Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 30-31)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } روي عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي إن لك كنزا في الجنة ، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة ؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة " وعن أنس - رضي الله عنه - [ قال ] : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بن آدم لك أول نظرة فإياك الثانية " . وعن جرير قال : " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري " . وعن ابن عباس قال : يغضوا أبصارهم عن شهواتهم فيما يكره الله . ثم يحتمل قوله : { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } وجوهاً ثلاثة : أحدها : غضوا أبصارهم لكي يحفظوا فروجهم ؛ فإن حفظ الفرج إنما يكون بغض البصر وحفظه . والثاني : يغضوا أبصارهم عن النظر إلى من لا تحل من الأجنبيات ؛ لأن النظر إلى المحارم يحل ، ويحفظوا فروجهم عن الكل من المحارم والأجنبيات إلا الذين استثناهم في آية أخرى . والثالث : غضوا أبصارهم عما في أيدي الخلق ، ولا تفتحوها إلى ما في أيديهم ؛ كقوله : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ … } الآية [ طه : 131 ] . وقوله : { ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ } أي : أطهر لهم ، وأدعى لهم إلى الصلاح من النظر . وعلى هذه يخرج قوله : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } . وقوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ } : الرداء والثياب . وعن ابن عباس قال : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : الكحل والخاتم . وفي رواية أخرى : الكف والوجه . وعن عائشة قالت : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : القلب والفتخة ، وهي خاتم أصبع الرجل . وعن عبد : الله الزينة زينتان : زينة باطنة لا يراها إلا الزوج . وأما الزينة الظاهرة فالثياب . والباطنة كالإكليل والسوار والخاتم . فإن كان التأويل ما روي عن ابن مسعود حيث جعلها من الثياب وغيره ، ففيه دلالة ألا يحل النظر إلى وجه امرأة أجنبية . وإن كان ما قال ابن عباس ففيه دلالة حل النظر إلى وجه المرأة لا بشهوة . وإن كان ما قالت عائشة من القلب والفتحة ففيه دلالة جواز النظر إلى الكفين والقدمين ؛ لأنهما ظاهرتان باديتان ؛ ألا ترى أنهما من الظواهر في فرض غسل الوضوء ، وإن كان ذلك ففيه دلالة جواز صلاتها مع ظهور القدم . وجائز أن يكون النظر إلى وجه المرأة حلالا إذا لم يكن بشهوة ، لكن غض البصر وترك النظر أرفق وأزكى ، كقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ } [ الأحزاب : 59 ] أنهن حرائر { فَلاَ يُؤْذَيْنَ } [ الأحزاب : 59 ] كما تؤذى الإماء . والذي يدل أن للمرأة ألا تغطي وجهها ، ولا ينبغي للرجل أن يتعمد النظر إلى وجه المرأة إلا عند الحاجة إليه - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه - : " إنما لك الأولى وليست لك الآخرة " وفي بعضها : " الأولى لك والآخرة عليك " ؛ لأنه كأنه إنما كرر النظر في الثانية ؛ لشهوة تحدث في قلبه . وإذنه للذي يريد أن يتزوج امرأة أن ينظر إليها يدل على أن نظر الرجل إلى وجه المرأة غير حرام ؛ لأنه لو كان حراماً لم يأذن فيه النبي لأحد . ونرى - والله أعلم - أن النظر إلى وجه المرأة ليس بحرام إذا لم يقع في قلب الرجل من ذلك شهوة ، فإذا وجد لذلك شهوة ، ولم يأمن أن يؤدي به ذلك إلى ما يكره فمحظور عليه أن ينظر إليها إلا أن يريد به معرفتها والنكاح فإنه قد رخص في ذلك ؛ " روي أن المغيرة أراد أن يتزوج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذهب فانظر إليها ، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " . وقال في بعض الأخبار : " إذا خطب أحدكم المراة فلا بأس أن ينظر إليها ؛ إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة ، وإن كانت لا تعلم " . وأحسن للشابة وأفضل لها أن تستر وجهها ويديها عن الرجال ليس لأن ذلك حرام وإليها معصية ، ولكن لما يخاف في ذلك من حدوث الشهوة ، ووقوع الفتنة بها ، فإذا لم يكن للناظر في ذلك شهوة بأن كان شيخاً كبيراً ، أو كانت المرأة دميمة ، أو عجوزاً فإنه لا يحظر النظر إلى وجوه أمثالهن ، ولا ينظر إلى ما سوى ذلك ، وأصله قول الله - تعالى - : { قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } [ الأحزاب : 59 ] . ومما يدل على أن الوجه والكفين جائز ألا يكون بعورة أن المرأة لا تصلي وعورتها مكشوفة ، ويجوز أن تصلي ووجهها ويداها ورجلاها مكشوفة . فإذا كان كذلك دل ذلك على أن النظر إلى ذلك جائز إذا لم يكن ذلك لشهوة ؛ دخل في ذلك معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العينان تزنيان " ؛ لأن زناء العين لا يكون إلا النظر للشهوة ، فإذا كان لشهوة دخل في ذلك معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة ، [ وهو ] ما روي عن عائشة قالت : " دخلت عليّ أختي أسماء وعليها ثياب شامية رقاق ، وهي اليوم عندكم صفاق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه ثياب لا تحبها سورة النور فأمر بها فأخرجت " ، فقلت : يا رسول الله ، زارتني أختي فقلت لها ما قلت ، فقال : " يا عائش ، إن الحرة إذا حاضت لا ينبغي أن يرى إلا وجهها وكفاها " ، فإن ثبت هذا عنه فهو يبين ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } قد ذكرنا أن المرأة يكره لها النظر إلى الرجال من غير محرمها كما يكره للرجل [ النظر ] إلى المرأة الأجنبية ؛ ألا ترى أنه روي " أن أعميين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أزواجه عنده - عائشة وأخرى - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوما " ، فقالتا : إنهما أعميان يا رسول الله ! ! فقال لهما : " هما وإن كانا أعميين فأنتما لستما بأعميين " ، أو كلام نحو هذا ، فدل أنه ما ذكرنا . وعلى ذلك أخبار : روي عن خالد بن معدان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم [ الآخر ] أن تبيت في مكان تسمع فيه نفس رجل ليس بمحرم ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت في مكان يسمع فيه نفس امرأة ليست له بمحرم " . وفي بعض الأخبار : أنه لم يرخص للمرأة أن يرى غير ذي محرم منها إلا الوجه والكف وما ظهر ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على كوع عائشة وقال : " هذا " . وعن الحسن أنه قال في قوله : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : الوجه وما ظهر من الثياب . فإن ثبت ما ذكرنا من المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رخص النظر إلى الوجه والكف ؛ لقوله : " إلا الوجه والكف " فاستثنى الوجه والكف من بين سائر الجوارح - كان ذلك تفسيراً لقوله : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } كأنه قال : " ولا يبدين زينتهن للأجنبيين إلا ما ظهر منها وهو الكحل والخاتم " ، ثم الكحل يكون في الوجه والخاتم في اليد فذكر الزينة يكون كناية عن موضعها ؛ لأن النظر إلى الزينة حلال لكل أحد إذا كان المراد بالزينة الحلي وما ذكره القوم ، فدل أن المراد بذكر الزينة موضع الزينة لا نفس الزينة والحلي ، ثم رخص للأجنبيين النظر إلى بعض مواضع الزينة وهو ما ظهر منها من الوجه والكف ولم يرخص ما خفي منها وما بطن . ثم استثنى المحارم منها ، ورخص لهم النظر إلى ذلك بقوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ } إلى آخر ما ذكر . ثم مواضع الزينة الخفية منها الصدر ، ومنها الأذنان وهما في الرأس ، ومنها الساق . ثم جمع بين الأب ومن سمى معه وبين الزوج في النظر إلى زينة المرأة ، ولا خلاف في أن الأب لا يجوز له أن ينظر من عورة ابنته إلا إلى رأسها وفي الرأس