Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 192-212)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } : وإنه - أي : القرآن - تنزيل رب العالمين ، أي : نزله رب العالمين . { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } : جواب لقولهم : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [ النحل : 103 ] . وقوله : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } : يحتمل وجوهاً . أحدها : أن جبريل لما ينزل من القرآن إنما ينزل على قلبه ، لا يحجبه شيء عن قلبه . والثاني : { عَلَىٰ قَلْبِكَ } أي : لا يذهب عنه ، بل الله يجمعه في قلبك ؛ كقوله : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [ القيامة : 16 - 17 ] . أو أن يكون قوله : { عَلَىٰ قَلْبِكَ } أي : يثبته على قلبك لقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] . أو أن يكون قال ذلك لما انتهى إلى قلبه وحفظه غاية حفظه قال : { عَلَىٰ قَلْبِكَ } ؛ كأنه ألقي في قلبه وكذلك يقال . وقوله : { لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } : كأنه - والله أعلم - على التقديم والتأخير يخرج ، أي : نزل به الروح الأمين على قلبك بلسان عربي مبين لتكونن من المنذرين . والباطنية يقولون : أنزله على رسوله كالخيال غير موصوف بلسان ، ثم إن رسوله أداه بلسانه العربي المبين أي : بينه ، لكنه ليس كذا ؛ لأنه قال في آية أخرى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [ يوسف : 2 ] ؛ فيبطل قولهم : إنه أداه بلسانه عربيّاً من غير أن أنزله كذلك ، ولو كان على ما يقوله الباطنية : إنه لم ينزله بهذا اللسان - أعني : اللسان العربي - وأن الرسول هو الذي صيره بهذا اللسان وأداه به لكان لا يصير جواباً لقولهم : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] ، ولا حجة عليهم ، فإذا ذكر هذا جواباً لقولهم وحجة عليهم ؛ دل أنه إنما أنزل عليه عربيّاً ، وأن تأويل الأول ما ذكرنا على التقديم والتأخير . وقوله : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ } : قال بعض أهل التأويل : وإنه - أي : نعت محمد وصفته - كان في كتب الأولين . وجائز أن يكون قوله : { وَإِنَّهُ } أي : هذا القرآن كان ذكره في كتب الأولين أنه ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أن عينه كان فيها . أو أن كان بعضه في زبر الأولين لا الكل ، والله أعلم . وقوله : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } : قال بعض أهل التأويل ، أو لم يكن لهم محمد آية أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في الكتب . لكن تأويله : أو لم يكفهم علم علماء بني إسرائيل آية أنه رسوله . ثم الآية تكون بوجهين : أحدهما : ما ذكر أن أهل مكة أرسلوا إلى اليهود بالمدينة يسألونهم عن رسول الله ، فأخبروهم عنه أنه يخرج في وقت كذا ، وأن نعته كذا ، وهذا وقت خروجه . والثاني : يقول : أولم يكفهم آية إسلام علماء بني إسرائيل وفقهائهم أنه رسول نحو ابن سلام وغيره ، إذ كانوا لا يسلمون إلا عن علم وثبت أنه رسول ؛ إذ كان في إسلامهم ذهاب مكانتهم ورياستهم ، والله أعلم . وقوله : { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } : قال بعضهم : نزلناه على رجل منهم عربي فلم يؤمنوا به ، فكيف لو نزلناه على أعجمي ؟ ! وقال بعضهم : لو نزلنا هذا القرآن على بعض الأعجمين ، فقرأه عليهم ، يقول : إذن لكانوا شر الناس فيهم ما فهموه وما دروا ما هو ؛ وهو قريب من الأول . وقال بعضهم : لو نزلناه على بعض الأعجمين من الدواب فكلمهم هذا ما صدقوه ؛ يذكر سفههم وتعنتهم . ويحتمل قوله : { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلأَعْجَمِينَ } أي : لو نزلناه أعجميّاً فلم يفهموه لقالوا : { لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } [ فصلت : 44 ] ، ولكن نزلناه عربيّاً ؛ لئلا يقولوا ذلك ، والله أعلم . وقوله : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } : قال بعضهم : هكذا سلكنا الكفر والتكذيب ، وأدخلناه في قلوب المجرمين . وقال بعضهم : كذلك سلكناه - يعني : البيان والحجج - في قلوب المجرمين حتى عقلوه ، ولزمتهم الحجة ، لكنهم تركوا الإيمان تعنتاً وعناداً ، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ، حين لا ينفعهم إيمانهم ؛ لأن إيمانهم عند معاينة العذاب إيمان دفع واضطرار لا إيمان اختيار ، وهو كما قال : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } [ غافر : 84 ] ؛ لأنه إيمان دفع العذاب عن أنفسهم حين خرج أنفسهم