Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 32-34)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } الأمر بالإنكاح وإن خرج مخرج أمر واحد في الظاهر فهو في الحقيقة على أقسام : الأمر في تزويج الإماء والعبيد يخرج مخرج الترغيب والتحريض . وفي الأحرار يخرج مخرج المعونة والتقوية ؛ لأن من بلغ ولده النكاح ذكراً أو أنثى استثار أقرباءه ، وأهل أنسابه ، والمتصلين به في ذلك ، واستعانهم على ذلك ، ولا كذلك السادات في المماليك ؛ دل أن الأمر في أحدهما يخرج على المعونة ، وفي الآخر على الترغيب . ثم تزويج العبد يخرج كأنه فعل المعروف ؛ إذ في ذلك إلزام مؤن بلا عوض يحصل له ؛ ألا ترى أنه لا يملكه إلا من يملك المعروف من نحو الوصي والأب والمكاتب والعبد المأذون له في التجارة ؟ ولا كذلك تزويج الإماء ؛ إذ يملك هؤلاء ذلك ، وكل مكتسب خير له لنفسه أو لغيره . ثم جرى الوفاق بينهم : أن للولي أن يزوج أمته شاءت هي أو أبت ، واختلفوا في تزويج العبد امرأة : قال بعضهم : [ ليس ] له ذلك إلا برضاء العبد . وقال بعضهم : له ذلك شاء أو أبى . ثم الناس اختلفوا في قوله : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } قال بعضهم : الأيامى منهن : الإناث من الأحرار دون الذكور ، واستدلوا ببطلان النكاح وفساده إذا كان بغير إذن الولي بهذه الآية ؛ لأن الله تعالى أمر الأولياء وخاطبهم أن يزوجوهن ؛ كما أمر المولى بتزويج أمته ، فأوجب للمولى الولاية كما أوجبها للولي وإن كانا مختلفين في الولاية . لكن عندنا لو كانت الآية خرجت على التفسير على ما يقول خصومنا { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } الإناث - لم يكن فيه دليل على ما قالوا هم ، ويخرج ذلك على وجوه : أحدها : على الترغيب في إنكاحهن لما [ لا ] يتولى هن النكاح بأنفسهن حياء ، ويستحيين التكلم بذلك حتى من فعلت ذلك منهم بنفسها صارت مطعونة عندهن . أو أن يخرج ذلك مخرج المعونة لهن على ما ذكرنا ؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنه من بلغ ولده النكاح وعنده ما ينكحه فأحدث ، فالإثم بينهما " ، فهذا يدل - والله أعلم - على وجه المعونة في تزويج الأب الابن البالغ ، فإذا كان الأب مأموراً من جهة التأديب على المعونة بتزويج ابنه ، ولا يوجب ذلك عليه ولاية إذا كره ذلك ؛ فكذلك يكون مأموراً بتزويج ابنه من طريق المعونة ، أو جهة الحياء ، أو أن يخرج ذلك على ما قال خصومنا من إيجاب الولاية له عليها . ثم رأينا أنها إذا رغبت في النكاح ورضيت به وكره وليها ذلك ، جبر الولي على الإنكاح ، وإن هي كرهت النكاح وأبت ، ورغب الولي في ذلك وشاء ، لم تجبر هي على ذلك ؛ دل ذلك على أن الحق لها عليه دون أن يكون الحق في ذلك له عليها ، فإذا كان الحق لها عليه جاز ذلك إذا تولت بنفسها ؛ لما ذكرنا أن الخطاب للأولياء يخرج على الوجوه التي ذكرنا ، والله أعلم . هذا إذا كان في الآية ذكر الإناث دون الذكور ، فكيف أن ليس في الآية ذكر تخصيص الإناث دون الذكور ، واسم " الأيم " يقع على الإناث والذكور جميعاً ؛ ألا ترى أنه روي عن عمر - رضي الله عنه - قال : " لما نزلت هذه الآية ما رأيت مثل ما يلتمس بعد هذه الآية إنما التمسوا الغناء في الباءة " . وما روي عن نجدة : أن عمر دعانا إلى أن ينكح من أيمنا وفي الشعر : @ لله در بني على أيم منهم وناكح @@ وفي بعضها : @ وأيم تأبى من القوم إيماه . @@ جمع فيها اسم " الأيم " : الرجال والنساء . ومن الدليل - أيضاً - على ذلك قوله : { وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } فدل ذلك على أنه حث على تزويج البالغين من الأحرار رجالهم ونسائهم . فإن قيل : فما وجه أمره بتزويج الرجال والأمر إليهم ؟ فجواب ذلك ما ذكرنا من المعونة ، والترغيب فيه . ثم قوله : { وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ } جائز أن يكون قوله : { وَٱلصَّالِحِينَ } أي : المؤمنين . وجائز أن يكون الصالحين : من طلب منكم الصلاح والعفة . أو ذكر الصالحين لما كانت العادة في الملوك أنهم يخاطبون أهل الصلاح منهم والأخيار ، لا على إخراج غيرهم من حكم ذلك الخطاب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } من الناس من استدل بهذه الآية [ على ] أن العبد يملك ؛ لأنه ذكر العبيد والأحرار جميعاً ، ثم ذكر في آخره الغناء دل أنه يملك . ويستدل بقوله : { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ النساء : 25 ] أضاف الأجور والإيتاء إليهن ؛ دل أنهن يملكن ، لكن عندنا أن المماليك يملكون ملك التوسيع ، وملك التصرف ، ويقع لهم غناء التوسيع وغناء التصرف ، ولا يقع لهم التمليك ، ولا حقيقة الملك ، والدلالة على ذلك قوله : { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } [ النحل : 71 ] لو كان ما ملكت أيمانهم يملكون ما يملك الموالي والسادات لكان المماليك يفضلون على السادات ، في الملك ؛ إذ هم الذين يتصرفون ويكتسبون الأموال دون السادات ، فدل ذكر تفضيل بعض على بعض أنهم لا يملكون ما يملك الموالي . والثاني قوله : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ … } الآية [ الزمر : 29 ] ، ولو كانوا يملكون على ما يملك السادات ، لكانوا لهم فيه شركاء ، دل أنهم لا يملكون حقيقة الملك ، ولكن يملكون ملك التوسيع والتصرف . أو أن يكون قوله : { يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } راجعاً إلى الأحرار منهم دون المماليك ، وذلك جائز في اللسان كقوله : [ ] ثم روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حق على الله تعالى أن يغنيهم : المجاهد في سبيل الله ، والناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء " . وعن عمر قال : " ما رأيت مثل الرجل لا يلتمس الغناء في الباءة " والله تعالى يقول : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } . وروي في الخبر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ، وروي في الخبر " عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب : " ما فعلت ببناتك ؟ " قال : هن عندي يا رسول الله . قال : " وقد حضن ؟ " قال : نعم . قال : " إنك لم تحبس واحدة منهن عن كفؤ إلا نقص من أجرك كل يوم قيراط " ، وفي بعض الأخبار : " من بلغ ولده النكاح ، وعنده ما ينكحه ، فأحدث فالإثم بينهما " . وقوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } الاستعفاف : هو طلب العفاف ؛ كأنه قال : يطلب الأسباب التي تمنعه عن الزنا ، وتصيره عفيفاً حتى يغنيه الله من فضله ، وأسباب العفة تكون أشياء : أحدها : ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ؛ فإنه له وجاء " ونحوه ، يطلب أسباب العفة إن لم يكن عنده ما ينكح حتى لا يقع في الزنا إلى أن أغناه الله ، كقوله عليه السلام : " من استعف أعفه الله " . وجائز أن يكون قوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ } أي : يتعفف الذين لا يجدون نكاحاً ، لم يجعل الله - عز وجل - للذي عجز عن النكاح استباحة الفروج والاستمتاع بها زنا إذا لم يكن عنده ما ينكح ، كما جعل في الأموال وغيرها - رخصة التناول في ملك غيره عند الحاجة والضرورة ببدل ؛ لوجوه : أن رخصة التناول في ملك غيره إنما تكون عند الضرورة ، والضرورات لا تقع في الفروج ، وفي الاستمتاع بها بحال ؛ لذلك لم تبح . والثاني : الاستمتاع بالنساء في الأصل كأنه إنما جعل وأبيح لبقاء النسل والتوالد ، لا لحاجة أنفسهم وقضاء الشهوة ، فإذا لم يكن عنده ما ينكح ارتفع عنه إبقاء النسل