَتَبْنَا } في كتاب { مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ } ، أي : من بعد ما ذكرهم ووعظهم { أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا } كذا . ثم اختلفوا في قوله : { أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } : قال عامة أهل التأويل : هي الجنة ؛ أخبر أن الجنة إنما يرثها عبادي الصالحون ، وهو ما ذكر في آية أخرى : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 10 - 11 ] فيكون هذا تفسيراً لذلك . وقال بعضهم : { أَنَّ ٱلأَرْضَ } يعني : أرض بيت المقدس { يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } وهو كذلك كان ، لم يزل بها عباد الله الصالحون إلى يوم القيامة . وجائز أن يكون قوله : { أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا } أنه محمد ، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " زُويت لي الأرضُ فأريتُ مشارقَهَا ومغاربَها وسَيبْلُغ ملك أمتي ما زُوي لي منها " ، فذلك وراثتها ، وهم عباده الصالحون ، كقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ … } الآية [ آل عمران : 110 ] ؛ أخبر أنها خير الأمم ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } يحتمل قوله : { فِي هَـٰذَا } أي : فيما ذكر من قوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } في ذلك { لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي : لقوم همتهم العبادة ، أو لقوم مطيعين موحدين . وجائز أن يكون قوله : { إِنَّ فِي هَـٰذَا } فيما تقدم من الآيات ، وهو قوله : { وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } [ الأنبياء : 97 ] إلى قوله : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } ، وما ذكر من قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ … } إلى آخر ما ذكر - أن فيما ذكر كله { لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } . وجائز أن يكون بلاغا للناس جميعاً ، كقوله : { هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ } [ إبراهيم : 52 ] فيكون قوله : { لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي : لقوم يلزمهم العبادة . وقال بعضهم : { إِنَّ فِي هَـٰذَا } أي : في هذا القرآن { لَبَلاَغاً } أبلغهم عن الله { لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } . وفي حرف ابن مسعود : { إِنَّ فِي هَـٰذَا } أي : في هذا { لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } .