Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 4-10)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } . ذكر الرمي ولم يذكر بم ؟ فيعرف ذلك بالنازلة ، ولقوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } ، وذكر الأربعة الشهود ، والزنا هو المخصوص بالشهود الأربعة دون غيره من الإجرام ؛ فدل ذكر ذلك على أثر ذلك على أن الرمي المذكور فيه هو الزنا . ثم قوله : { ٱلْمُحْصَنَاتِ } : هن الحرائر في هذا الموضع لا العفائف ؛ لأن قاذف الأمة يلزمه التعزير ؛ ألا ترى أنه قال : { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ … } الآية [ النساء : 25 ] ؛ [ و ] ألا ترى أنه أوجب على الإماء نصف ما على المحصنات وهن الحرائر . ولأنا لو جعلنا { ٱلْمُحْصَنَاتِ } عبارة وكناية عن العفائف دون الحرائر لأسقطنا شهادة الشهود ؛ لأن العفة تكذبها . وكذلك يدل قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ } ، الغافلات : عبارة عن العفائف ؛ فدل أن المحصنات عبارة عن الحرائر ، ثم أدخل المحصنين في حكم هذه الآية في الرمي والقذف وغيره ، وإن لم يذكروا في الآية . ثم شدد الله - تعالى - في الزنا وغلظ في أمره ما لم يشدد ولم يغلظ في غيره من الإجرام مثله : منها : ما نهى عن تعطيل الحدّ فيه وإضاعته وتخفيفه ؛ حيث قال : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ } . ومنها : ما أمر برجمه إذا كان محصناً مثل ما يرجم الكلب ويقتل بالحجارة . ومنها : ما أوجب على الرامي به من الحدّ إذا لم يأت بأربعة شهداء . والزنا بهذا كله مخصوص من بين غيره من الإجرام ؛ وذلك - والله أعلم - لقبحه في العقل والطبع جميعاً ، وكذلك في الشرع . والدليل أنه قبيح في الطبع والعقل جميعاً ما ينفر عنه طبع كل مسلم وينفر عنه كل عقل سليم . فإن قيل : لو كان ينفر عنه لكان لا يرتكبه ولا يأتيه . قيل : ينفر عنه إلا أن الشهوة التي مكنت فيه وركبت تغلبه وتمنعه عن النفار عنه ؛ ألا ترى أنه لو تفكر مثله في المتصلات به من الأم والابنة وجميع المحارم ، لم يحتمل قلبه ذلك ، وبمثله روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن رجلا أتاه فقال له : ائذن لي في الزنا ؛ فقال : " أرأيت لو فُعِل بابنتكَ وأمِّكَ مثلهُ : أكنت تكرهُ ؟ فقال : نعم ؛ فقال له : اكْرَهْ لِغَيْرِكَ ما تكرهُ لنفسك " دل ذلك أنه قبيح في الطبع والعقل جميعاً إلا أن الشهوة تمنعه عن النفار عنه . وفيه اشتباه الأنساب والمعارف التي جعلت فيما بين الخلق ؛ حتى لا يهتدي أحد إلى معلم يعلمه الحكمة والآداب ومعالم السنن ولا الدعاء بالآباء ، وارتفع التواصل وحفظ الحقوق التي يقوم بعض لبعض ، والشفقة التي جعل لبعض على بعض : من التربية في الصغار ، وحقوق المحارم وغيرهم ، وبها امتحن البشر والعالم الصغير ، وبطل خلق ما ذكر من الإنشاء لهذا العالم ، وتسخير ما ذكر ما في السماوات والأرض لهم ، فهذا كله يدلّ على قبح الزنا ونهايته في الفحش والمنكر ؛ حتى لا يعرف هذا العالم قبحه ونهاية فحشه ، وإنما يعرفه العالم الروحاني الذي لم يكن فيهم هذه الشهوة ولم يمتحنوا بها ، وأمّا هذا العالم الذي جعلت فيهم الشهوة لا يعرفون قدر قبحه وفحشه ؛ لما تغلبهم وتمنعهم عن النفار عنه والنظر في معرفة قبحه ؛ لهذا - والله أعلم - ما شدّد الله - تعالى - أمر الزنا وغلظ في أحكامه ما لم يغلظ بمثله في غيره من الإجرام وعظم شأنه من بين سائر الآثام . ثم الذكر إنما جرى في الحرائر بما ذكرنا فهو بالرجال من الأحرار إن لم يكن أكثر فما يكون دونه ؛ لأن العذر فيهن أكثر وهي الشهوة التي تغلب وتمنع عن النفار عنه ، وفي الرجال أقل ؛ فالعذر فيهم أقل ؛ ألا ترى أنه ذكر الحدّ في الإماء بقوله : { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [ النساء : 25 ] ، ولم يذكر في العبيد شيئاً ؛ فيلزم للعبد ذلك الحدّ إذا ارتكبه ؛ فعلى ذلك ما ذكر من الحدّ في النساء والقذف ، فهو في الرجال مثله . ثم أجمعوا على أن على قاذف الأمة التعزير ولا حدّ عليه ، وقد سمى الزوجة وإن كانت محصنة أمة ، وقال : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [ النساء : 25 ] ، وقال : { وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ } [ النساء : 24 ] ، سمّي ملك اليمين : محصنة بقوله : { أُحْصِنَّ } ، أي : تزوجن ، وقوله : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [ النساء : 25 ] ، أي : الحرائر ؛ فقد بان بهذه الآية أن الإحصان قد يكون بالحرية ، ويكون بالزوج ، وإن كانت الزوجة أمة إذا كان لها زوج ، وسمّى الطيعة من النساء محصنة ، قال - تعالى - : { مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ } [ النساء : 25 ] ، يعني : العفائف ، فالإحصان على ثلاثة أوجه ؛ وإنما يجب الحدّ على قاذف الحر المسلم والحرة المسلمة ؛ فإن كان حراً أو حرة فعليهما الحدّ ثمانين ، وإن كان عبداً أو أمة فعليه الحد أربعين سوطاً على ما ذكرنا . وقوله : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } . فظاهر هذا أنه لا يقع عند حضرة القذف ، ولكن له أن يأتي إلى وقت إياسه وهو الموت ، كمن يحلف بيمين ولم يوقت لها وقتاً ، فإنما وقعت إلى وقت إياسه فحنث عند ذلك ؛ فعلى ذلك يجيء على ظاهره أن يقع على الأبد ليس عند حضرة القذف ، لكن لو وقع على الأبد لكان فيه سقوطه ؛ إذ لا يقام الحد بعد الموت . أو إن أراد بذكر الشهود الأربع زجره عن قذف المحصنات ؛ لما لا يجد الشهود على الحلال ؛ فالذي هو أخفى وأسر أبعد . والثاني : أن الحدّ قد لزمه بالقذف ، فإن أراد إسقاطه لم يسقط إلا ببينة تقوم حضرة ذلك ، كمن يقر بقصاص أو حق من الحقوق ، ثم ادعى العفو في ذلك أو إسقاط ما أقر له والخروج منه ، لم يصدق إلا ببينة تقوم على حضرة ذلك ، فعلى ذلك قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } : وقع ذلك على حضرة القذف ، فإن أتى به وإلا حدّ ، والله أعلم . ثم المسألة بأنه إذا أتى بأربعة فساق درأ عن نفسه الحدّ عندنا ، والقياس ألا يطالب بشهود عدول ؛ لأن العدول لا يشهدون ذلك المشهد ، ولا ينظرون إليه ؛ إنما يشهده الفساق [ فالفساق ] أحق أن يدرأ بهم الحد عنه من العدول ، وليس كالشهادة على إقامة حدّ الزنا ؛ لأن قصدهم بالنظر إلى ذلك المكان - قصد إقامة الشهادة وإيجاب الحدّ على فاعل ذلك ؛ لذلك لم يصيروا فسقة ، ولأنهم لا يشهدون بذلك إلا عن توبة تكون منهم إذ يملكون التوبة ، ولأن الفساق من أهل الشهادة ليس كالكفار والعبيد ، وهؤلاء وإن كانت لا تقبل شهادة الفساق فهم من أهل الشهادة ؛ ألا ترى أن من قذف فاسقاً أو كانت امرأة فقذفها زوجها - وهو فاسق - أنا نحدّ قاذف الفاسق ، ونلاعن بين الزوج وبين امرأته ، وإن قذف مسلمٌ كافراً أو قذف حرٌّ عبداً ، لم يحد ، وإن قذف أحدهما زوجته لم يلاعن بينهما ، فمن خالفنا في هذا اللعان فليس يخالفنا في أن الحرّ إذا قذف العبد ، والمسلم إذا قذف الكافر فلا حدّ على واحد منهما ؛ فهذا كله يدل أن الفساق من أهل الشهادة والكافر والعبد والمحدود في القذف ليسوا من أهل الشهادة ، فإذا كانوا من أهل الشهادة - وإن لم تقبل شهادتهم في غيره - فأوجب ذلك الشبهة ، والحدود مما يدرأ بالشبهات ؛ لذلك درئ عنه الحدّ ، وأما الكافر والعبد والمحدود في قذف فإن لم يكونوا من أهل الشهادة - لم يجب شبهة في درء الحدّ عنه ؛ لذلك افترقا . ثم المسألة إذا جاء الشهود متفرقين حدّوا ، ولم تقبل شهادتهم ، والقياس عندنا ألا يحدّوا ؛ لأنهم إنما يقومون في الشهادة محتسبين لا يقصدون به قذفه ولا شتمه ، وأمّا الرامي فإنه يقصد قصد شتمه وقذفه ، ولأن الشاهد يقول : رأيته فعل كذا ، والرامي يقول : أنت كذا ؛ فكان كمن يقول الآخر : رأيته كفر ، لم يضرب بهذا القول ، ولو قال : يا كافر ، ضرب ؛ لأن هذا خرج مخرج الشتم ، والأول لا ؛ فعلى ذلك الأول ، لكنهم أقاموا الحد على الشهود إذا جاءوا متفرقين ؛ لأن الله أكدّ الشهادة بالزنا بأمرين : أحدهما : ألا يقبل فيها أقل من أربعة ، وألا يقبل حتى يقولوا : زنى بها ، فيأتون هذه اللفظة ويصفوا بأكثر مما يوصف غيره من النكاح وغيره ؛ فالشهادة بالزنا أحوج إلى اجتماع الشهود في موطن واحد من اجتماع الشهود على النكاح ، ومن قولهم : إن النكاح إذا عقد بشاهدين متفرقين لم يكن نكاحاً ؛ فالزنا الذي كان أمره أوكد والحاجة إليه أحوج وأكثر أحق ألا يقبل . والثاني : ما جاء عن عمر أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا وفيهم أبو بكرة ، فجلدهم عمر جميعاً ؛ لما لم يشهد الرابع كما شهدوا هم ، وكان ذلك بحضرة أصحاب النبي فلم ينكر ذلك عليه أحد ؛ فكان ذلك إجماعاً ؛ ألا ترى أن أبا بكرة قال بعد ذلك : أنا أشهد ؛ فهمّ عمر أن يجلده ؛ فقال له علي - رضي الله عنه - : إن جلدت هذا فارجم صاحبك ، فلم ينكر عليه على جلده إياهم إذا لم يتم أربعة ؛ إنما أنكر إذا تم ، والله أعلم ؛ لذلك قلنا : إنهم إذا جاءوا فرادى متفرقين صاروا قذفة ولا ينتظر به حضور من بقي منهم ؛ كما لم ينتظر عمر . ثم مسألة أخرى : أنه