والتوالد . والثالث : أن السعة والغناء وأنواع النعم هي الداعية إلى الحاجة ، وقضاء الشهوة ، فإذا كان فقيراً لا يجد ما ينكح زال عنه الأسباب التي تدعو إلى ذلك ؛ لذلك لم يبح ، وأما الحاجات والضرورات وما ذكرنا كلها تقع في الأموال ، وإنما الحاجة في التناول منها لأنفسهم ولإبقائها ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم . ثم في قوله : { حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } ، وقوله : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وجهان من المعتبر على نقض قول المعتزلة : أحدهما : أنه أضاف الإغناء إلى نفسه ، وهو ليس يعطي أحداً شيئا يطرحه ويلقيه في يده بلا سبب ، ولكن إنما يغنيه ويعطيه بأسباب تجعل لهم ؛ فدل إضافة الإغناء إلى نفسه على أن له في تلك الأسباب التي فيها لهم غناء صنعاً وفعلا ، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا صنع لله في أفعال عباده . والثاني : فيه دلالة : أن غناهم وسعتهم فضل منه ورحمة لا شيء يستوجبون هم بأنفسهم ذلك قبله ، لكن إفضالا منه لهم وإحساناً ؛ إذ لو كان عليه ذلك كان منه عدلا لا فضلا ؛ فدل تسمية الفضل ذلك على أن من أعطاه الله يقال : ذلك أعطاه فضلا منه وإنعاماً لا استيجاباً واستحقاقاً ، وذلك رد عليهم في الأصلح في الدين . ثم من الناس من استدل بهذه الآية بقوله : { يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } : حتى يغنيهم الله من فضله على تفضيل الغناء على الفقر قالوا : لأنه سماه فضلا بقوله : { مِن فَضْلِهِ } وسماه في غير آي من القرآن : رحمة وحسنة ، وسماه : خيراً أيضاً في غير موضع ، وسمى الفقر والضيق : بلاء مرة ، و : سيئة ثانياً ، و : ضرّاً و : شدة بقوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [ الأعراف : 168 ] ، وقال : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وقوله : { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } [ الزمر : 38 ] وغير ذلك من الآيات ، وكأن ما سمي من البلاء والشدة والشر والضر والسيئة كله عبارة وكناية عن الضيق والفقر ، وما ذكر من الخير والحسنة والرحمة ونحوه ، كله عبارة عن السعة والغناء ؛ فدل تسمية الغناء خيراً وحسنة ورحمة على أنه أفضل ؛ إذ لا شك أن الخير والحسنة والرحمة خير من الشر والسيئة والبلاء ؛ لذلك كان الغناء أفضل من الفقر . فيقال لهم : هو كما قلتم : إنها خير مما ذكرتم ، إلا أن هذه الأسباب التي ذكرتم هي الداعية إلى الفساد ، الباعثة على قضاء الحاجات ، والشهوات ، وأنواع المعاصي في أنواع المحرمات ، ولا كذلك الفقر والضيق والشدة ، بل هي أسباب تمنع صاحبها عن التعاطي في أنواع المعاصي والمحرمات ؛ فضلا أن تدعوه وتبعثه إلى ذلك ، فقولنا : إن أفضل ؛ للمعنى الذي ذكرنا ، لا لمعنى فهمتموه أنتم . أو أن يكون ما ذكر وسُمي : خيراً : السعة عند الناس ، وكذلك ما ذكر من الضيق شرّاً وسيئة عندهم ؛ لأنه كذلك عند الناس لا أنهما في الحقيقة كذلك ؛ لما يحتمل أن يكون الغناء والسعة سبب الفساد ، والضيق والفقر سبب منعه عن الفساد . أو ألا يتكلم في تفضيل أحدهما على الآخر ؛ إذ هما محنتان يمتحن بهما العباد : هؤلاء بالصبر على الفقر والضيق ، وهؤلاء بشكرهم على الغناء والسعة ، فالتكلم في فضل أحدهما على الآخر فضل ، والله أعلم . وقوله : { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ } : ظاهر هذا ليس على الكناية ، ولكن على الكتاب المعروف وهو كتاب الله - تعالى - لأن الكتاب المطلق هو كتاب الله تعالى ، يسألون ساداتهم تعليم الكتاب لهم ، إلا أن الناس لم يفهموا من هذا هذا ، ولكن فهموا كتابة العبيد والإماء حيث صرفوا الآية إليها . ثم قوله : { فَكَاتِبُوهُمْ } ليس على الوجوب