Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 35-38)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } قال بعضهم : الله هادي السماوات والأرض ، ثم انقطع الكلام فأخذ في نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما ضرب له من الأمثال ، فقال : { مَثَلُ نُورِهِ } ، يقول : نور محمد إذ كان في صلب أبيه { كَمِشْكَاةٍ } أي : كوة - بلغة الحبش - غير نافذة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي : سراج المصباح . يقول - والله أعلم - : ذلك السراج المضيء ضوؤه { فِي زُجَاجَةٍ } ، الزجاجة نعتها الصافية التامة الصفاء ، والمشكاة : صلب أبيه عبد الله ، والزجاجة وصفاؤها : محمد رسول الله ، وطهره من الأدناس والمعاصي ، والمصباح : نوره ، وصفاؤه : قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما فيه من الإيمان ، والحكمة ، والنبوة ، { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي : محمد صلى الله عليه وسلم ذكره مع أسماء الأنبياء ، والرسل في اللوح المحفوظ عند الله في الفضيلة على تلك الأنبياء والرسل عليهم السلام كفضل الكوكب الدري - أي : المضيء ، وهي الزهرة - على سائر الكواكب . وقوله - عز وجل - : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } يقول - والله أعلم - : استنار نور محمد من نور إبراهيم ؛ لأن محمدا على دين إبراهيم وعلى سنته ومنهاجه ، فمثل إبراهيم مثل الشجرة المباركة ، وأصل محمد من نسل إبراهيم ، صلوات الله عليهم . وقوله - عز وجل - : { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } والزيتونة : المحاسن وطاعة إبراهيم لربه ؛ فنفعه الله بحسن طاعته يوم القيامة ، وفي غيره من المواطن ، كما تنفع الزيتونة أهلها في الدنيا ، فهي فاكهة وطعام ، وهي إدام وهو الصباغ والدهن والدباغة يعني : زيتونة { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } يقول : إن إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن نصرانيّاً لقول النصارى : هو نصراني يصلي قبلة النصارى من قبل المشرق ، ولا يهوديّاً لقول اليهود : إنه كان على ديننا يصلي قبل المغرب ببيت المقدس ، يقول الله تعالى : لم يكن كما قال هؤلاء ، ولكن كان حنيفاً مسلماً مصليّاً إلى الكعبة ، وهي قبلته وإليها حج . وقوله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } يقول - والله أعلم - : لو أن إبراهيم لم يكن نبيّاً لأصاب بحسن طاعة الله في الدنيا الفضل مع الأنبياء والرسل في الدنيا والدرجات العلا في الآخرة . وقوله : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } ؛ لأن محمدا وما جاء به من الدين والكتاب أصل نوره من قبل إبراهيم ؛ لأنه على دينه وسنته وكتابه ومنهاجه . ثم قال : { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } الذي جاء [ به ] محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو النور ، وهو القرآن [ يهدي إليه ] من يشاء ممن سبق [ له ] في علمه السعادة ، ويضل عنه من يشاء ممن سبق له في علمه الشقاء . ثم قال : { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } يعني : ويصف الله الأمثال للناس ؛ ليؤمنوا بالله ويوحدوه ويعرفوا نور نبيه من صنيعه ، ويصدقوا بإبراهيم ومحمد - عليهما أفضل الصلوات - أنهما رسولا الرب ، وهو تأويل مقاتل . وقال أهل الكلام : قوله : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : أنار الله لأهل السماوات والأرض ، مثل نوره الذي به أنار ما ذكر مثل المشكاة التي ذكر إلى آخره . وجائز أن يكون قوله : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : بالله نور أهل السماوات وأهل الأرض ؛ ألا ترى أنه قال : { مَثَلُ نُورِهِ } كذا ، ولم يقل : مثله ، ولو كان النور هو الله على ما قاله قوم وفهموه ، لقال : " الله نور السماوات والأرض مثله كذا " ، ولم يقل : { مَثَلُ نُورِهِ } فدل قوله : { مَثَلُ نُورِهِ } كذا أنه لم يرد بالنور نفسه ، ولكن ما ذكرنا أنه به نور أهل السماوات وأهل الأرض ؛ ألا ترى أنه قال في آخره : { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أنه لم يرد بالنور ما فهموا ، { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } دل أنه ليس على ما فهموه به : أنه نور كسائر الأنوار التي عاينوها ويشاهدوها وهم المشبهة ، على هذا يخرج تأويل ابن عباس حيث قال : الله هادي أهل السماوات والأرض . وقوله : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } جائز أن يكون قوله : { مَثَلُ نُورِهِ } أي : مثل نور المؤمن الذي في قلبه مثل مشكاة فيها مصباح ؛ لأن المشكاة هي الكوة التي لا منفذ لها يدخل فيها الأنوار ، فتكون مظلمة ، فإذا جعل فيها المصباح أضاء ذلك كله وأناره حتى لا يبقى فيها ناحية إلا وقد أصابها الضياء والنور ، فعلى ذلك القلب ، وهو مظلم إذ ليس له منفذ يدخل فيه النور من الخارج ، فإذا أنار الله قلبه بإيمانه ظهر ذلك النور وأثره في جميع نواحيه وجوارحه ، وهو ما قال : " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " ، أخبر أن من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، فهذا يدل أن قوله : { مَثَلُ نُورِهِ } إنما هو مثل نور المؤمن ، وعلى ذلك روي في حرف أبي بن كعب أنه قرأ : ( مثل نور المؤمن كمشكاة ) ، وفي حرف ابن مسعود : ( مثل نوره في قلب المؤمن ) . وقال الحسن : { مَثَلُ نُورِهِ } قال : مثل القرآن في قلب المؤمن { كَمِشْكَاةٍ } كوة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، أو أن يكون قوله : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : به تنجلي الظلمات ، وتنكشف الحجب والسواتر ؛ إذ النور إنما سمي : نورا ؛ لما به تنجلي الظلمات ، وتنكشف السواتر ، والحجب ، لا أنه نور ، ألا ترى أنه سمى القرآن : نوراً ، والرسول : نورا ؛ لما به تنجلي الشبهة والظلمات ، وبه ترتفع السواتر والحجب وإن كانا في أنفسهما ليسا بنور سميا : نورا ؛ لما ذكرنا من تجلي الأشياء بهما وارتفاع السواتر ، فعلى ذلك جائز أن يسمى الله : نورا ؛ لما به يكون تجلي الظلمات والشبه ، وانكشاف السواتر ، وارتفاع الحجب ، لا أنه نور . وقوله : { مَثَلُ نُورِهِ } قال بعضهم : مثل نور المؤمن على ما ذكرنا فيما تقدم . وقال بعضهم : { مَثَلُ نُورِهِ } في صدر المؤمن . وقال بعضهم : مثل نور محمد على ما ذكر مقاتل وغيره . وقال بعضهم : مثل نور القرآن . وقوله : { كَمِشْكَاةٍ } قال : الكوة التي لا منفذ لها للنور على ما ذكرنا . وقال بعضهم : موضع الفتيلة من القنديل . وقال بعضهم : الحدايد التي تعلق بها القنديل . وقوله : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قال : بعضهم : هي شجرة مصحرة تطلع عليها الشمس إذا طلعت وتغرب عليها إذا غربت ، وهو أجود الزيت . وقال بعضهم : هي شجرة في كنّ لا تطلع عليها الشمس إذا طلعت ، ولا تغرب عليها إذا غربت . وقال بعضهم : ليست شرقية : لا غرب لها ، ولا غربية : لا شرق لها ، ولكنها شرقية غربية . فكيفما كان فإنما ذكر الزيت لصفائه وخلوصه ؛ فيجب أن يسأل أهله فيقال : أي الزيت أجود وأصفى الذي تصيبه الشمس أو الذي لا تصيبه ، أو الذي تصيبه في وقت ولا تصيبه في وقت ؟ وقال بعضهم : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } هو الله سبحانه هادي أهل السماوات وأهل الأرض ، كما هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء ؛ قالوا : هو زيت كلما مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء ، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم [ فإذا أتاه العلم ] ازداد هدى على هدى ونوراً على نور ، وعن أبيّ بن كعب قال في قوله : { مَثَلُ نُورِهِ } : يقول : مثل نور المؤمن ، وكذلك يقرؤها : ( مثل نور المؤمن ) على ما ذكرنا من قبل . قال : فهو عبد قد جعل القرآن والإيمان في صدره . قال : { كَمِشْكَاةٍ } قال : المشكاة : صدره { فِيهَا مِصْبَاحٌ } : قال : المصباح : القرآن والإيمان الذي جعل في صدره . قال : { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } فالزجاجة : قلبه . قال : { ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } يقول : كوكب مضيء . { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } قال : الشجرة المباركة أصله ، فالمبارك : الإخلاص لله وحده لا يشرك به . قال : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قال : فمثله كمثل شجرة ، جعله كالشجرة فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت : لا إذا طلعت ، ولا إذا غربت ، وكذلك هذا المؤمن قد أجير عن أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها ، فثبته الله فيها ، فهو بين أربع خلال : إن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر ، وإن قال صدق ، وإن حكم عدل ؛ فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات . قال : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } قال : فهو يتقلب في خمسة من النور : كلامه نور ، وعلمه نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره النور إلى يوم القيامة إلى الجنة . قال : ثم ضرب مثل الكافر فقال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } وهو يحسبه عند الله خيراً فلا يجده ، فيدخله الله النار ، وقال في آية أخرى له مثلا فقال : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } [ النور : 40 ] فهو يتقلب في ظلمات . وقال بعضهم : في قوله : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : بنوره يهتدي من في السماوات ومن في الأرض على ما ذكرناه { مَثَلُ نُورِهِ } في قلب المؤمن { كَمِشْكَاةٍ } وهي الكوة غير النافذة على ما ذكرنا { فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي : سراج { كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } : مضيء ، أي : منسوب إلى الدرّ ؛ وهو قول القتبي . وقال أبو عوسجة : { كَمِشْكَاةٍ } : الكوة التي تكون في الحائظ ؛ ومثال جماعته : الكوة ، و { كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } : مثل لسانه وصدره وقلبه { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ } قال : يكاد محمد يبين للناس وإن لم ينطق . وعن الضحاك بن مزاحم { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } قال : خلقت الكواكب من نار يقال لها : دري ؛ فمن ثمة قال : { كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } . وقد ذكرنا قولهم في المشكاة : قال بعضهم : الكوة : التي لا منفذ لها . وقال بعضهم : الفتيلة . وقال بعضهم : الفتيلة التي في جوف القنديل نفسه . وقال بعضهم : القائم في وسط القنديل ، وهو موضع الفتيلة . وقال بعضهم : هي الحدايد التي يعلق بها القنديل . وأما الزجاجة فهي القنديل . ثم إن كان قوله : { مَثَلُ نُورِهِ } أي : نور المؤمن ، فليس ذلك وصف كل مؤمن ونعته ، ولكن وصف المؤمن الذي يجتمع فيه جميع شرائط الإيمان وجميع الأخلاق الحسنة والآداب ؛ لأنه وصفه بطهارة نفسه وجسده وقلبه وجميع أعماله وأفعاله ؛ لأنه قال : { كَمِشْكَاةٍ } ، وهي قلبه { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو صدره الذي في قلبه المصباح والزجاجة وهو الإيمان الذي في صدره ، ثم نعت الزجاجة فقال : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي : مضيء . وقال بعضهم : من الدر ، فوصف الكل بالضياء والنور وطهارة الداخل منه والخارج ونقاوته ، فهو المؤمن الذي يجتمع فيه جميع الشرائط والخصال المحمودة ، وأما كل مؤمن فلا يحتمل ، وهذا أشبه ؛ ألا ترى أنه ذكر نعت الكافر من بعد وخبثه حيث قال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } . وإن كان وصف محمد ، ففيه جميع ما ذكر ونعته ، وإن كان القرآن فهو كذلك أيضاً . وقوله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } الذي ذكرنا يحتمل المؤمن ويحتمل محمدا ويحتمل إبراهيم في كلهم { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } ، وقوله : { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } يحتمل : يهدي الله لنور محمد ، ويحتمل : القرآن ، ويحتمل : الإيمان والهدى . وقال بعضهم : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } قال : فالزيت نور ، والمصباح نور ، والقنديل نور ، وقال : المؤمن نور ، وعمله نور ، وكلامه نور . ويحتمل : قوله : { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أي : بنوره . وقال بعضهم : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } يقول : بنوره أضاء السماوات والأرض على ما ذكرنا : { مَثَلُ نُورِهِ } يقول : في قلب المؤمن ، وهو في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( في قلب المؤمن ) ، وهذا مثل ضربه للإيمان والقرآن ، والقلب حين يدخله الإيمان والقرآن { كَمِشْكَاةٍ } يعني : الكوة ، { فِيهَا مِصْبَاحٌ } يعني : الإيمان ، والقرآن { فِي زُجَاجَةٍ } يعني : القلب ، والمشكاة : الصدر ، فكما دخل هذا المصباح في الزجاجة فأضاء ؛ فكذلك أضاء القلب ، ثم خرج من الزجاجة ، فأضاءت المشكاة ، فكذلك أضاء الصدر ، ثم نزل الضوء من الكوة ، فأضاء البيت ، فكذلك نزل النور من الصدر فأضاء الجوف كله ؛ فلم يدخله حرام ، والله أعلم بذلك . وقوله : { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } يحتمل ضرب الأمثال لهم وجهين : أحدهما : ضرب لأفعالهم وأقوالهم مثلا ؛ ليعرفوا مقاديرها في الحسن والجمال ؛ ليعلموا قدرها من الجزاء والثواب ، أو ضرب الأمثال لهم للأنفس المكرمين المعظمين المستوجبين كل خير ؛ ليرغبوا في مثل ذلك فيستوجبوا ما استوجب أولئك ، وكان ضرب مثل الإيمان أو القرآن أو محمداً وما كان على اختلاف ما قالوا بالأنوار التي ضربها - والله أعلم - لما أنه قد أقام الحجج والبراهين على الإيمان والقرآن ومحمد حتى صاروا كالأنوار التي شبههم بها من الحسن والجمال والضياء إليها حتى يعرف حسن هذه الأنوار وبهاءها كل أحد ؛ فعلى ذلك المضروب به المثل صار في الحسن والبهاء والضياء بالحجج والبراهين كالأنوار التي لا يخفى حسنها وبهاؤها على أحد ، ولا ينكرها إلا معاند ومكابر ، وكان مثل الكفر والعناد من القبح والفساد والبطلان كالظلمات التي ذكر بعضها فوق بعض وكالسراب والزبد الذي ذكر حيث قال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } ، وكالظلمات التي ذكر حيث قال : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ … } الآية [ النور : 40 ] { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } قال : الأنجم الخمسة دري : زهرة ، وعطارد ، والمشتري ، وبهرام ، والزحل . قال قتادة : الدري : الضخم المنير . قال الكسائي : من همز " دريء " فهو حسنه وظهوره وارتفاعه ، تقول : درأ النجم ، وهو فاش ظاهر في كلام العرب ، ومن رفع الدال ومن لم يهمز فهو ينسبه إلى الدر ، ومنهم من يرفع الدال ويهمز وأظنها لغة . وقال أبو عمرو بن العلاء : الدري : النجم الذي تراه يتلألأ كأنه يجيء ويذهب . وقد روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل من أهل عليين ليشرف على أهل الجنة ؛ فتضيء الجنة بوجهه كأنه كوكب دري " ، [ و ] روي أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لمنهم ، وأنعم . وأيضاً روي دري بالرفع . وفي خبر آخر عنه : " إن أول زمرة تدخل الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على أضوأ كوكب دري في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان آدميتان يري مخ سوقهما من وراء اللحم ، والذي نفس محمد بيده ما فيها غرب " . وقوله : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } اختلف في قراءته : قرأه بعضهم : { يُوقَدُ } بالياء ورفعها ونصب القاف ، يقول : المصباح يوقد . ومن قرأها بالتاء ورفع الدال ونصب التاء رده على الزجاجة أراد تتوقد ، ثم طرح إحدى التاءين . ومن قرأ بالتاء ورفعها يعني : الزجاجة التي توقد . و [ قرأ ] أهل مكة : ( تَوقّد ) بنصب التاء وتشديد القاف ، يعني : المصباح توقد ؛ فلذلك انتصب . ومن قرأ : { يُوقَدُ } يعني : الكوكب أو المصباح . وقوله : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قد ذكرنا بعض أقاويلهم فيما تقدم ، لكنا نزيد فيها شيئاً . قال قائل : هي شجرة ضاحية من حين تطلع الشمس إلى أن تغرب ، ليس لها ظل شرقي ولا غربي ، وزيتها أصفى الزيت وأعذبه وأطيبه . وقال قائل : ليست بشرقية يحوزها المشرق دون المغرب ، وليست بغربية يحوزها المغرب دون المشرق ، ولكنها بارزة في صحراء أو في رأس جبل تصيبها الشمس النهار كله ، وهو مثل الأول . وقال الكسائي : ليست بشرقية وحدها ، ولا بغربية وحدها ولكنها شرقية وغربية ؛ كما تقول : لا آتيك ولا