Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 12-16)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } . قال بعضهم : إنما ذكر سلالة ؛ لأنه سُلَّ من كل تربة . وقال أبو عوسجة : السلالة : الخالص من كل شيء ، وقوله : { مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } حرّ ، أي : من أجود الطين ؛ ذكر مرة : { مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } ، ومرة : { مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ، 28 ] ، ومرة قال : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الحج : 5 ] ومرة : { كَٱلْفَخَّارِ } [ الرحمن : 14 ] ، ونحوه ، وهو آدم - عليه السلام - وذلك على تغيير الأحوال ، والله أعلم بالصواب . وقوله : { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } أي : ثم خلقنا ولده وذريته من نطفة ، أخبر [ عن ] أصل ما خلق آدم منه ، وأصل ما خلق ولده منه ، وهي النطفة . وقوله : { فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } . قال بعضهم : الرحم . وجائز أن يكون القرار هو صلب الرجل ؛ لأن النطفة لا تخلق في الصلب أوّل ما خلق الإنسان ، ولكن تجعل فيه من بعد ؛ فيكون الصلب قرارها ومكانها إلى وقت خروجها منه إلى الرحم ؛ وعلى ذلك قوله : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } [ الأنعام : 98 ] : الرحم . وقال بعضهم : المستقر : الرحم ، والمستودع : الصّلب . وجائز أن يكونا جميعاً واحداً ، أيهما كان : الرحم أو الصلب ؛ لأن كليهما قرار وما يستودع فيه . وقال ابن عباس وغيره : السلالة : صفوة الماء . وقوله : { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } والنطفة هي المعروفة ، والعلقة والدم والمضغة : القطعة من اللحم إلى آخر ما ذكر ، يخبرهم عن تحويله إياهم وتقليبه من حال إلى حال لوجوه : أحدها : يخبر عن قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره ؛ ليعلموا أن من قدر على إنشاء العلقة من النطفة ما لو اجتمع الخلائق جميعاً على أن يعرفوا سبب خلق هذا عن هذا ، مع إحاطة علمهم أن ليس فيها من آثار العلقة شيء - ما قدروا على ذلك ، وعلى ذلك جميع ما ذكر من النطفة والمضغة ، [ و ] من العلقة والعظم ، [ و ] من المضغة والإنسان ، دل ذلك كله على أنه قادر ؛ فمن قدر على هذا يقدر على إنشائهم من الأصل من لا شيء ، ويقدر على إحيائهم بعد ما صاروا تراباً ، والأعجوبة في خلق الإنسان مما ذكر من النطفة والعلقة والمضغة ليس بدون خلقه إياهم من التراب من الوجوه التي ذكرنا . وفيه دلالة علمه الذاتي ؛ لأن من قدر على تحويلهم من حال إلى حال التي ذكر في الظلمات الثلاث ؛ دل أنه عالم بذاته لا بعلم مستفاد من أحد ، ولا قوة مكتسبة ؛ ولكنه بالعلم الذاتي والقوة الذاتية ؛ لأن مَنْ علمُه مستفاد ، ومَنْ قوتُهُ مستفادة ومكتسبة لا يبلغ ذلك . وفيه دلالة تدبيره ؛ لخروج الخلق جميعاً وتوالدهم من أول أمرهم إلى آخر ما ينتهون على جري واحد وسنن واحد ، على غير تغيير في التوالد والتناسل الذي جعل فيهم ، وكذلك جميع ما يخرج من الأرض من النبات والأشجار والأوراق في كل عام ، وفي كل سنة يخرج على جرية واحدة وسنن واحد لا يتغير ولا يتفاوت وقت خروجه ؛ بل على تقدير واحد وميزان واحد ؛ دل أنه على تدبير ذاتٍ خرج ، لا على الجزاف ، وبالله الحول والقوة . وفيما ذكر من تحويله إياهم وتقليبه من حال إلى حال دلالة أنه لم ينشئهم لأنفسهم ، وأن من أنشأ من العالم سواهم إنما أنشأه لهم ، وأنشأ أنفسهم لعاقبة ؛ لأنه لو كان إنشاؤه إياهم لأنفسهم وللفناء الذي ذكر في قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } لكان