الأذنان ، وقد يكون فيهما القرط ونحوه ، وإذا جاز له أن ينظر إلى رأسها ولا خمار عليها ؛ فله أن ينظر إلى صدرها وهو موضع الزينة ؛ لأنه مما يغطيه الخمار ، وينظر إلى ذراعيها وموضع الخلخال من قدميها ورجليها ، وهي مواضع الزينة الباطنة التي لا يجوز للأجنبي النظر إليها . ثم النظر إلى الوجه أحق أن يحرم النظر إليه للأجنبي من الرأس وغيره من مواضع الزينة ؛ لأن الوجه يجمع فيه جميع المحاسن وغيره من مواضع الزينة ليس فيها محاسن لكن إنما حرم النظر إلى هذه المواضع ؛ لأنها عورة في نفسها ؛ فالنظر إلى العورة حرام للأجنبي ؛ ولأن النظر إليها - أعني : مواضع الزينة - لا يكون إلا للشهوة والنظر إليها للشهوة حرام . فأما المحارم منها فإنهم لا ينظرون إلى هذه المواضع منها لشهوة ولا يقصدون به ذلك ألبتة ؛ فأبيح لهم النظر إليها لحاجة . وكل من يخشى من المحارم النظر إليها لشهوة لا ينظر إليها ، وكذلك الأجنبي حيث أبيح النظر إلى الزينة الظاهرة فإن خشي به الشهوة لم ينظر إليها . ثم غيرها من الزينة لا يحل لأحد النظر إليها : الأب وغيره - إلا للزوج خاصة وللمولى إلى مملوكته وهو ما قال : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 5 - 6 ] استثنى الأزواج والموالي من بين غيرهم ؛ لأن النظر إلى ذلك لا يكون إلا للشهوة لا يقع فيه حاجة فلا يباح ذلك إلا لمن له قضاء الشهوة والوطء وهو الزوج والمولى . فانقسمت العورة إلى جهتين : جهة يحل للمحارم منها النظر إليها لحاجة وضرورة تقع لهم . وجهة لا تحل لهم إلا للأزواج لما لا يقع لهم حاجة ولا ضرورة بالنظر إلى ذلك ؛ ألا ترى أن الأمة ينظر إلى شعرها وذراعيها وساقيها وصدرها إذا أراد شرائها ولا ينظر إلى ما سوى ذلك ، فإذا جاز للأجنبي أن ينظر إليه من الأمة جاز لمحرمها النظر إلى ذلك من المرأة للحاجة التي ذكرنا . ثم ذكر في الآية المحارم جميعاً عدا الأعمام والأخوال ، قال بعضهم : إنما لم يذكرا في هذه الآية ؛ لأنها تحل لبنيهما بالنكاح فكره أن يصفاها لبنيهما ؛ ولهذا كره من كره للمرأة المسلمة إبداء الزينة الخفية للكافرة من اليهودية والنصرانية لما لعلها تصف ذلك للمشركين ، فيرغبون فيها ، ويتكلفون ذلك ، وصرف قوله : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } إلى المسلمات . لكن جائز عندنا أن العم والخال إنما لم يذكرهما للكثرة والتطويل لما يكثر ذلك من أجناسهم وأمثالهم ، فذكر الرخصة في أمثالهم كافية . وقوله - عز وجل - : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } يحتمل وجوهاً : يحتمل النساء [ اللاتي ] يختلطن بهن ، أو نساء قرابتهن وأرحامهن ، أو النساء اللاتي توافقهن في دينهن ، وهن المسلمات على ما قاله أولئك . وقوله - عز وجل - : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } . قال قائلون : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } كقوله : { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] ونحوه . وقال قائلون : الإماء والعبيد جميعاً . فإن كان المراد به الإماء فهو ظاهر . وإن كان المراد به الأمة والعبد ، ففيه إباحة نظر العبد إلى شعر مولاته على ما يقوله بعض الناس . والأشبه أن يكون المراد به والله أعلم الإماء دون العبيد ؛ لما ذكر في آخر الآية { أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ } والعبد من الرجال . أو ذكر التابع والمتابع وإن كان خصيّا أو عنيناً أو معتوها على ما قالوا ، فإنه لا يحل لهؤلاء النظر إلى تلك المواضع على حال فعلى ذلك العبد ؛ فيكون الدخول عليهن مضمر في الآية ، وكن النساء متأهبات وقت دخول العبيد والتابعين عليهن ؛ لأنه ذكر المتابعين وهم تابعو الأزواج ، ووقت دخول هؤلاء يكون معلوماً عندهن فيتأهبن لهم ويستترن ، والله أعلم بذلك ؛ ألا ترى [ أنه ] لا يحل للمرأة أن تسافر بعبدها ، دل أنه ليس بمحرم لها ؛ لذلك لم يحل له النظر إلى شعر مولاته . فإن قيل : ما معنى ذكر إمائهن ونسائهن وكل النساء يجوز لهن النظر إلى المرأة وإلى هذه المواضع التي ذكرنا ؟ قيل : خصّ الله - عز وجل - بالذكر إماءهن ونساءهن دون النساء الأجنبيات ؛ تأديبا لا حظراً ، وذلك أن المرأة قد يضيق عليها أن تستتر من أمتها ونساء أهل بيتها ، لكثرة رؤيتهن لها ، وقد تقدر أن تستر من الأجنبية محاسنها وزينتها ؛ لقلة رؤيتها لها ؛ ألا ترى أنه قد نهى المرأة أن تضرب برجلها ؛ ليعلم ما تخفي من زينتها ، وفي ذلك صيانة للرجل والمرأة وإبعاد لهما عما يحذر عليهما ويخاف ؛ فليس ببعيد أن يجعل نهيه المراة أن تظهر زينتها ومحاسنها للأجنبية ؛ لما يخاف على الأجنبية من فساد قلبها وحدوث الشهوات لها ؛ صيانة للنساء والرجال جميعاً ، وإبعاداً لهم عن الزينة ، ولئلا تصفها لرجل يفتتن بها ، ويتكلف الوصول إليها . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " لما نزلت هذه الآية ، أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي ، فاختمرن بها " ، وعن ابن عباس : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } يقول : وليشددن بخمرهن على جيوبهن ، يقول : ليرخين بخمرهن على الصدر والنحر فلا يرين منها شيئاً . قال : وكن النساء قبل هذه الآية إنما يسدلن خمرهن سدلا من ورائهن كما يصنع النبط ، فلما نزلت هذه الآية شددن الخمر على النحر والصدر . وفي الآية دلالة أن دروع النساء كانت جيب ؛ لأن الجيب إنما تكون للدروع ، وذلك كان لباس النساء ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى الرجال عن لبسة النساء ، وأنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء . وروي أنه لعن الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل . وعن ابن عباس : " لعن النبي المؤنثين من الرجال والمذكرات من النساء " وكأنه مكروه للرجل - والله أعلم - أن يلبس فراعة وحدها لا قميص تحتها ؛ لأن ذلك لباس النساء إلا أن يكون لها شق ذيل ، فخرجت من لبس النساء ، ولم تكره للرجال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } جائز أن يكون قوله : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : إنما يباح النظر إلى الوجه للحاجة ، وأما على غير الحاجة فلا يباح ؛ لما ذكرنا من قوله : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ … } الآية [ الأحزاب : 59 ] ، وقوله : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ الأحزاب : 53 ] ؛ فعلى ذلك ترك النظر إلى وجه المرأة أطهر للنساء وللناس جميعاً ؛ فلا يباح ذلك إلا عند الحاجة إليه ، وهو معرفتها ؛ ليقيم به الشهادة . فإن قيل : أليس النظر يسع إلى مواضع الزينة الخفية للأجنبي ؛ للتداوي بها ؟ قيل : يسع ذلك للضرورة وأما للحاجة فلا ، ومسألتنا في الحاجة ليست في الضرورة . ثم قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } إلى آخره ما ذكر : جائز أن يكون المراد برخصة النظر إلى الزينة لهؤلاء المسمين في الآية رخصة النظر إلى نفس الزينة لا موضع الزينة ؛ فيدخل في هذه الرخصة من ذًكِرَ من التابعين غير [ أولي ] الإربة من الرجال ونحوه ؛ لأن الزينة في الصدر وما ذكر إنما تكون من وراء ثياب تكون على الصدر ، ثم رخص النظر للمحارم إلى مواضع الزينة الخفية بغير هذه الآية . أو أن يكون رخصة النظر للمحارم إلى مواضع الزينة ولغير المحارم من المماليك والتابعين غير أولي الإربة ومن ذكر - رخصة الدخول عليهن ؛ فيكون في الآية إضمار الدخول ؛ كأنه قال : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ومن ذكر من المحارم ، ولا يدخل عليهن إلا العبيد والتابعون ومن ذكر من غير أولي الإربة ، فيكن في وقت دخول هؤلاء متأهبات ؛ لأن وقت دخول هؤلاء يكون معلوماً يعرفن فيتأهبن لهم ؛ لأن العبيد إنما يدخلون على ساداتهم ومواليهم عند حاجتهن إليهم ، والتابعون ومن ذكر إنما