Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 41-45)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } . قوله : { أَلَمْ تَرَ } ، و { أَلَمْ تَعْلَمْ } ، ونحوه في الظاهر حرف تعجيب واستفهام ، يقول الرجل لآخر : ألم تر كذا ، وألم تعلم كذا ؛ على التعجيب أو على الاستفهام ، لكنه يخرج من الله على وجهين : أحدهما : أي : قد رأيت وعلمت ؛ إذ الاستفهام لا يجوز عنه . والثاني : على الأمر ؛ أي : اعلم ورِه ؛ على ما ذكرنا في غير موضع . وقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } . يحتمل تسبيح من ذكر وجهين : أحدهما : تسبيح خلقة وصنعة ؛ إذ في خلقة كل أحد دلالة وحدانيته وتعاليه عن الأشباه وتنزيهه ، والشهادة له بالربوبية ، والتفرد بالألوهية له . والثاني : يجعل الله - تعالى - في هذه الخلائق من الطيور والدوابّ وغيرها معنى يسبحون له بذلك ، يفهمون هم ذلك من أنفسهم ، ويعرفون أنه تسبيح ؛ وإن لم يفهم غيرهم من الخلائق ، نحو ما ذكر من تسبيح الجبال والطير في قصة سليمان في قوله : { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ } [ سبأ : 10 ] ، وقال في آية أخرى : { يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ * وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 18 - 19 ] . ولو كان التسبيح ممن ذكر تسبيح خلقة لكان سليمان وغيره من الناس في ذلك شرعاً سواء ؛ والعشي وغيره من الأوقات سواء ، فدل تخصيص سليمان في ذلك ، وتخصيص الأوقات من بين غيرهم على أن تسبيح هذه الأشياء ليس بتسبيح خلقة ؛ ولكنه تسبيح عبادة بالمعنى الذي جعل له فيه ، وإن لم يفهم غيره من الخلائق تسبيحهم ؛ ألا ترى أن الله تعالى أخبر عن قول النملة ؛ حيث قال : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ … } الآية [ النمل : 18 ] ، ثم معلوم أنه لم يكن حقيقة قوله كقول المميز والممتحن ، ولكنه معنى ، فهموا منها ذلك ، فعلى ذلك الأول ؛ ألا ترى أنه أخبر عن نظر الجوارح وشهادتها عليه يومئذ ؛ حيث قال : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ … } الآية [ النور : 24 ] وقال : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ … } الآية [ فصلت : 20 ] فيفهم هؤلاء من شهادة الجوارح عليهم ما لم يفهمه غيرهم حتى أنكروا عليها ؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا . وذلك جائز أن يكون لمعنى فيهم فهموه هم ولا يفهمه غيرهم ؛ ألا ترى أنه الله جعل في سرّية الماء معنى يحيا به كل شيء إذا أصابه ووصل إليه ، وذلك المعنى لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه الله عليه وارتضاه لنفسه رسولا ، فعلى ذلك تسبيح من في السماوات والأرض والطير وغيره ، جعل في سرّيتهم معنى يعرفون هم من أنفسهم ذلك تسبيحاً له وتنزيهاً ؛ وإن لم يفهمه غيرهم ، والله أعلم ؛ كقوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] . وقوله - عز وجل - : { يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } . حرف " من " إنما يعبر به عن التمييز وحرف " ما " يعبر به [ عن ] المميز . وقوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } . قال بعضهم : كل من فيها قد علم صلاته وتسبيحه ؛ من الملائكة وغيرهم ؛ بلغته ولسانه غير كفار الإنس والجن . وجائز أن يكون قوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } ما ذكرنا أن كلا منهم يعرف ويفهم أنه يسبح له ، وإن لم يفهم غيره ، كأنه يذكر سلطانه وملكه وغناه عن عبادة هؤلاء والتسبيح ؛ لأن من سبح له كل شيء في السماوات والأرض ، فترك عبادة هؤلاء له وعبادته بمحل واحد لا ينفع ولا يضر . أو أن يقول : من له ملك السماوات والأرض لا يقع له الحاجة إلى عبادة أحد ولا طاعته ، وإنما الحاجة والمنفعة في الطاعة والعبادة لهم دون الله ؛ ولذلك قال : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } على أثر ذلك . وقوله : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } جائز أن يكون هذا على الأول ؛ أي : عليم بما يفعل من ذكر من التسبيح وغيره ، أو أن يكون على ابتداء وعيد للخلق ؛ أي : عليم بجميع ما يفعلون . وقوله : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } قد ذكر في غير موضع . وقوله : { وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ } أي : قد صفت أجنحتها في الطيران ، وكذلك قال أبو عوسجة ، أي : صفت أجنحتها في الهواء فلا تحركها . وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } قيل : يسوق سحاباً { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي : بعضه إلى بعض { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } قال : فيها تقديم وتأخير { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي : قطعاً يحمل بعضه على أثر بعض { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي : يضم السحاب بعضه إلى بعض بعد الركام . وقال بعضهم : قوله : { يُزْجِي } أي : يخرجه من الأرض فيسخره بين السماء والأرض ثم يجعله ركاماً . وقوله : { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } وقيل : " خلله " ؛ أي : من خلال السحاب { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } قال بعضهم : جبال من ثلج ينزل الله على السحاب منها الثلج والبرد . وقال بعضهم : جبال خلقها الله من برد في السماء ثم ينزل . وليس في الآية بيان أن الجبال التي ذكر أنها من السماء أنها من ثلج أو برد ، سوى أنه أخبر أن فيها برداً ؛ فالأشياء تشبه بالجبال وتنسب إليها ؛ إما للكثرة ، وإما للشدة والغلظ والعظم ثانياً ؛ كقوله : { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً … } الآية [ النمل : 88 ] ؛ فجائز أن تكون الجبال المذكورة في هذه الآية هي الجبال التي أخبر أنه ينزلها ، أو لا يدري أين هي : في السماء أو فيما بين السماء والأرض ؟ وقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } في نفسه أو زرعه أو ثمره فيضره ، { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } فلا يصيبه ، وإن كان على هذا فهو يخرج على التعذيب ، وكذلك عمل البرد يفسد في مكان ، ويترك مكاناً لا يعمه ، ولكن يصيب مكاناً ويخطئ مكاناً . وجائز أن يكون قوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } من بركته { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } من بركته ، { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } قيل : ضوء برقه ، كاد أن يقارب أن يذهب ضوء البرق بالأبصار من شدة نوره ، { يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } تقليبه الليل والنهار واختلافهما : يأتي بهذا ويذهب بالآخر . يذكر هذا - والله أعلم - صلة قوله : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } الآية ؛ يخبر عن سلطانه ، وقدرته ، وتدبيره ، وعلمه ، وحكمته ، ووحدانيته ، وقدرته ، ما ذكر من سوق السحاب بين السماء والأرض ، وتسخيره ، وضم بعضه إلى بعض - دل ذلك أنه قادر بذاته ، لا يعجزه شيء ، ودل نزول المطر وإصابته في مكان دون مكان ، وتخطيه موضعاً دون موضع مع اتصال السحاب وانضمام بعض على بعض على السواء أنه على التدبير والعلم كان ذلك ، لا بطباع السحاب ، أو على جزاف . ودل جريان الأمر واتساق التدبير فيما ذكرنا ، وفي اختلاف الليل والنهار ، وتقليبهما من حال إلى حال ، من النقصان إلى الزيادة ، ومن الزيادة إلى النقصان ، واتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما - أنّه تدبير واحد ، لا عدد ؛ إذ لو كان تدبير عدد ، لمنع بعض بعضاً عما يريد من التدبير والنفع ، دل ذلك كله على أنه واحد ، عليم ، قادر ، مدبّر ، لا يعجزه شيء ؛ ولذلك قال : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } ؛ لما ذكرنا فيه من وجوه الاستدلال والاعتبار . قال القتبي وأبو عوسجة : { يُزْجِي } أي : يسوق { رُكَاماً } بعضه فوق بعض { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ } أي : المطر { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } و { خِلاَلِهِ } ، { سَنَا بَرْقِهِ } ضوءه . قال أبو عوسجة : والركام : الكثير المتراكم الذي بعضه فوق بعض ؛ يقال : ارتكم الشيء ، أي : صار بعضه على بعض ، ويقال : ركمت المتاع أركمه ركماً : إذا جعلت بعضه فوق بعض ، والودق : المطر ؛ يقال : ودقت السماء تدق ودقاً : أي : مطرت { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } أي : من بينه ، وواحد الخلال : خلل ، { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } السنا مقصور ، وهو الضوء ؛ يقال : السنا : النار ، وهو واحد . وقوله : { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } هو - والله أعلم - صلة قوله : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } الآية ؛ ذكر السحاب وما فيه من التدبير والعلم والحكمة ، وذكر - أيضاً - تقليبه الليل والنهار وما فيهما من التدبير والعلم والحكمة والقدرة ؛ فعلى ذلك قوله : { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } يذكر قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره ؛ أخبر أنه خلق الخلائق كلهم من هذا الماء ، على اختلاف أجناسهم وجواهرهم من شيء واحد وأنهم لم يكونوا بالطباع كذلك ، ولكن بتدبير واحد عالم بذاته ، لا بعلم وتدبير مستفاد ، ولكن علم ذاتي ؛ إذ لو كانوا بالطباع لخرجوا على تقدير واحد وصفة واحدة . والثاني : أنه لا أحد من حكماء البشر يدرك كيفية إنشاء هذا العالم ، وخلق هذه الخلائق من هذه المياه فإنه خلق ذلك ، وليس في تلك المياه معنى ولا شيء من جوهر الخلائق دل إنشاؤه إياهم أنه قادر بذاته ، لا يعجزه شيء يخلق بسبب وبغير سبب ، وأنه خلق الخلائق بحكمة ذاتية ؛ إذ لم يدرك ذلك حكماء البشر . ودل خلق هذه الخلائق على هذه المعاني والأسباب أنه لم يخلقهم عبثاً ليتركهم سدى ، لا يأمرهم ولا ينهاهم ؛ فإذا ثبت الأمر والنهي ثبت الإحياء من بعد الممات للجزاء . ودلت قدرته على خلق هذه الخلائق من الماء أنه قادر على الإحياء ، وأنه لا يعجزه شيء ؛ لأن من قدر على هذا لقادر على ما ذكرنا . وقوله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ } يذكر هذا - والله أعلم - لأحد وجهين : إما تذكيراً إياه نعمه ومننه وفضله الذي أعطاهم وإحسانه الذي أحسن إليهم ؛ لأنه أخبر أنه خلق هذا العالم معتدلا سويّاً من غير أن كان منهم اختيار لذلك . أو يستوجبون ذلك قبله ، وخلق غيرهم من الدواب منكبين على وجوههم وماشين على بطونهم ، وذلك فضل منه ونعمة . أو ذكر مثالا بحال الكفرة في الآخرة ؛ كقوله : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ … } الآية [ الملك : 22 ] ؛ أخبر أن الكفرة يكونون منكبين على وجوههم ، وأهل الإسلام يمشون منتصبين مستوين { يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } بسبب وبغير سبب { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ لأنه قادر بذاته ، لا بقدرة مستفادة بالطباع .