Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 99-116)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } . ظاهر هذا أن يكون قوله : { رَبِّ ٱرْجِعُونِ } بعد الموت ، وبعد ما عاين أهوال الآخرة وأفزاعها ؛ لأن الموت ليس هو شيء يأتي من مكان إلى مكان ؛ إنما هو شيء يذهب بالحياة التي فيهم ، إلا أن أهل التأويل قالوا : إن ذلك عند معاينتهم ملك الموت ، وعند هجومه عليهم بأهواله ؛ فعند ذلك يسألون الرجعة إلى الدنيا ، والأول أشبه وأقرب . ثم قوله : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } : ليس هو صلة قوله : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 97 - 98 ] ، ولا جوابه ؛ لأنه ليس من نوعه ، ولا من جنس ذلك ، ولكنه - والله أعلم - صلة قوله : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ، وجواب قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } ، ونحوه الذي تقدم ذكره ، يقول : وإنهم على ذلك { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } ، فعند ذلك يرجع إلى الحق والتصديق ، لكن ذلك لا ينفعه في ذلك الوقت { قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } ، ولم يقل : ربّ ارجعني ، وذلك يخرج على وجهين : أحدهما : سأل على ما يسأل الملوك ويخاطبون : افعلوا كذا ، على الجماعة ، وإن كان إنما يخاطب واحدا ؛ على ما خرج جواب الله وقوله : إنا فعلنا كذا ، ونفعل كذا . والثاني : أن يكون قوله : { رَبِّ ٱرْجِعُونِ } : يسأل ربه أن يأمر الملائكة الذين يتولون قبض أرواحهم أن يرجعوه إلى ما ذكر ، والله أعلم . وقوله : { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } . قال بعضهم : { فِيمَا تَرَكْتُ } ، أي : فيما كذبت . وقال بعضهم : { فِيمَا تَرَكْتُ } : في الدنيا من الأعمال الصّالحة فأعمل بها . وجائز أن يكون قوله : { فِيمَا تَرَكْتُ } : من الأموال فأؤدي منه حقك ؛ لأن من الكفرة ما كان سبب كفرهم منع الزكاة وجحودها ؛ كقوله : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [ فصلت : 6 - 7 ] فيسأل ربه أن يرجع إلى المال الذي تركه ؛ ليؤدّي الحق الذي كان فيه فمنعه ، كقوله : { فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] ، وقوله : { فَأَصَّدَّقَ } ، أي : فأتصدق بالصدقة التي منعتها ؛ لأن الخطاب في الصدقة بقوله : { أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم … } الآية [ البقرة : 254 ] ، وهذا أشبه ، والله أعلم . وقوله : { كَلاَّ } ، هو ردّ لما سألوا من الرجعة . [ و ] قوله : { إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } . قال بعضهم : قوله : { إِنَّهَا كَلِمَةٌ } : هو قول الله : { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً … } الآية [ المنافقون : 11 ] ، { قَآئِلُهَا } : يعني الكافر عند معاينة العذاب ، وهو قوله : { ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } . ثم قوله : { كَلاَّ } على هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أنه لا حقيقة لسؤاله الذي يسأله من الرجعة ليعمل العمل الصالح ، أي : أنه وإن ردّ ورجع لا يعمل ؛ كقوله - تعالى - : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . والثاني : أن لا منفعة لهم في سؤالهم الرجعة ؛ إذ لو رجعوا لا يصلون إلى ما يأملون ؛ لأنهم إنما يسألون ليؤمنوا ، والإيمان سبيله الاستدلال ، فإذا لم يستدلوا به وقت أمنهم وفسحتهم ؛ فكيف يقدرون على الاستدلال في وقت خوفهم ؟ ! والله أعلم . وقوله : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } . قال بعضهم : وراءهم ، أي : أمامهم . قال أبو معاذ : مشتقة من تواريت عنك ، فكل ما توارى عنك أمامك كان أو وراءك فهو وراءك . وقال بعضهم : { وَمِن وَرَآئِهِمْ } : على حقيقة الوراء . { بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ، قال بعضهم : البرزخ : هو ما بين شيئين . وقال بعضهم : البرزخ : هو الأجل بين الموت والبعث ، وهو قول الكلبي وقتادة . وقال مجاهد : البرزخ : هو حاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا . وقال القتبي : وأبو عبيدة : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة ، وقالا : كل شيء بين شيئين فهو برزخ . وقال أبو عوسجة : البرزخ : ما بين الحدين ، يعني : الدنيا والآخرة ، والأرض المستوية ، وأصل البرزخ : الحاجز بينه كقوله : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } [ الفرقان : 53 ] ، أي : حاجزاً ، وتأويله ، أي : صاروا إلى الوقت الذي يحجزهم عما يتمنون ويشتهون ، وهو كقوله : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ : 54 ] ، وإنما يشتهون ويتمنون الإيمان والأعمال الصالحة . وجائز أن يكون قوله : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ } ، أي : من ورائهم أحوالهم [ أي : الحال التي طلبوا ] الإيمان فيه أحوال لا يمكن فيها الإيمان وما تمنوا من العمل الصالح ، والله أعلم . وفيه نقض قول الباطنية ؛ لأنهم يقولون : البرزخ هو أن يجعل للمؤمن من الأعمال الصالحة صورة روحانية تبقى أبداً تثاب تلك الصورة الروحانية من الأعمال ، وأن يجعل من الأعمال السيئة للكافر صورة قبيحة روحانية هي تعاقب وتعذب أبداً ، فذلك البعث عندهم ، فأخبر - عز وجل - أن بين موتهم وبين البعث : البرزخ ، وهو الأجل الذي ذكرنا ، أو الحاجز ؛ فدل ذلك على نقض قولهم : أن ليس البعث إلا خروج الصورة دون المعاينة . وقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } . إن كان قوله : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } في الناس كلهم ؛ فذلك في اختلاف المواطن ، على ما قال ابن عباس وغيره من أهل التأويل ، واختلاف الأوقات : لا يتساءلون في موطن أو في وقت ، ويتساءلون في وقت آخر ؛ ألا ترى أنه قال : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] ، ونحوه . وإن كانت الآية في [ أهل ] الكفر خاصّة فهو يخرج على وجهين : أحدهما : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } ؛ لأنه كان يتناصر بعضهم ببعض على غيرهم ، ويستعين بعضهم بعضا ، ويكونون ردءاً لهم في هذه الدنيا وشفعاء وأعواناً وأنصاراً ، فأخبر أن ذلك ينقطع بينهم ويذهب ذلك التناصر عنهم في الآخرة ، والعرب خاصّة كان يتفاخر بعضهم على بعض بالأنساب ويتناصر ؛ فأخبر أن ذلك منقطع عنهم في الآخرة . والثاني : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ } وما ذكر { يَوْمَئِذٍ } ؛ لشغلهم بأنفسهم ؛ لفزع ذلك اليوم وأهواله ينسى بعضهم بعضا ويهرب منه ، كقوله : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ … } الآية [ إبراهيم : 43 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ … } الآية [ عبس : 34 ] ، وقال في آية أخرى : { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ … } الآية [ الحج : 2 ] ، فذلك كله ؛ لشدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه كأن لكل في نفسه شغلا حتى لا يتفرغ إلى أحد وإن قرب عنه لشغلهم بأنفسهم . وإن كان في الناس جميعاً فهو ما ذكرنا أن ذلك يكون في اختلاف المواطن والأوقات : يسألون في وقت ولا يسألون في وقت ، ويسألون في موطن ولا يسألون في موضع ، أو يسألون عن شيء ولا يسألون عن آخر ، وروي [ في ] الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كلُّ نَسَبٍ كانَ فهو منقطعٌ إلا نسبي " أو كلام نحو هذا ، ثم يحتمل قوله : " إلا نسبي " وجهين : أحدهما : الشفاعة له في أنسابه ، لا يكون ذلك لغيره في نسبه ؛ فإذا أراد هذا فهو على حقيقة نسبه . والثاني : أراد بقوله : " إلا نسبي " : المعين له في دينه ؛ لأن كل من اتبعه فقد انتسب إليه ؛ فكأنه قال : إن كل [ ذي ] شفاعة دوني فهو منقطع إلا شفاعتي ، فيمن اتبعني وانتسب إلي بقبوله ديني . وقوله : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } . جائز أن يكون قوله : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } ، أي : من عظم قدره ومنزلته عند الله بالأعمال التي عملوها من الصالحات والحسنات فهو من المفلحين ، ومن خفت منزلته وقدره عند الله بالأعمال الخبيثة السيئة فهو من الذين خسروا أنفسهم ، والله أعلم . وقد ذكرنا أقاويل أهل التأويل في الموازين فيما تقدم . وقوله : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } . قال بعضهم : لفحتهم النار لفحة ؛ فلم تدع لحماً على عظم إلا ألقته . { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } ، قال بعضهم : عابسون . وقال بعضهم : تلفح ، أي : تنفح . وقال بعضهم : تلفح : تشوي وتحرق ، وذلك عادة النار أنها تعمل كل هذا العمل . وقال أبو عوسجة : تلفح ، أي تضرب ، واللفح : الضرب ، يقال : لفحته النار ، أي : ضربته ؛ فأحرقت وجهه ، تلفح لفحاً فهي لافحة . والكالح : العابس . وقوله : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } . كذلك كانوا يكذبون ، وقد ذكرناه في غير موضع . وقوله : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } . أما ما قال أهل التأويل : غلبت علينا من الشقاوة فإنه لا يحتمل ؛ لأنهم يقولون ذلك القول ؛ اعتذاراً لما كان منهم من التفريط في أمره والتضييع ؛ فلا يحتمل أن يطلبوا لأنفسهم عذراً فيما كان منهم ؛ إذ لو كان ما ذكر أولئك لكان في ذلك طلب العذر لأنفسهم ، وهم في ذلك الوقت لا يطلبون عذراً لأنفسهم ؛ ولكن يقرون بما كان منهم ؛ كقوله : { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ } [ الملك : 11 ] ، لكن يحتمل وجهين : أحدهما : يقولون : ربنا شقينا بأعمالنا التي عملناها ، وظلمنا أنفسنا ، وكنا قوماً ضالين . والثاني : عملنا أعمالا استوجبنا بتلك الأعمال جزاء ؛ فنحن أولى بذلك الجزاء ، فغلب علينا جزاء تلك الأعمال ، أو كلام نحو هذا . وأما ما قاله أولئك من أهل التأويل : { غَلَبَتْ } ، أي : كتبت فهو بعيد ؛ لأنه إنما يكتب ما يفعل العبد وما يعلم أنه يختاره لا يكتب غير الذي علم أنه يفعله ويختاره ، والله أعلم . قوله : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } . قوله : { فَإِنَّا ظَالِمُونَ } : ظلم عيان ، وظلم ظاهر ، وإلا قد كانوا أقرّوا بالظلم بقولهم : { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ } [ الملك : 11 ] . وقوله : { وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } : قد أقروا بالظلم ، لكنهم أقروا بظلم خبر وظلم سماع ، لا ظلم عيان ؛ فقالوا : { أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } : ظلم عيان ، والله أعلم . وقوله : { قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا } . قال بعضهم : قوله : { ٱخْسَئُواْ } ، أي : اسكتوا . وقال بعضهم : { ٱخْسَئُواْ } ، أي : ابعدوا فيها . قال أبو عوسجة : يقال : خسأت فلانا ، وأخسأت ، أي : باعدته ؛ فخسأ ، أي : تباعد . وقوله : { وَلاَ تُكَلِّمُونِ } . يحتمل الوجهين : أحدهما : جائز أن يكون هذا السؤال منهم في أوّل ما أدخلوا ، فقال لهم : { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } فإنكم ماكثون ، أو أن يكون هذا السؤال منهم بعد ما سألوا الملك الموت مرة بقوله : { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ … } الآية [ الزخرف : 77 ] . وسألوا مرة تخفيف العذاب بقوله : { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ ٱلْعَذَابِ } [ غافر : 49 ] ، فلما أيسوا منه فعند ذلك يسألون ربهم إخراجهم والإعادة إلى المحنة ؛ فقال : { ٱخْسَئُواْ فِيهَا } ، أي : ابعدوا فيها ولا تكلمون ، أي : يصيرون بحال لا يقدرون على الكلام ؛ لشدة العذاب ؛ فعند ذلك يكون منهم الشهيق والزفير . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ * فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } . يخبر - عز وجل - أولئك الكفرة الذين يسألون الإخراج من النار أنكم قد اتخذتم فريقاً من عبادي آمنوا سخريا ، وكنتم منهم تضحكون ؛ يذكر هذا لهم - والله أعلم - ليكون ذلك حسرة ونكاية . وقوله : { سِخْرِيّاً } اختلف في قراءته : [ فقرئ ] بكسر السين فهو من الاستهزاء والهزء . وقال الكسائي : بالرفع والكسر جميعاً ، من الاستهزاء ، ولا يقال في العبودة إلا برفع السين ، وقال بعضهم : هما سواء . وقوله : { حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } ، قال بعضهم : حتى أنساكم الهزء بهم عن العمل بطاعتي . وقيل : أضاف الإنساء إلى الذكر ؛ لأنهم كانوا [ عندما ] يذكرهم ويدعوهم إلى ذكر الله يهزءون به ؛ فأضاف إليه ذلك ؛ فكان كإضافة الرجس إلى السورة ؛ لأن ذلك إنما يزداد لهم عند تلاوة السورة ؛ فأضيف ذلك إلى السورة ، وإلا كانت السورة لا تزيد رجساً ؛ فعلى ذلك أضاف الإنساء إلى ذكره ؛ لما عند ذكره ودعائهم إليه يحملهم إلى ذلك ، والله أعلم ، فأضيف إليه . وقوله : { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ } . أي : إني جزيتهم اليوم الفوز بما صبروا في الدنيا على أذى أولئك الكفرة ، أو على أداء ما أمروا به ونهوا عنه . أو أن يكون ذلك كقوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ غافر : 51 ] ، ونصره إياهم هو أن صارت لهم عاقبة ، والله أعلم . وقوله : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } . اختلف فيه : قال مقاتل بن سليمان : في القبور . وقال أبو معاذ : أخطأ مقاتل ، وذلك قول من ينكر عذاب القبر ، وهو قول الجهمية ؛ لأن من كان في عذاب وشدة لا يقتصر المقام فيه كل هذا الاقتصار ، حتى يقول : لبثت يوماً أو بعض يوم ؛ بل يزداد له مقام يوم في العذاب على سنة أو أكثر ، قال : إلا أن يكون عَنِيَ ما بين النفختين حين تؤخذ الأرواح فترقد ، فإذا بعثوا استقلوا رقدة ذلك المقدار ؛ بما كانوا قاسوا قبل الرقدة من العذاب في القبور ، إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل . وجائز عندنا ما قال مقاتل ومحمد بن إسحاق : بأن ذلك يكون في القبر ، وذلك لا يدل على نفي عذاب القبر ؛ لأنهم لا يعذبون في القبور بالعذاب الذي يعذبون في الآخرة ؛ فجائز أن يستقلوا عذاب القبر بعذاب الآخرة ، ويستقصرون ذلك الوقت بعذاب الآخرة لشدته وأهواله ، وذلك جائز في متعارف الخلق أن يكون الرجل في بلاء وشدة ، ثم يزداد له البلاء والشدة ؛ فيستقل ذلك البلاء الذي كان به لشدة ما حلّ به ؛ فعلى ذلك هم : جائز أن يكونوا في عذاب في قبورهم ، لكنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة استقلوا عذاب القبر واستقصروه ؛ لشدة عذاب الآخرة . أو أن يكون عذاب القبر : على النفس الروحاني الدراك الذي يخرج في حال النوم ليس على روح الحياة ، [ مثل ] النائم يرى نفسه في بلاء وعذاب في نومه ، ويكون في أفزاع ، وكانت نفسه ملقاة في مكان لا علم لها بذلك ولا خبر ، وبها آثار الأحياء ، فجائز أن يكون عذاب القبر على هذا السبيل على الروح التي بها يدرك الأشياء ، لا على روح الحياة التي بها يحيا . وقال قائلون : ذلك في الدنيا : استقلوا حياة الدنيا لحياة الآخرة ، وهو كقوله : { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] ؛ ألا ترى أنه قال : { فَسْئَلِ ٱلْعَآدِّينَ } : هذا يدل على أن ذلك في الحياة الدنيا أشبه ؛ حيث أمر أن يسأل الذين يعدون ، وذلك إنما يكون في الدنيا لا في الآخرة . ثم اختلف في العادين : قال بعضهم : هم الملائكة الذين يكتبون أعمالهم في هذه الدنيا ويرقبونهم . وقال بعضهم : هم ملك الموت وأعوانه . وقوله : { قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } . أي : ما لبثتم إلا قليلا لو كنتم تعلمون ، ولكن لا تعلمون . قال القتبي : { سِخْرِيّاً } بكسر السين ، أي : يسخرون منهم ، و ( سُخْرِيّاً ) : بضمّها ، أي : يتسخرونهم من السخرية عبثاً . [ و ] قوله : { حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } ، أي : شغلكم أمرهم عن ذكري ، والوجه فيه ما ذكرنا فيما تقدم . وقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } . قوله : { أَفَحَسِبْتُمْ } : يحتمل وجهين : أحدهما : { أَفَحَسِبْتُمْ } : قد حسبتم أنما خلقناكم عبثاً . والثاني : { أَفَحَسِبْتُمْ } ، أي : لا تحسبوا أنا إنما خلقناكم عبثاً . { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } . صير خلقه الخلق لا للرجوع والبعث عبثاً ؛ لوجهين : أحدهما : لأن خلقه إياهم لا لعاقبة تتأمل أو لمنافع تقصد ؛ للهلاك خاصة وللفناء - عبث ؛ كبناء المباني لا لمنفعة تقصد به ، ولكن للنقض يكون عبثاً في الشاهد ، وهو ما قال في آية أخرى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } [ النحل : 92 ] : سفهها في غزلها للنقض خاصة لا لمنفعة قصدت به ، ونهانا أن نفعل مثل فعلها ؛ فلو لم يكن المقصود من خلق الخلق إلا الموت والفناء خاصة ، لا لعاقبة تقصد - كان سفهاً وعبثاً . والثاني : ما أخبر أنه إنما أنشأ هذا العالم غير البشر لهذا البشر ، وله سخر ذلك كله ؛ حيث قال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ؛ إذ ليس لغير البشر منفعة بهذه النعم التي أنشأها لهم ، من نحو الجن والملائكة ونحوهم ؛ إذ لهم قوام بدون ذلك : من الشمس ، والقمر ، ونحوه من النعم ؛ إنما ذلك للبشر خاصّة ، فإذا كان كذلك - لا يحتمل أن يجعل لهم كل هذه النعم التي ذكرها وأنشأها لهم ، ثم لا يمتحنهم بالشكر على ذلك ولا يأمرهم بأوامر ولا ينهاهم بمناهٍ ؛ فدل ما أنشأ لهم من النعم وسخر لهم من الأشياء أنهم يبعثون ويرجعون إليه ؛ حتى يجزون جميعاً : المحسن جزاء [ الإحسان والمسيء جزاء ] الإساءة ؛ إذ في العقول التفرقة بين الولي والعدو ، وبين المحسن والمسيء وبين الشاكر والكافر ، ثم رأيناهم جميعاً في هذه الدنيا عاشوا على سواء في الضيق والسعة ، لم نر ما يفصل بين الولي والعدوّ ، وبين المحسن والمسيء ، وبين الشاكر والكافر ؛ فدل ما لم يكن من التفرقة ما ذكرنا في هذه الدنيا على أن هنالك داراً أخرى دار الجزاء ، هناك يفصل بين ما ذكرنا في الجزاء ، والله الموفق . { لاَ تُرْجَعُونَ } : لا تبعثون . وقيل : لا ترجعون إليه بالأعمال التي عملتموها ، كقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } [ الانشقاق : 6 ] ، وقوله : { فَٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ } [ فصلت : 6 ] . وقوله : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } . أي : يتعالى الله عن أن يكون خلق الخلق منه عبثاً ، أو يتعالى أن يكون خلق الخلق لا لحكمة . { ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } . قال الحسن : الحق : اسم من أسماء الله ، أو الملك الذي خلق الخلق للحكمة . { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } : تنزيه وتبرئة عن جميع ما قالوا فيه . وقوله : { رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } يشبه أن يكون على الأوّل : يتعالى الملك الحق وربّ الملك الكريم عن أن يخلقهم لا للحكمة أو للبعث . وقالت الباطنية : العرش : القيامة . ونحن [ نقول : ] يشبه أن يكون العرش القيامة ، على ما قالوا هم ، إلا أنهم يقولون : هو قائم الزمان ، وقلنا نحن : هي القيامة المعروفة وهي الساعة ، ربّ القيامة وهي الملك الذي ذكرنا ؛ كقوله : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] : خص ذلك اليوم بالملك له ، وإن كان الملك له في الدارين جميعاً ؛ لما لا يتنازع في ملكه يومئذ ، [ و ] قد نوزع في الدنيا ، فخلص له ملك ذلك اليوم وصفا له يومئذٍ . وقال بعض أهل التأويل : العرش : السرير ، أضافه إلى نفسه ؛ لمنزلته عند الله ، والكريم : هو نعت ذلك السرير ، أي : الحسن ؛ كقولهم : ( رجل كريم ) ، أي : حسن ، وهكذا يوصف كل كريم بالحسن . وقال بعضهم : هو نعت الرب ، أي : ذو عفو وصفح ، والله أعلم .