آتي فلاناً ، له معنيان : إن شئت كان معناه : لا تأتي واحدا منهما ، وإن شئت كان معناه : أنك [ لا ] تأتيهما معا ، ومثله : والله لا آكل ولا يأكل زيد معنيان ، وكان يقال : رجل لا يرجو الجنة ولا يخاف النار ويحب الفتنة : إنه رجل صالح : أما الفتنة فالمال والولد ، قال الله تعالى : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ التغابن : 15 ] وهو يرجو الجنة ويخاف النار على ما فسرنا . وقال بعضهم : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ } يقول : لا تضحى للشمس من أول النهار إلى آخره ، ولا غربية عليها ظل من أوّل النهار إلى آخره ، ولكنها شرقية وغربية يصيبها الشمس والظل ، والعرب تقول : لا خير في شجرة في مضآة ، ولا خير في شجرة في مضحاة . وقائل يقول : لا تطلع الشمس ولا تغرب . وقائل يقول : هي شجرة بالشام ليست بالمشرق وليست بالمغرب . والحسن يقول : والله لو كانت هذه الزيتونة في الأرض ، لكانت شرقية أو غربية ، والله ما هي في الأرض ، ولكن هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لنوره وهو هذا القرآن . وأما قوله : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } قال بعضهم : إيمان المؤمن نور ، وعلمه نور ، فهو نور على نور . قال بعضهم : نور النار على نور الزيت ، فذلك نور على نور ، وهو بجودته يعني : الزيت . وقال بعضهم : نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ، ولا يضيء واحد بغير صاحبه ، كذلك نور القرآن ونور الإيمان إذا اجتمعا لا يكون أحدهما مضيئاً إلا بصاحبه . وقال بعضهم : ما ذكرنا من نور الإيمان والعلم . ثم معنى تشبيه ما ذكر بالزيت ؛ لأن الزيت أصفى شيء وأطهر وأطيب شيء وأضوأ للسراج ، وكل المنافع من الإدام والدواء وغيره [ منه ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ } اختلف فيه : قال بعضهم : قوله : { أَن تُرْفَعَ } أي : تعظم ، ويرفع قدرها - وهي المساجد - على غيرها من البيوت المسكونة بذكر اسم الله فيها ، والتسبيح والتنزيه من الأقذار ، والأنجاس ، ومن الأمور الدنيوية . وقال بعضهم : قوله : { أَن تُرْفَعَ } أي : تبنى وتتخذ . فإن كان التأويل هذا ، ففيه الأمر ببناء المساجد واتخاذها . وإن كان الأول ، ففيه الأمر بتعظيم المساجد ورفع قدرها بما ذكر من ذكر الله والتسبيح فيها . ثم الإذن في هذا الأمر لوجهين : أحدهما : بحق إقامة الجماعات فيها في هذه الصلوات المعروفة ؛ إذ الأرض كلها في الأصل جعلت مسجداً ؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " فهي من حق جواز الصلاة مسجد ، فيخرج الأمر به مخرج الأمر ببنائها لإقامة الجماعات . والثاني : أمر بها خصوصاً للمساجد ؛ إذ غيرها من البيوت المسكونة إنما اتخذت وبنيت بالإذن والإباحة ، فخص المساجد بالإذن ببنائها خصوصاً لها ؛ إذ لو كان إذناً على ظاهر ما ذكر ، لكان المساجد وغيرها من البيوت سواء ، والله أعلم . وقوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } فإن كان تأويل قوله : { أَن تُرْفَعَ } أي : تعظم ويرفع قدرها ؛ فيكون قوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ } تفسيرا لذلك التعظيم والقدر الذي أمر ، أي : أمر أن تعظم ، ويرفع قدرها بذكر اسم الله فيها ، وما ذكر من التسبيح . وإن كان التأويل هو الأمر بالبناء يكون قوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } كذا على الابتداء ، أي : أمر أن نبني سويا مساجد ، وأمر أن يذكر فيها اسمه ، ويسبح له فيها بالغدو والآصال . ثم اختلف في تلاوة قوله : { يُسَبِّحُ لَهُ } : قرأ بعضهم { يُسَبِّحُ } بنصب الباء . وقرأ بعضهم { يُسَبِّحُ } بخفض الباء . فمن قرأها بالنصب صيره على الأول { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } ، ثم ابتدأ فقال : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ } . ومن قرأها بالخفض - أعني : خفض الباء - صيره مقطوعاً من الأول مبتدأ به ، أي : يسبح له فيها رجال بالغدو والآصال ، ثم ابتدأ من قوله : { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ } ثم قوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } جائز أن يراد بذكر