يتركهم على حالة واحدة ولا يحولهم من حال إلى حال ، فإذا حولهم وقلبهم من حال إلى حال دل أنه لا للموت الذي ذكر خلقهم خاصة بقوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } ؛ ولكن لعاقبة تقصد ، وهو البقاء الدائم لا فناء فيه ، وهو ما ذكر : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } . وقوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } . أما أهل التأويل فمنهم من قال : نفخ الروح فيه ، وهو قول ابن عباس وغيره . وقال بعضهم إنبات الشعر ونحوه ، وهو قول قتادة وغيره . وعن الحسن وغيره : ذكر أو أنثى . وجائز أن يكون قوله : { أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } : غير ما قال هؤلاء ، وهو إظهار الجوارح والأعضاء وتركيبها ، ما فيه دلالة ؛ لأنه أخبر أنه يقلبه شيئاً واحداً مصمتا ليس به هذه الجوارح والأعضاء ، إنما يكون فيه آثارها لا أعينها فيركب فيه أعين الجوارح والأعضاء حتى يكون إنسانا ، فذلك هو إنشاء خلق آخر ، ويكون نفخ الروح ونبت الشعر في تركيب ما ذكرنا ، والله أعلم . ومن ينكر خلق الشيء لا من شيء ، ويقول بقدم العالم إنما ينكر ذلك ؛ لما لم ير في الشاهد صنع شيء لا من شيء ، فيقال له : وهل رأيت إنشاء شيء من شيء على إتلاف الأصل حتى لا يبقى له أثر ، فإذا لم تر هذا في الشاهد ، وقد رأيت في الغائب إنشاء شيء من شيء على إتلاف الأوّل منه ، نحو النطفة تصير علقة على تلف النطفة فيها ، والعلقة مضغة على إتلاف العقلة فيها … إلى آخر ما ذكر ، كل ذلك منشأ من آخر إنما كان بعد تلف الأصل ، فهلا دل ذلك [ على ] أن عدم الإنشاء في الشاهد لا من شيء لا يدل على عدمه في الغائب ، وأنه حيث قدر [ على ] هذا يقدر على كله . وقوله : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } . من الناس من يستدل على أنه إذا لم يكن سواه خالقاً لم يكن لقوله : { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } معنى ؛ كقوله : { أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } [ يوسف : 64 ، 92 الأنبياء : 83 ] ، و { أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } [ هود : 45 ] ، ونحوه ، إنما قال هذا لما يكون سواه رحيماً حكيماً كريماً ؛ فأخبر أنه أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ؛ فعلى ذلك ما قال : { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } . ولكن جائز القول بمثل هذا عند الناس على غير إثبات آخر سواه في ذلك حقيقة ، وهو يخرج على وجوه : أحدهما : { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } مما تنسبون أنتم إليه ، وتجعلونه خالقاً عندكم ؛ كقوله : { فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } [ الصافات : 91 ] : إبراهيم لم يسمّ معبودهم الذي عبدوه إلها على جعل الألوهية له ، ولكن على ما سموا هم ونسبوا الألوهية إليه ، وكذلك قول موسى ، حيث قال : { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [ طه : 97 ] على ما عندهم ، ليس على تسمية الإله له حقيقة ؛ دل ما ذكرنا على أن تسمية ما ذكر وذكره يجوز ، وإن لم يكن هنالك سواه إلهاً خالقاً ، وكذلك قوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] : ليس على أن لهم شفعاء يشفعون لهم ؛ ولكن لا شفعاء لهم ؛ فعلى ذلك ما ذكرنا . والثاني : تأويل { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } ، أي : لو جاز أن يكون خالق آخر سواه لكان هو أحسن الخالقين ، ولكن لا يجوز ، وهو كقوله : { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [ الزمر : 4 ] أي : لو جاز أن يتخذ ولداً لاصطفى مما ذكر ، لكن لا يجوز ، وكذلك