من بين أيديهم ، وإيمان اضطرار لا إيمان اختيار ؛ لذلك لم ينفعهم . وقوله : { فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً } أي : يأتيهم العذاب فجأة وهم لا يشعرون ؛ لأنه - عز وجل - إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون أبداً ، أنزل بهم العذاب بغتة ، ولو علم منهم أنهم يؤمنون حقيقة عند معاينة العذاب ؛ لأنزل عليهم العذاب معاينة مجاهرة ؛ ليؤمنوا فيقبل منهم ذلك ويدفع العذاب عنهم ، كما قبل إيمان قوم يونس حيث قال : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا … } [ يونس : 98 ] ، قبل منهم الإيمان عند معاينتهم العذاب ؛ لما علم منهم أنهم يحققون الإيمان في ذلك ، وأما من كان همهم المعاندة والمكابرة فهم لا يحققون الإيمان . وقوله : { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } : لا يزالون يطلبون الرجعة إلى الدنيا ، وتأخير العذاب عن أنفسهم إذا نزل بهم ؛ كقولهم : { رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } [ إبراهيم : 44 ] ؛ وكقوله : { يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ } [ الأنعام : 27 ] فيتمنون الرجوع والنظرة ، لكن لا يجابون . وقوله : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } : [ هو ] كقولهم : { مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ } [ يس : 48 ] ، وقولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفال : 32 ] ومثله ، وإلا ليس هذا في الظاهر جواباً لقوله : { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } وجواب هذا - والله أعلم - قوله : { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ . … } : يقول : ما يغني تأخير العذاب عنهم ، وإمهالهم عنه وقتا يمتعون [ فيه ] - من عذاب الله من شيء ؛ لا ينفعهم ذلك . أو أن يكونوا سألوا العذاب في الظاهر واستمهلوه في الحقيقة ، فخرج قوله : { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ … } الآية جواباً لاستمهالهم . أو أن يكون بعضهم استعجل العذاب واستمهل غيرهم ، فخرج هذا جواب من استمهل . ثم خوفهم فقال : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَىٰ } : يقول : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } إهلاك استئصال وانتقام ، إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة والبيان . { ذِكْرَىٰ } ، أي : موعظة وزجرا عما هم فيه . أو { ذِكْرَىٰ } بذكر ما لهم وما عليهم وما لبعضهم على بعض . وقوله : { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } : في تعذيبهم ، أي : لم نعذبهم بلا ذنب ولا جرم ، ولكن بعنادهم ومكابرتهم ؛ لأن العذاب في الدنيا لا يكون لنفس الكفر ولكن لعناد ومكابرة ، وإنما عذاب الكفر في الآخرة ؛ وعلى ذلك يخرج قوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] أي : ما كنا معذبين في الدنيا تعذيب انتقام حتى نبعث رسولا ، فيظهر منهم العناد والمكابرة ، فعند ذلك يعذبهم الله . وقال بعضهم : { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : ما كنا نعذبهم إلا من بعد البيان والحجة وقطع العذر ، والله أعلم . وفي مصحف أبي : { وما أهلكنا من قرية إلا بذنوب أهلها } . وقوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ } : قال بعضهم : ما تنزلت بالقرآن الشياطين ، فذلك جواب لقول أهل مكة : إن محمدا كاهن معه رئيٌّ يأتيه بما يقول يعنون بالرئيِ : الشيطان ، وكانت الشياطين من قبل يقعدون من السماء مقاعد يستمعون فيها الوحي من الملائكة ، فينزلون به على الكهان فمن بين مصيب ومخطئ ، فقالوا : محمد كذلك ، فأكذبهم الله في مقالتهم تلك ، فقال : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ } أي بالقرآن { ٱلشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ } أن ينزلوا بالقرآن { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } ، أي : قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب ، وأخبر أنهم عن السمع لمعزولون . وفي قوله : { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } دلالة أن من أراد أن يجعل القرآن حجة لغير الذي جعل هو حجة ، لم يقدر على النطق به ولا التلاوة ؛ نحو : من يأتي أفقاً من آفاق الأرض لم ينته إليهم هذا القرآن ، فادعى لنفسه النبوة وجعل يحتج بهذا القرآن ، فإنه لا يقدر على تلاوته ولا النطق به ؛ لأنه إنما جعل حجة وبرهاناً للمحق لا للمبطل حيث قال : وما تنزلت الشياطين وما ينبغي لهم أن ينزلوا وما يستطيعون ذلك وإنهم معزولون عن ذلك .