اسمه : الصلاة ، وكذلك التسبيح . ويحتمل أن يريد بذكر اسمه : جميع أنواع الأذكار من الخير . ويراد بالتسبيح بالغدو والآصال : الصلاة المفروضة . ثم قال بعضهم : الغدو : صلاة الغداة ، والآصال : صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ؛ فيجعل الأصيل عبارة عن هذه الصلوات في أوقاتها . وقال بعضهم : الآصال : صلاة العصر خاصة ، وأما غيرها من الصلوات فإنما عرف لا بهذا ولكن بشيء آخر ، والغدو هو صلاة الفجر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ } ، أي : لا تشغلهم تجارة ولا بيع ، ذكر التجارة والبيع ، والبيع تجارة ، ولكن كان اسم التجارة يجمع كل أنواع التقلب ، واسم البيع يقع على خاص ، وكذك يقال للذي يجمع أنواع التقلب : تاجر ، وللذي يبيع شيئاً خاصّاً : بائع . أخر أنه لا يشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله . ثم جاز أن يكون قوله : { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي : لا يشتغلون بالتجارة والبيع ، ولكن فرغوا أنفسهم لذكر الله ، وإقامة الصلاة ، وما ذكر . وجائز أن يكون يتجرون ويبيعون لكن تجارتهم وبيعهم لا تشغلهم ، ولا تمنعهم عن ذكر الله ، يكونون أبداً في ذكر الله . ثم قوله : { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } يحتمل الصلاة . وقوله : { وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ } أي : تمام الصلاة بركوعها ، وسجودها ، وقراءتها ، وجميع أسبابها ، وشرائطها . وجائز أن يكون قوله : { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } جميع أنواع الأذكار { وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ } وإقامة الصلاة بنفسها وإيتاء الزكاة . وقال بعضهم : جائز أن يكون قوله : { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } الخطبة { وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ } صلاة الجمعة ؛ لأنه قال : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً … } الآية [ الجمعة : 11 ] ، وقال : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ } [ الجمعة : 9 ] وهي الخطبة . [ وهذا القول ] غير مسموع من أهل التأويل ، ولكنه يحتمل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ } وهو يوم القيامة يخبر عن شدة هول ذلك اليوم وخوفه إذ لا تثبت القلوب والأبصار فزعاً منه وخوفاً ، كقوله : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ … } الآية [ إبراهيم : 43 ] ، وكقوله : { إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [ غافر : 18 ] . وجائز أن يكون قوله : { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ } يعرفون مرة ، ويجهلون تارة ، ويعتبرون يومئذ بما لم يعتبروا في الدنيا ، ويقرون بما لم يقروا . وقال بعضهم : { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ } ، حين زالت عن أماكنها من الصدور ، فنشبت في حلوقهم عند الحناجر ، ثم قال : { وَٱلأَبْصَارُ } أي : تتقلب أبصارهم فيكونون رزقا ، وهو قول مقاتل . وقوله : { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } يحتمل قوله : { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي : يجزيهم الله جزاء إحسانهم ، ويكفر عنهم مساويهم ، ولا يجزيهم بها كقوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ … } الآية [ الأحقاف : 16 ] ، وكقوله : { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الزمر : 35 ] . وقوله - عز وجل - : { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } على قدر حسناتهم ، { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال بعضهم : ليس فوقه ملك يحاسبه فهو لذلك يرزق من يشاء بغير حساب لا يخاف من أحد يحاسبه كقوله { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] . ويحتمل قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : يعطيهم بلا حساب يحاسبهم ، ويدخلهم الجنة بلا محاسبة . وجائز أن يكون { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : يعطيهم بلا حساب أضعافاً مضاعفة ما لا يحصى لا على قدر أعمالهم ، والله أعلم .