يدخلون إذا دخل أزواجهن عليهن فيتأهبن لذلك ، ومثل هذا الإضمار جائز في الكلام يتبين ذلك بالثنيا كقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] ، دل قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } [ المائدة : 1 ] أنه قد كان الصيد مذكوراً فيه مراداً ؛ إذ لو لم يكن مذكوراً لم يكن استثنى منه ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون في الأول إضمار الدخول فيه لهؤلاء الذين لا يحل لهم النظر إلى مواضع الزينة منهن ورخصة الإبداء للمحارم ، أو أن يكون ما ذكرنا فيما تقدم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ } قال بعضهم : الشيخ الكبير الذي لا حاجة له في النساء . وقال بعضهم : المعتوه الأحمق الذي لا يشتهي النساء ، ولا يغار عليه الأزواج . وقال بعضهم : العنين والخصي ، وهؤلاء الذين لا يطيقون الجماع . لكن عندنا لا يسع للعنين ولا للخصي أن يخلو بامرأة أجنبية . وقال الحسن : { غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ } هم المخنثون ؛ روي عن عائشة قالت : " كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، قالت : فدخل النبي ذات يوم وهو ينعت امرأة ، فقال : " لا أرى هذا يعلم ما هاهنا ؛ لا يدخلن عليكم " ؛ فحجبوه " . وعن أم سلمة " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث ، فأقبل على أخي أم سلمة فقال : يا عبد الله ، إن فتح الله لكم غداً الطائف دللتك على بنت غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فقال : " لا أرى [ هذا ] يعرف ما هاهنا ؛ لا يدخلن عليكم " . وقال بعضهم : { غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ } الذين لا تهمهم ولا يخافون على النساء ، وكله واحد ، وهم الذين ليست لهم الحاجة إلى النساء . قال أبو عوسجة : الإربة : الحاجة : والإرب جمع ، وكذلك قال القتبي . وقال ابن عباس : هو الذي لا يستحي منه النساء . وقوله : { أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ } قال بعضهم : هو الإطلاع ، أي : لم يطلعوا ، ولم يعلموا ، ولم يدروا ما هو من الصغر . وقال بعضهم : لم يظهروا على عورات النساء ، أي : لم يبلغوا الحلم . والأول أشبه عندنا ؛ وذلك أن الطفل الذي لم يحتلم قد أمر بالاستئذان في بعض الأوقات ؛ لقوله : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ } [ النور : 58 ] فالذي يؤمر بالاستئذان هو الطفل الذي لم يحتلم ، وقد يطلع على عورات النساء ، والذي لا يؤمر بالاستئذان هو أصغر من ذلك ، وهو الذي لا يطلع على عورات النساء لصغره ، والله أعلم . وقوله : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } أي : لا تضربن إحدى رجليها على الأخرى ليقرع الخلخال بالخلخال . { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } أي : ما يواري الثياب من الزينة وهو الخلخال قد أخفاه الثياب ؛ نهيت المرأة عن ضرب رجلها ؛ ليعلم الرجال ما تخفي من زينتها ، وذلك محظور عليها ، لما يخرج ذلك مخرج ترغيب الناس وحثهم عليها ، فالزينة في الأصل ما جعلت إلا للترغيب والتحريض على أنفسهم ، وهي الداعية إلى النظر والشهوة ، وفي ترك ذلك وترك المرأة الزينة صيانتها ، وصيانة الرجال ، وإبعادهم جميعاً من الزينة ، والرغبة ، فكشف الشابة عن وجهها ، ونظر الرجل بشهوة إليها أحرى أن يكون محظورا عليه ، منهيّاً عنه ، والله أعلم بالصواب . وقوله : { وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } هذا يحتمل وجهين : يحتمل قوله : { وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي : ارجعوا إلى الله بالطاعة له والخضوع ؛ لتكونوا مفلحين . أو أن يكون قوله : { وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } ارجعوا عما قدمتم من المعاصي والمساوئ ، واجعلوا مكان ذلك طاعة له ؛ ليعفوا عنكم ما قدمتم من المعاصي ، والله أعلم .