إذا جاء أربعة وأحدهم زوج قبل عندنا ودرئ عنه الحدّ ؛ لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره من السلف ، ولأن الشهادة عليها وشهادة الزوج على امرأته تقبل ، وإنما ترد إذا شهد لها ؛ ألا ترى أنه لو شهد عليها في الديون والقصاص والسرقة وغير ذلك من الحقوق لقبل ؛ فعلى ذلك في هذا . فإن قيل : إن الزوج إنما يشهد لنفسه وفيه منفعة له ؛ لأن حدّه اللعان إذا قذفها ؛ فهو يريد أن يزيل اللعان عن نفسه . قيل : إنما يكون حدّ الزوج اللعان إذا قذفها قبل أن يرتفعا إلى الحاكم ، فإذا فعل ذلك ثم شهد مع ثلاثة آخرين لم تجز شهادته ، وأما إذا كان أوّل ما بدأ به إن جاء مع ثلاثة فشهدوا عليها بالزنا فليس يبطل بشهادته عن نفسه شيئاً وجب عليه ؛ ألا ترى أن الأجنبي إذا قذف امرأة ثم جاء ليشهد بذلك عليها مع ثلاثة أن شهادته لا تجوز ؛ لأن الحدّ قد لزمه قبل شهادته ؛ فهو يدفع الحدّ الذي وجب عليه بشهادته ؛ فلا تقبل ، وأنه لو جاء مع ثلاثة ، وكان أول أمرهم أن يشهدوا عليها بالزنا فشهادتهم جائزة ، ولا يقال : إن أحداً منهم يدفع عن نفسه شيئاً وجب عليه ؛ فعلى ذلك الزوج . وقوله : { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } . تسمية الفسق لهم : لا تخلو إما أن كان لما رموا وقذفوا به بريئاً من ذلك ، أو لما هتكوا عليه الستر من غير أن هتك هو على نفسه ؛ فإن كان الأول فذلك لا يعلمه إلا الله ؛ فعلى ذلك توبته لا تظهر عندنا ؛ فإنما ذلك فيما بينه وبين ربه ؛ فكأنه قال : وأولئك هم الفاسقون عند الله إلا الذين تابوا . وإن كان الثاني فإنا نعلمه ؛ فكأنه قال : وأولئك هم الفاسقون عندكم . { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } . لا تظهر توبته عندنا ؛ لأن توبته هو أن يعزم ألا يهتك على آخر ستره ، أو يعزم ألا يقذف بريئاً من الزنا أبداً ؛ فأيّ الوجهين كان تسميته فسقهم فإن التوبة من ذلك لا تظهر عند الناس لذلك لم تقبل ؛ ولذلك قال ابن عباس : وإنما توبته فيما بينه وبين الله : إذا تاب غفر الله له ذنبه : الفرية ، وكذلك روي عن غير واحد من السلف : من نحو الحسن وإبراهيم وأمثالهم ، قالوا : توبته فيما بينه وبين ربه . وقوله : { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } ليس ثمة شهادة رفعت إلى الحاكم فردّها ؛ ولكن : لا تقبلوا لهم شهادة يرفعونها إلى الحكام ؛ فالحرج على كل شهادة يرفعون من بعد ، ثم إذا شهد بعد ما قذف وقبل أن يجلد قبلت شهادته وهو قاذف ؛ فدل أن شهادته إنما ترد بعد ما جلد لما اتهمه الحاكم ، وكل شهادة ردّت لتهمة فهي لا تقبلُ أبداً ، والتهمة التي بها جلد القاذف هي لا تزول أبداً . أو أن يكون توبته قوله : " فقد كذبت فيما قذفت " ؛ فكنا نردّ شهادته ؛ لتهمة الكذب ، فإذا أكذب نفسه نقبلها ؛ لتحقق الكذب ؛ فهذا بعيد . وأصله أن كل توبة كانت بعد التمكين فهي لا ترفع الحكم الذي جعل له والحدّ ، وكل توبة كانت قبل التمكين فهي ترفع العقوبات ، كقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 34 ] ؛ فلو لم يرفعوا عنهم تلك العقوبات لكانوا يتمادون في السعي في الأرض بالفساد ، وأمّا فيما نحن فيه فليس في ذلك التمادي فيه . وزعم الشافعي أن حاله قبل الحدّ وبعد ذلك سواء ، هذا خلاف ما نصّ الله عليه ؛ قال الله - تعالى - : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً … } الآية ، وقال : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [ النور : 13 ] ؛ فجعلهم كاذبين عند العجز عن إقامة الشهداء ، وكان أمرهم قبل ذلك موقوفاً ؛ فالواجب أن يجعلهم كاذبين عند عجزهم عن تصحيح ما قالوا ، وهي الحال التي جعلهم الله فيها كاذبين ؛ فبان بما وصفنا أن من جعل حال المحدود بعد أن ضرب الحدّ كحاله قبل ذلك مخطئ . ودل ما وصفنا على أنه لا يجب أن يستدل بجواز شهادته قبل أن يجلد على جواز شهادته إذا تاب بعد الجلد على ما ذكرنا ؛ لأنا بالجلد علمنا أنه قاذف ، لا بما كان من رميه المرأة قبل أن يجلد . ومن الدليل على اختلاف الحالين أن عمر لما جلد أبا بكرة قال له : إن تبت قبلت شهادتك ، وأنه قبل أن يجلده لم يرد شهادته ؛ لأنه لو كان عنده مجروحاً بالقذف لم يسمع شهادته ، ولا أعلم بين أهل العلم خلافاً أنه لا يقبل شهادته بعد الجلد ما لم يتب ؛ وإنما يختلفون في شهادته بعد التوبة ، وأن شهادته قبل الجلد مقبولة ؛ فكيف يشتبه الحالتان مع [ ما ] وصف ؟ ! وقال غيرهم : التوبة تزيل فسقه ولا يجوز شهادته ، قالوا : الاستثناء على آخر الكلام على الذي يليه ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على بطلان شهادته ، وإن تاب : ما روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المسلمونَ عدولٌ بعضُهم على بعضٍ إلا محدوداً في قَذْفٍ " . وعن ابن عباس قال : لما نزل قوله : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ، وذكر حديث فيه طول ، وفيه : " لم يلبثوا إلا قليلا حتى جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، قال : يا رسول الله ، لقد رأيت فلاناً مع أهلي ؛ فقال رسول الله : ما تقول يا هلال ؟ ! قال : والله يا رسول الله ، لقد رأيته وسمعته بأذني ، قال : فشق على رسول الله للذي جاء به ، ثم قال : أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ؟ ! فاشتد ذلك على رسول الله ، وجعل يقول : أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين " وقول رسول الله : " يضرب هلال وتبطل شهادته في المسلمين " ، وما ظهر من غمه بذلك وجزعه يدلان على أن المحدود لا تقبل شهادته بعد توبته ؛ لأن توبته لو قبلت ، وكان كسائر الأشياء التي إذا تيب منها ، جازت شهادته ، لقال النبي : " تبطل شهادته في المسلمين إلا أن يتوب " ؛ لأنه لا يقال في شيء من المعاصي : فلان فعل كذا وكذا ؛ فبطلت شهادته في المسلمين ؛ حتى يقرن إلى ذلك : إلا أن يتوب . وقد ذكرنا عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } ، قال : فتاب الله عليهم من الفسق ، فأما الشهادة فلا تجوز . وكذلك روي عن كثير من السلف أنهم قالوا : توبته فيما بينه وبين ربّه . وفيه وجه آخر ، وهو أن القاذف إذا ضرب الحدّ فهو يقول ما لم يرجع : أنا صادق في نفسي ولم يلزمني الحدّ فيما بيني وبين ربي ؛ وإنما لزمني في ذلك الحكم ، فإذا تاب فهو يقول : كان الحدّ واجباً علي فيما بيني وبين ربي وفي الحكم ؛ فذلك أحْرى ألا يزول عنه من إبطال شهادته بذلك الحدّ . ووجه آخر : وهو أن القاذف لم تبطل شهادته بقوله : فلان زان ؛ لأنه مدّع - بقوله هذا - شيئاً قد يجوز أن يكون حقّاً ، ولكنه يصير قاذفاً إذا عجز عن إقامة البينة وضربه الحاكم الحد ، فإذا كانت شهادته إنما بطلت بحكم حاكم لم يزل ذلك الحكم إلا بحكم حاكم ؛ فإن حكم حاكم : بجواز شهادته في شيء جازت شهادته فيه . فإن قيل : يلزمكم على هذا أن تقولوا : إن قال حاكم : قد أجزت شهادته في كل شيء أن تجوز ؛ لأن الحاكم قد رفع ما لزم من بطلان شهادته بالحكم الأول . قيل : قول الحاكم : قد أجزت شهادته ، ليس بحكم ؛ إنما هو فتوى ، والحكم إنما يكون فيما تقام له البينة ، أو يقع به الإقرار . فإن قيل : فما تقولون في رجل زنى فحدّه الحاكم : هل تجوز شهادته إن تاب ؟ قيل : بلى . فإن قيل : قد بطلت شهادته بحكم آخر ، وتوبته مقبولة بغير حكم حاكم ؛ فما منع أن يكون القذف مثل ذلك وما الفرق ؟ قيل : الزنا فعل ظاهر يعرف به الزاني وإن لم يحد ، والقذف لا يعلم كذب القاذف فيه من صدقه ؛ لأنه شيء يدعيه على غيره ، وإنما يعلم أنه كاذب في قذفه بما ينفذ عليه من حكم الحاكم ؛ فلذلك افترقا . ومن الدليل - أيضاً - على أن شهادة القاذف إذا حدّ لا تقبل - وإن تاب - أنه إذا قال : تبت من قذفي فلاناً ، وكنت في ذلك كاذباً ؛ فلسنا ندري هل هو صادق في قوله : كنت كاذباً أم هو في قوله ذلك كاذب ؛ لأن المقذوف إن كان في الحقيقة زانياً فقول القاذف : " كنت في قذفي إياه كاذباً " [ كذب ] منه ، وهو في ذلك آثم ؛ فإذا كنا لا نقف بتكذيبه نفسه على كذبه فيه من صدقه لم نجعله توبة ؛ لأن التوبة إنما تكون أن يظهر عند الحكم من الأفعال ما يعلم بنفسها أنها طاعة وأنه فيها على خلاف ما ظهر من نفسه في الوقت الأول ؛ فلما لم يعرف كذب المكذب لنفسه من صدقه لم يجعل ذلك من توبة . وقلنا : توبته فيما بينه وبين ربه ؛ لأن الله يعلم هل هو كاذب في تكذيبه نفسه أو صادق ، ونحن لا نعلم ولا دليل لنا من الظاهر عليه ؛ فلم نجعل توبته توبة في الحكم ، وقلنا : حالك الآن كحالك قبل ذلك . ودليل آخر : أنا قد علمنا كذبه بقول الله : { فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } ، فإذا قال : كذبت في قذفي ، قلنا له : لم تفدنا بتكذيبك نفسك فائدة لم نعرفها ، فأنت في هذا الوقت كاذب ؛ فإنك في الوقت الأول تعلمنا أنك كاذب ؛ فحالك الآن في شهادتك كحالك قبل ذلك ، على ما ذكرنا . على أن الشافعي يقول : لا ترجع الملاعنة إلى زوجها ، وإن تاب ، فإذا كانت توبته لا تبطل ما لزمها من الحكم في رجوعها إليه فكذلك لا يبطل ما لزمه من الحكم في بطلان