والإلزام ، ولكن على الترغيب فيها والحث ؛ دليله ترك الأمة المماليك بعد موتهم دون مكاتبتهم من لدن رسول الله إلى يومنا هذا ، ولو كان على الوجوب واللزوم لم يكونوا يتركون لازماً واجباً عليهم ؛ فدل تركهم المكاتبة على أنه خرج مخرج الترغيب عليها ، والحث لا على الوجوب ، والله أعلم . وقوله : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } اختلف فيه : قال بعضهم : أي : كاتبوهم إن علمتم أنهم يرغبون في أنواع الخير ، وإقامة الصلاة ، وأنواع الصلاح ، وفرغوا أنفسهم لذلك . قال بعضهم : إن علمتم فيهم خيراً ، أي : وفاء وأمانة وصلاحاً ، وهو قول الحسن . وتأويل هذا : أي : كاتبوهم ؛ إن علمتم أنهم يقدرون على وفاء ما كوتبوا ، وأداء ذلك . وقال قائلون : { خَيْراً } أي : حيلة . وقال قائلون : مالا . وقال قائلون : { خَيْراً } ، أي : حرفة ، ورووا في ذلك خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرا عن يحيى بن كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن علمتم فيهم خيراً - أي : حرفة - ولا ترسلوهم كلا على الناس " إن ثبت هذا لا نحتاج إلى غيره من التفسير ، ولو كان قال : إن علمتم لهم خيراً ، جاز أن يقال : معنى { خَيْراً } مالاً ، ولكنه قال : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } [ الجاه الذي ] والمال لا يكون فيهم ، وإنما يكون لهم ؛ فأشبه ذلك - والله أعلم - أن يكون الخير حرفة في الخير أو وفاءه ، وأمانته ، ثم في الآية دلالة أن العبيد لا يملكون شيئاً ؛ لأنهم لو كانوا يملكون لكان يرغبهم ويحثهم على العتاق دون الكتابة ، فدل ترغيبه إياهم عليها أنهم لا يملكون حتى تجعل الكتابة الكسب لهم والخدمة دون المولى . وفي الكتابة أيضاً نظر للموالي ؛ لأنهم إن قدروا على وفاء ما قبلوا أداءه ، وإلا كان للموالي ردهم إلى منافع أنفسهم ، ولو كان عتقاً لم يملكوا ردهم إلى منافع أنفسهم ، ويبطل حقهم بلا شيء يصل إليهم ، والله أعلم . وفي قوله : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } دلالة القول بعلم العمل على ظاهر الأسباب دون تحقيق العلم به ، حيث قال : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } وإنما يوصل ما ذكر من الخير بأسباب تكون لهم على نحو ما ذكروا فيه من الحرفة والوفاء وأداء الأمانة وأمثاله ، وذلك أسباب توصل إلى الخير على أكبر الظن والعلم لا على الحقيقة . وفيه دلالة العمل بالاجتهاد على ما يرى بهم من ظاهر الأسباب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ } اختلف في خطابه : قال الحسن وغيره : هو شيء حث الناس عليه مولاه وغيره ، فيخرج ذلك على وجهين : أحدهما : ما جعل الله من الحق للمكاتبين في الصدقات ؛ لقوله : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ } [ التوبة : 60 ] إلى قوله : { وَفِي ٱلرِّقَابِ } [ التوبة : 60 ] وهم المكاتبون ، أمر أرباب الأموال بدفع الصدقات للمكاتبين ، وجعلهم أهلا لها ، ليستعينوا بها على أداء ما عليهم من الكتابة . فإن كان ذلك فذلك حق لهم . والثاني : جائز أن يأمر الناس بمعونة هؤلاء المكاتبين على أداء ما عليهم من الكتابة بأموالهم سوى الصدقات ؛ ليفكوا رقابهم عن ذل الرق والكسب . وقال قائلون : إنما الخطاب للموالي خاصة ؛ لما أن أوّل الخطاب بالكتابة راجع إلى الموالي ؛ فعلى ذلك هذا . ثمّ اختلفوا فيه : روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - قال : " يترك المولي الثلث من مكاتبته له " . وروي عنه أنه قال : " ربع المكاتبة " . وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كاتب غلاماً له ، فحطّ عنه أول نجمه ، وقال له : حط عني آخره ، فقال عمر : " لعلي لا أصل إليه " ، أو كلام نحو هذا ، ثم تلا هذه