قوله : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ } [ الأنبياء : 17 ] ، أي : لو جاز أن يكون كذا لكان كذا ، ليس على أنه يجوز أن يكون ، وكذلك قوله : { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ … } الآية [ المؤمنون : 91 ] ، أي : لو جاز أن يكون معه إله لذهب بما ذكر ، لكن لا يجوز ؛ فعلى ذلك قوله : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } ، أي : لو جاز أن يكون هنالك خالق غيره لكان هو أحسن الخالقين ، ولكن لا يجوز ، والله الموفق . والثالث : ذكر أحسن الخالقين ؛ لما أن العرب تسمّي كل صانع شيء خالقاً ؛ فخرج الذكر لهم على ما يسمونهم ، ليس على حقيقة الخلق لمن دونه ؛ كقول عيسى حيث قال : { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ } [ آل عمران : 49 ] ، أو أن يكون ذكر هذا القول من يقول : إن العالم أصله من أربع طبائع : من الحرارة ، والبرودة ، واليبوسة ، والرطوبة . أو أن يكون كقول بعض الفلاسفة : إن العالم أصله من أربع أو من خمس : من الماء ، والأرض ، والنار ، وغيره . فأخبر أنه ليس كذا ، ولكن هو خالقهم لا من الأشياء التي توهموا هم . وعلى قول من يقول : إنه يكون غيره خالقاً لكان الخالق غير دالّ على الخالق ، وقد جعل الله الخلق سبباً لمعرفة الخالق ، فلو كان غيره خالقاً ، لكان الخلق غير دالّ على معرفة الخالق ؛ لأنه قال : { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } [ الرعد : 16 ] : أخبر أنه لو كان سواه في ذلك تشابه الخلق عليهم ، فإذا تشابه لم يكن سبباً لمعرفة ، على ما أخبر في إثبات عدد الآلهة ؛ كقوله : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } [ المؤمنون : 91 ] ، فإذا بطل هذا ولم يجز عدد الآلهة وإثبات الألوهية لغيره ، فعلى ذلك في الخلق على الوجوه التي ذكرنا . وقوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } . قد ذكرنا فيما تقدم أن المقصود من خلق هذا العالم - لم يكن الإماتة والإفناء ؛ ولكن عاقبة تتأمّل وتقصد حيث قلبهم من حال إلى حال ، ثم لم يتركهم على حالة واحدة ، فلو كان المقصود من خلقهم الفناء والهلاك لا غير ، لكان تركهم على حالة واحدة ، ولم يقلبهم من حال إلى حال ؛ فدل التحويل والتقليب من حال إلى حال على أن المقصود من الخلق العاقبة ، على ما ذكرنا والله أعلم ؛ لأنه أخبر أن خلقهم لا لعاقبة يقصد بها عبث ؛ حيث قال : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } [ المؤمنون : 115 ] صير خلقهم لا للرجوع إليه عبثاً ، وقال في آية آخرى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا … } الآية [ النحل : 92 ] : صير نقض الغزل بعد إبرامه وقوته سفها منها ؛ فلا جائز أن يسفه تلك المرأة تنقض غزلها بعد الإحكام والإبرام بلا نفع يكون لها ، ثم هو يفعل ذلك ؛ إذ خلق الخلق للفناء والهلاك خاصة - عبث ولعب ، وعلى ذلك بناء البناء في الشاهد لا لعاقبة ومنفعة ، ولكن للهدم والنقض سفه ولعب . قلنا : إن خلق الخلق لا للموت خاصّة ، ولكن لما ذكر من قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } ، أي : تحيون . قال القتبي : يقال للولد : سلالة أبيه ، وللخمر : سلالة ، ويقال : إنما جعل آدم من سلالة ؛ لأنه سُلَّ من كل تربة . وقال أبو عوسجة : السلالة : الخالص من كل [ شيء ] . قال أبو معاذ : النسل : الولد يسل من تحت كل شعرة . وقال القتبي : المضغة : اللحمة الصغيرة ؛ سميت بذلك لأنها بقدر ما يمضغ ؛ كما قيل : غرفة ، بقدر ما يغرف . وقوله : { فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } . أي : مكان حريز ، أو هو الرحم أو الصلب ، أيهما كان فهو ما وصف .