شهادته ، والله أعلم . وقوله : { فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ، إن كان الجلد مأخوذاً من الجلود فجائز أن يستخرج منه حدّ الضرب ، وهو ألا يجاوز الجلود ؛ ولكن يضرب مقدار ما يتألم به ويتوجع ، ولا يمزق به الجلود ولا يخرقها . ونستخرج منه التفريق في الأعضاء كلها والجوارح ؛ لأنه لو ضرب في مكان واحد لخرقه ومزقه ، سوى الرأس والوجه والمذاكير ؛ لما فيه من التأثير والمجاوزة . فإن كان كذلك ففيه حجة لأبي حنيفة - رحمه الله - في قوله : إن الشهود إذا شهدوا على حد ، فضرب به الإمام فأصابه الجراحات ، ثم رجعوا لا يضمنون ما أصابه من الجراحات ؛ لأنهم لم يشهدوا على ضرب يجرح ويؤثر فيه ما أصابه ؛ لذلك لم يضمنوا . وقول عمر لأبي بكرة : " تقبل شهادتك إن تبت " ، فهو يحتمل ، أي : تقبل روايتك عن رسول الله ومشاهدك التي شهدتها . وقد ذكر أن الحكم والحدّ في الآية إنما جرى في قذف المحصنات دون المحصنين بقوله : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ … } الآية ، لكن قذف المحصن وشتمه إن لم يكن أكثر في الشين وأعظم في الوزر لا يكون دونه ، فالذكر وإن جرى في المحصنات فأمكن وجود المعنى الذي به جرى ذلك في المحصنات في المحصن ، وهو ما قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } ، وهو الإيمان والإحصان والعفة ؛ لذلك لزم الحكم في هذا كما لزم في المحصنات . وقد ذكرنا فيما تقدم ألا يجلد من قذف مملوكة أو مملوكاً أو قذف كافرة : أما المملوك فلقوله : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } ، وقد ذكرنا الدليل على أن المراد بالمحصنات الحرائر دون غيرهن ؛ لذلك لم يجلد قاذف المملوك . ولأنا لو أجبنا جلد ثمانين ؛ فهو لو أتى بفعل الزنا حدّ خمسين ؛ فلا يجوز أن نوجب على قاذفه مما به قذف من الجلد أكثر مما نوجبه في عين ذلك الفعل لو أتى به ؛ فيسقط بما ذكرنا الجلد على قاذف المملوك . وأما الكافر والكفارة : فسقط عن قاذفهما الحدّ ؛ لما ذكرنا من قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ } : شرط فيه الإيمان والإحصان والعفة ، فإذا فقد واحد مما ذكرنا - لم يقم . ولأنا لو أوجبنا الحدّ وحددنا ، لحد بقذف عدو الله ، ولا يجوز أن يجلد مسلم بقذف عدو من أعداء الله ، مع ما فيما ذكرنا من المسائل إجماع بين أهل العلم في ذلك ، والله أعلم . وقوله : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ } . روي عن ابن عباس : قال : " لما نزلت هذه الآية قال عاصم بن عدي الأنصاري : [ إن ] دخل منا رجل بيته فوجد رجلاً على بطن امرأته ، [ و ] أراد أن يخرج فيجيء بأربعة رجال شهود ؛ ليشهدوا على ذلك - قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن هو عجل فَقَتَل قُتِل به ، وإن هو قال : وجدت فلانا مع فلانة ، ضرب به الحدّ ، ولاعن امرأته ، وإن سكت سكت على غيظ ! ! " . فذكر أنه ابتلي بذلك من بين الناس ؛ فأتى رسول الله فأخبره بذلك ، وقال : وجدت فلانا على بطنها ؛ فأرسل رسول الله إلى امرأته وإلى فلان ، فجميع بينهما وبين عاصم فقال للمرأة : ويحك ، ما يقول زوجك ؟ ! قالت : يا رسول الله ، إنه لكاذب ؛ ما رأى شيئاً من ذلك ، ولكنه رجل غيور ؛ فذلك الذي حمله على أن يتكلم بالذي تكلم ، فكان فلان ضيفا عنده يدخل ويخرج علي وهو يعلم ذلك ، فلم ينهني عن ذلك ساعة من ليل ونهار أن يدخل علي ؛ فسأله عن ذلك فقال : يا عاصم ، اتق الله في حليلتك ، ولا تقبل إلا حقّاً ! ! قال : يا رسول الله ، أقسم بالله ما قلت إلا حقّاً ، ولقد رأيته يغشى على بطنها ، وهي حبلى وما قربتها منذ كذا وكذا ؛ فأمرهما رسول الله أن يتلاعنا عند ذلك ، وقال : يا عاصم ، قم فاشهد أربع شهادات بالله أنه لكما قلت ، وإنك لمن الصادقين في قولك عليها ، ثم قال : والخامسة : أن لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين ؛ ففعل ما ذكر ، ثم قال للمرأة مثل ذلك ؛ فشهدت أربع شهادات بالله : إنه لمن الكاذبين عليها ، والخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين في قوله ، فلما تلاعنا وفرغا من اللعان فرق بينهما ، ثم قال للمراة : إذا ولدت فلا ترضعيه حتى تأتيني به ، فلما انصرفوا عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ولدته أحيمر مثل الينعة فهو الذي يشبه أباه الذي نفاه ، وإن ولدته أسود أدعج جعدا قططا فهو يشبه الذي رميت به ، فلما وضعت أتت به رسول الله ، فنظر إليه فإذا هو أسود أدعج جعد قطط على ما نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه الذي رميت به ؛ فقال رسول الله : لولا اللعان والأيمان التي سلفت لكان لي فيها رأي " . وفي بعض الأخبار أنه لما جمع بينهما قال لها : بعد أن تلاعنا : " فإن الله يعلم أن أحدكما كاذب ؛ فهل منكما تائب ؟ ! " ، [ و ] قال : " عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا " ، وفي بعض الأخبار : " أن الآية نزلت في لعان هلال بن أمية ، فذكر فيه ما ذكرنا ، والله أعلم . ثم في هذا مسائل : إحداها : أنه ذكر قذف الأزواج وذكر فيه الأيمان ولم يبين ؛ فظاهر الآية : الزوج والزوجة : كافران أو مسلمان ، حران أو مملوكان ، أو كيف [ كانا ] ؟ ! فعندنا أنه إذا كان أحدهما حرّاً والآخر مملوكاً ، أو كانا جميعاً مملوكين لم يكن بينهما لعان إلا أن يكونا جميعاً من أهل الشهادة . وحجتهم في ذلك أن الله جعل على الأجنبي الحر إذا قذف أجنبية حرة الحدّ ثمانين ، وجعل حدّ الزوج إذا قذف زوجته وهما حران مسلمان اللعان ، ثم قد ذكرنا إجماعهم على أن الحرّ إذا قذف أمة أو يهودية فلا حدّ عليه ؛ فلما لم يكن على الحرّ القاذف للأمة من الحدّ ما على القاذف الحرّ إذا قذف حرة لم يكن على زوج الأمة من اللعان ما على زوج الحرة . وأصل هذا : أن الله ذكر الشهادة في رمي الأجنبية المحصنة وأبرأ القاذف من الحد إذا أتى بها ، وأمر بإقامة الحدّ إذا عجز عن إقامتها ، ثم استثنى من الشهداء الذين ذكر في قذف الأجنبية شهادة الزوجين بقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ } ؛ فإذا لم يدخلا في تلك الشهادة إذا كانا مملوكين أو كافرين أو أحدهما لم يدخلا فيما استثنى ؛ إذا الثنيا استخراج من تلك الجملة المستثناة وتحصيل منها ؛ لذلك بطل اللعان . ووجه آخر في الكافرة : وهو أن المرأة تقول في الخامسة : عليها غضب الله إن كان من الصادقين ، وغضب الله يكون عليها بغير شرط ؛ فمحال أن يقول القاضي لها : عليك غضب الله بشرط إن كان الزوج صادقاً ، وهو يعلم أن غضبه عليها في كل حال ؛ لذلك بطل . والمخالف لنا أولى بإبطال اللعان بين الحرة والأمة والمسلم والذمية منا ؛ لأنهم يزعمون أن العبد ليس بكفء للحر ولا الكافر بكفء للمسلم في القصاص في النفس وفيما دون النفس ؛ فكيف جعلوهما في أيمانهما أكفاء لأيمان الأحرار المسلمين ؟ ! كان يجب أن يقولوا مثل يمين الكافر يصححان به ليمين المسلم ؛ فلا يوجبون بينهما لعانا ، والوجه فيه ما ذكرنا بدءاً . ثم المسألة في إباء الأيمان : إذا أبي أحدهم حدّ عند بعض أهل العلم وهو قول الشافعي ، وعندنا أنه لا يحد بالإباء ؛ فذهب من أوجب الجلد بالإباء إلى ظاهر قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ } : أوجب الجلد في قذف الأجنبي إذ عجز عن إقامة الشهود ، ودرأ عنه الحدّ إذا أتى بأربعة يشهدون ؛ فعلى ذلك درأ عن الزوجين الحدّ إذا شهد كل واحد منهما أربع شهادات بالله ، فوجب إذا أبي أحدهما الأيمان أن يحد ؛ إذ بالأيمان يدرأ الحد ويوجب اللعان . والثاني : ما قال : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ } : جعل الأيمان سبب درء الحدّ عنها ؛ فإذا أبت ذلك لزم الحدّ . وعندنا أنه لا يحدّ بالإباء ؛ لأنه ليس في الإباء ظهور الكذب ؛ إذ ليس كل من أبي اليمين يظهر كذبه فيه ؛ وإنما يحدّ لظهور كذبه في القذف ، وهو لا يعلم ، [ و ] لا يظهر بالإباء ، وإنما حدّ في الأجنبية إذا لم يأت بأربعة شهداء ؛ لأنه في الظاهر عند الناس كاذب ؛ لأنه ليس بينه وبين الأجنبية سبب ولا معنى يبعثه على إظهار ما ذكر ، وأمّا فيما بينه وبين زوجته سبب ومعنى يحمله على إظهار ذلك ، وهو الغيرة ، فإذا كان كذلك فهو في قذف الزوجة في الظاهر صادق عند الناس ؛ للسبب الذي ذكرنا ؛ لأنه طالب حق قبلها ؛ على ما روي : لا يوطئن فرشهن من يكره الأزواج ؛ فلا يزال صدقه بإباء اليمين ، وأما من قذف أجنبية فهو كاذب في الظاهر ؛ لعدم السبب الحامل على إظهار ذلك الكذب ، حتى يأتي ما يزيل الكذب وهو الشهود ، وفي الزوجة : على الصدق ، حتى يظهر بالأيمان ؛ لذلك افترقا ، ولأن الحدّ لا يقام بالإباء ألبتة . ولأن الأيمان لا تقابل بشهادة العدول بحال ؛ ألا ترى أن من شهد عليه شاهدا عدلٍ بحق ، فحلف هو بأيمان لم تقابل الأيمان بتلك الشهادة في سقوط الحق . وأما قوله : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ } : جائز أن يكون ذلك في تلك المرأة التي في أمرها نزلت الآية ، علم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبها بالوحي ؛ ألا ترى أنه قال : إذا