الآية ، قوله : { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ … } الآية . وروي عن غلام لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : " كاتبني عثمان ، ولم يحطّ عني شيئاً " ، دل ما روي عن عثمان أنه لم يحط عنه شيئاً على أن الأمر بالإيتاء للمكاتبين من الأموال والحطّ عنهم إنما هو على الاختيار والإفضال ليس على الوجوب واللزوم ؛ لأنه لو كان على الوجوب ، لكان عثمان بن عفان لا يحتمل ألا يحط عنه شيئاً . ومن جعل ذلك واجباً على المولى أن يؤتيه من ماله ، ويعجله له كان ذلك خارجاً عما روي عن الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - خلافاً لهم ؛ لأنه روي عن بعضهم الحط عنهم ، والوضع دون الإيتاء من ماله . وروي عن بعضهم : الاستيفاء على الكمال لا حطّ فيه ولا إيتاء ؛ دل أن قول من يأمرهم بالإيتاء من أموالهم دون الكتابة خارج عن قولهم جملة . ثم يبطل ذلك من وجهين : أحدهما : أن من قال لعبده : " إذا أديت إليَّ كذا فأنت حر " ، فحط عنه بعض ذلك ، فأدّى البقية - لم يعتق حتى يؤدي الكل ؛ فدل أن قوله : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ } ليس على الوجوب ، ولكن على الاختيار . والثاني : أنه لا يسمى بعد الأداء : مكاتبا ، وإنما هو حرّ ، وإنما ذكر الإيتاء إياهم وهم مكاتبون حيث قال : { فَكَاتِبُوهُمْ } ، ثم قال : { وَآتُوهُمْ } ، فلو كان على ما يقوله قوم ، لكان ذلك باطلا ؛ للوجهين اللذين ذكرناهما ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } . ليس قوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } بشرط فيه ؛ لأنهن لا يكرهن على البغاء وإن لم يردن التحصن ، دل أن ذلك ليس بشرط فيه ، ولا يمكن الإكراه فيه إذا كن أطعن فيه ، لكنه خرج ذلك على ما ذكر في القصة : كانوا يكرهونهن على الزنا ابتغاء المال ، وهنّ كنّ يردن التحصن ، فخرج الخطاب والنهي على فعلهم ، دون أن يكون ذلك شرطاً فيه . أو أن يكون ذلك إكراهاً إذا كن مطاوعات في ذلك . وفيه دلالة بطلان المتعة وفسادها ؛ لأنهم كانوا يكرهون إماءهم على أن يؤاجروا أنفسهن للزنا ابتغاء الأجر ، وليست المتعة إلا كذلك . وقال أهل التأويل : إن الآية نزلت في نفر من المنافقين عبد الله بن أبي وفلان وفلان كانوا يكرهون فتياتهم على الزنا ابتغاء عرض الدنيا ، فإن كان ما ذكروا ، ففيه دلالة أن الزنا حرام في الأديان كلها . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا يحتمل وجهين : [ أحدهما : ] يرجع إلى الإماء يقول : فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن ، وكذلك روي في بعض الحروف أنه قرئ : ( فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ) . والثاني : يرجع إلى السادات ؛ فإن الله لهم غفور رحيم إذا تابوا ، وأصلحوا . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } بخفض الياء ونصبها ، ثم يحتمل أن يكون المراد بالآيات : آيات القرآن جميعاً ، وقوله : { مُّبَيِّنَاتٍ } بالخفض ، أي : تبين للخلق ما لهم ، وما عليهم ، وما لله عليهم ، وما لبعضهم على بعض . { مُّبَيِّنَاتٍ } بالنصب ، أي : مبينات أنها من عند الله . وجائز أن يكون المراد بالآيات : الحجج والبراهين ، فإن كان هذا ، فقوله : { مُّبَيِّنَاتٍ } بالخفض ، أي : تبين وحدانية الله - تعالى - وعلم رسالة رسوله و { مُّبَيِّنَاتٍ } بالنصب ، أي : واضحات بينات أنها حجج وبراهين . وقوله : { وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أي : أنزلنا إليكم أيضاً مثل الذين خلوا من قبلكم ما حل بهم ، ونزل بالمكذبين من العذاب ، وموعظة ما يتعظ المتقون ، أو جعل لكم فيما أنزل من الآيات عليكم أمثالا من الذين خلوا من قبلكم ؛ لتتعظوا به والله أعلم .