جاءت بكذا فهو لكذا ، وإذا جاءت بكذا فهو لكذا ، ثم إذا [ بها ] قد جاءت شبيها بالذي رميت به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا الأيمان لكان [ لي ] ولها شأن " كذَّبها ؛ حيث قال : " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " ، فدرأت تلك المرأة العذاب عنها بالأيمان . أو أن يكون العذاب الذي دُرئ عنها الحبس ؛ إذ من قولنا : أيهما أبي اليمين حبس ، حتى يشهد أربع شهادات بالله ، أو تقر بالزنا ، أو يكذب نفسه ؛ فدرأ الحبس عنها بالأيمان التي ذكر . وإنما لم يحد بالإباء ؛ لأن الإباء لا تظهر الكذب كالإقرار ، ولأن الإباء في الحقيقة إباحة . ولو أن إنساناً أباح للحاكم أن يقيم عليه الحدَّ لم يقم ؛ فعلى ذلك هذا ، أو لما يجوز أن يأبى عن الأيمان ؛ صوناً لنفسه عن اللعن والغضب الّذي ذكر فلم يحدّ ؛ لما ذكرنا . ثم مسألتان في هذا نذكرهما وإن لم يكونا في ظاهر هذه الآية : إحداهما : في إلحاق الولد أمّه . والأخرى في تفريق الحاكم بينهما إذا تلاعنا . قال بعض أهل العلم : إذا فرغ الزوج من لعانه لحق الولد أمه ، وإن لم تلتعن المرأة ، والقياس في لحوق الولد ما قال أولئك : إنّه يلحق بفراغ الزوج من اللعان . والقياس في وقوع الفرقة : ما قال أصحابنا : إنه لا يقع إلا بعد فراغ الزوجين جميعاً وتفريق الحاكم بينهما ؛ لأن الزوج إذا شهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصّادقين قد ألزم امرأته الزنا في الظاهر ؛ فإذا ظهر أن الولد ليس منه فجائز لحوقه بالأم بفراغه من اللعان . وأما الفرقة فإنها لا تقع بظهور الزنا ؛ ألا ترى أن امرأة الرجل إذا زنت لا يقع بينهما الفرقة ، [ و ] ألا ترى أن دعوى المرأة باقية بعد فراغ الزوج من أيمانه ؛ لذلك افترقا . والأخبار تدل لمذهب أصحابنا في المسألتين جميعاً ؛ لأنه روي عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلا لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ؛ ففرق رسول الله بينهما ، وألحق الولد بالمرأة . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لاعن بينهما فرق بينهما . وروي في الأخبار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : " اللهُ يعلمُ أنَّ أحدَكما كاذبٌ ؛ فهل منكما تائبٌ ؟ " ، قال ذلك لهما ثلاثاً ، فأبيا ؛ ففرق بينهما . وفي بعض الأخبار قال : " حسابُكما على اللهِ ، أحدُكما كاذبٌ ، لا سبيلَ لكَ عليها " . فإن قيل : إنما فرق بينهما النبي ؛ لأن الفرقة قد وقعت بينهما ؛ فأخبره النبي أنه لا تحل له ، وقال : " لا سبيل لك عليها " . قيل : قولكم : إن الفرقة قد وقعت بينهما باللعان دعوى منكم ، وظاهر الأخبار يشهد لنا وعلى وهم الخصم . ثم يقال لهم : ألستم تقولون في المولى إذا مضت مدته فارتفعا إلى الحاكم : هل تقع الفرقة بينهما إذا امتنع من قربانها وطلاقها ما لم يقل القاضي : قد فرقت بينكما ؟ ! فإن قيل : فرقة الإيلاء طلاق وفرقة اللعان غير طلاق عندنا . قيل : هما عندنا طلاق . فإن قيل : إنكم تزعمون أن فرقة الإيلاء تقع بمضي الأجل ؛ فما منع أن يقع الفرقة باللعان بتمام اللعان ؟ ! قيل : لم يكن للحاكم في الإيلاء صنع ؛ فلا يحتاج إلى حكمه ، وفي الآخر : لا يتم اللعان إلا بالقاضي ؛ فلا تقع الفرقة إلا بالقاضي . ويقال لهم : ما تقولون في رجل ادعى حقّاً فأقام عليه شاهدين عند قاض : هل يلزم الحكم قبل أن يقول القاضي : قد حكمت بذلك ؟ فإن قالوا : لا يلزم الحكم حتى يقول : قد حكمت ؛ فيقال : ما منع أن [ يكون ] اللعان مثله ؟ ! ويقال لهم أيضاً : ما تقولون في العنين : أجّله الحاكم [ أيفرق ] بينهما ؟ فإن قالوا : لا تقع حتى يفرق الحاكم بينهما ، قيل : ما منع في فرقة اللعان أنه كذلك ؟ ! فإن قالوا : إنما صارت الفرقة لا تقع في العنين والمولى حتى يوقعها الحاكم ، يقول : طلقها أو فيء إليها ، ويقول لامرأة العنين : اختاري في الفرقة أو المقام معه ؛ فلما كان الحاكم ينتظر ما يقول المولى وامرأة العنين ، لم تقع الفرقة حتى يوقعها ، وليس في اللعان شيء ينتظره الحاكم ؛ لذلك افترقا . فقيل : بل ينتظر الحاكم تكذيب المرأة نفسها ؛ فيحدها وتكون امرأته ، وكذلك إن أكذب الزوج نفسه حدّه وترك عنده امرأته . وأصله أنه لا تقع الفرقة إلا بعد التعانهما جميعاً وتفريق الحاكم بينهما ؛ لأنهما إذا التعنا جميعاً عند ذلك يكون أحدهما معلوناً أيهما كذب ، والانتفاع بالملعون حرام ؛ ألا ترى أنه روي في الخبر أنها موجبة ، أي : اللعنة التي ذكرت ؛ فإنما يلحق اللعن أحدهما إذا التعنا جميعاً ، فأما بالتعان الزوج خاصة فلا يقع ؛ فإذا كان كذلك فيحتاج إلى أن يفرق الحاكم بينهما ويطرد أحدهما من صاحبه ؛ إذ اللعن هو الطرد في اللغة ، وهو عندنا كالعقود التي تفسخ : لا يكون إلا بالحاكم ، نحو ما ذكرنا من العنين ، والذي يأبى الإسلام ، وغيرها من العقود ؛ فإنه لا يقع بينهما الفرقة إلا بالحاكم ؛ فعلى ذلك هذا . وروي عن عمر أنه قال : المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً . ثم مسألة أخرى : أنه إذا فرق بينهما باللعان فأكذب الملاعن نفسه : يجوز له أن يتزوجها أم لا ؟ فعند بعض أهل العلم : ليس له أن يتزوجها ؛ احتجوا بما روي عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - : " المتلاعنان لا يجتمعان أبداً " ، وعن عبد الله كذلك . وعند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - : له أن يتزوجها إذا أكذب نفسه ، وليس في الخبر : " لا يجتمعان أبدا " ، وإن تاب وأكذب نفسه فجائز أن يكون قوله : " لا يجتمعان أبداً " ما داما في تلاعنهما وما أقام على قوله ولم يكذب نفسه ، وإن كان فيه حجة لمن قال إذا قال : " لا يجتمعان " قبل التوبة وبعدها ، يدل على ما ذكرنا قوله : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 20 ] ، وقوله : { وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 20 ] ما داموا في ملتهم ، فأمّا إذا انقلعوا منها فقد أفلحوا ؛ فعلى ذلك : لا يجتمعان أبدا ما داموا في تلاعنهما وما أقام الزوج على قوله ، فأمّا إذا رجع عن ذلك لهما الاجتماع ، واجتمعوا : أنه إذا أكذب نفسه وادعى الولد ألحق به ؛ فعلى ذلك هي . والثاني : لو أكذب الزوج نفسه بعد اللعان قبل الفرقة ، وجب أن يحدّ ، ويكونان على نكاحهما ، فيجب إذا أكذب نفسه بعد اللعان فجلد - فله أن يتزوجها . ثم فرقة اللعان عندنا طلاق ، وهي تطليقة بائنة ؛ لما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين عويمر وامرأته - قال : " كذبت عليها إن أمسكتها ؛ هي طالق ثلاثا " ؛ فصارت سنة في المتلاعنين ، فإذا كانت سنة الفرقة بين المتلاعنين الطلاق الذي أوقعه عويمر ؛ فواجب أن يكون كل فرقة تقع باللعان : طلاقا . ومن الدليل على ذلك أن قذف الزوج كان سبب هذه الفرقة ، وكل فرقة تكون من الزوج ، أو أن يكون الزوج سببها ، وتقع بقوله فإنها طلاق : كالعنين ، والخلع ، والإيلاء ونحوه ؛ فعلى ذلك فرقة اللعان تطليقة بائنة ؛ لأن الزوج سببها وتقع به ، وعلى ذلك جاءت الآثار عن السلف أن كل فرقة وقعت من قبل الرجال بقول ، فهي طلاق ، من نحو إبراهيم ، والحسن ، وسعيد وقتادة وهؤلاء ، وكذلك يقول أصحابنا : إن كل فرقة جاءت من الرجال بقول - فهي تطليقة . فإن عورض بأفعال تكون من الرجال ، فتقع بها الفرقة والحرمة : من نحو الجماع ونحوه - فذلك ليس بمعارضة لما ذكرنا ، والله أعلم . ثم قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } . هذا الحرف مما يقتضي الجواب ، ثم يحتمل أن يكون جوابه : لولا فضل الله عليكم ورحمته لأظهر الكاذب منهما من الصادق ، والمذنب من غيره . ويحتمل : لولا فضل الله عليكم ورحمته لأظهر الملعون منهما من غيره ، لكن لا ينتفع بأحدهما مما لحقه الّلعن الّذي ذكر ، ولا يحل الانتفاع بالملعون ؛ ألا ترى أنه روي في الخبر : أن امرأة ركبت ناقتها فلعنتها فاستجيب ؛ فأمرت أن ترفع ثيابها وتخلي سبيلها . لكن بفضله ورحمته ستر على الملعون حتى يجوز لغيره أن ينتفع به ، وإن كان لا يجوز لواحد منهما أن ينتفع بصاحبه ما دامت اللعنة فيها قائمة . وجائز أن يكون وجه آخر : وهو أن يقال : لولا فضل الله عليكم ورحمته لأظهر الملعون منهما ، وإلا جعل العقوبة بين الزوجين كهي في الأجنبيين : وهي الحدّ ، ولأظهر الزاني ، لكن بفضله لم يجعل ، والله أعلم . وقوله : { وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } . جائز أن يكون { تَوَّابٌ } : يقبل التوبة إذا تاب وأكذب نفسه ؛ فيرفع اللعن عنهما بالتوبة ؛ فإذا رفع اللعن جاز لهما الانتفاع والاجتماع بينهما ؛ ففيه حجة لقول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - في جواز نكاحهما إذا أكذب نفسه . { حَكِيمٌ } : حيث حكم بالحكمة بين المتلاعنين ، أو { حَكِيمٌ } : وضع كل شيء موضعه . وفيه نقض قول المعتزلة في قولهم : إن الله لا يفعل بأحد إلا ما هو أصلح له في الدين وأخير ؛ إذ لو لم يكن له أن يفعل غير الذي فعل لم يكن لتسمية ما فعل فضلا ورحمة - معنى ؛ فدل أن له أن [ يفعل ] غير الأصلح في الدّين .