Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 69-89)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } : أي اتل على أهل مكة نبأ إبراهيم وخبره ؛ لأنهم كانوا من أولاد إبراهيم ومن نسله ، وهم يقلدون آباءهم في عبادتهم الأصنام ، وإبراهيم وبعض أولاده : إسماعيل وإسحاق وهؤلاء كانوا مسلمين ، عباد رب العالمين لا عباد الأصنام ، فهل اتبعوا إبراهيم ومن كان معه على دينه من آبائهم ، دون أن اتبعوا من عبد الأصنام يسفه أحلامهم في عبادتهم الأصنام وتقليدهم أولئك الذين عبدوا من آبائهم الأصنام ، وتركهم تقليد من لم يعبدها وعبد الله . ثم قول إبراهيم حيث قال لأبيه وقومه : { مَا تَعْبُدُونَ } ، يحتمل قوله : { مَا تَعْبُدُونَ } على ما ذكر في آية أخرى : { مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً } [ الصافات : 85 - 86 ] . ويحتمل { مَا تَعْبُدُونَ } أي : من تعبدون ؟ فقالوا : { نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } أي : نقيم لها عابدين ، أي : نديم على عبادتها ، والعكوف على الشيء : هو الإقامة عليه والدوام . قال أبو معاذ النحوي : " ظَلَّ " لا يقال إلا بالنهار ، ومحال أن يقال : ظل ليله يصنع كذا ، حتى يقول : بات ليله ، ومنه الحديث : " ظل نهاره صائماً ، وبات ليله قائماً " . [ ثم قال ] يبين سفههم : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } . يحتمل قوله : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ } أي : هل يجيبونكم إذ تدعونهم . ويحتمل : هل يسمعونكم على السماع نفسه ، أي : هل يسمعون دعاءكم إذ تدعونهم ؛ كقوله : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } الآية [ فاطر : 14 ] . وقوله : { إِذْ تَدْعُونَ } : يحتمل تعبدون ، ويحتمل الدعاء نفسه ، وإن كان على العادة فلا يحتمل تأويل السماع . وقوله : { أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } : وهل يقدرون على نفعكم وضركم إن أرادوا ذلك بكم وشاءوا . أو أن يكون ما ذكر أهل التأويل : هل ينفعونكم إن عبدتموها وأطعتموها ، أو يضرونكم إن عصيتموها وتركتم عبادتها ، فبهتوا ولم يقدروا على الجواب له سوى ما ذكروا من تقليد آبائهم في ذلك فقالوا : { بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } لما عرفوا أن تلك التي عبدوها لا تملك ضرّاً ولا نفعاً ، لكنهم عبدوها تقليداً لآبائهم ؛ لما وقع عندهم أن آباءهم ما عبدوها إلا بأمر ، إذ لو لم يكن ذلك بأمر ما تركوا ، لكن قد ذكر أن في آبائهم من لم يعبدها قط ، ثم لم يقلدوهم فكيف قلدوا أولئك ؟ ! دل أن الاعتلال فاسد . وقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ } : ثم قال : إنهم وآباءهم الذين عبدوا الأصنام من قبل عدو له إلا رب العالمين ، استثنى رب العالمين ، يقول : هم عدو لي وأنا بريء منهم ، إلا أن يكون فيهم من يعبد ربّ العالمين ، فيكون على الإضمار ، أي : فإنهم جميعاً عدو لي إلا من عبد رب العالمين . وقال بعضهم : يقول : إن العابد والمعبود كلهم عدوّ لي إلا رب العالمين ، أي : إلا المعبود بالحقيقة الذي يستحق العبادة ، فإنه وليي . وقال بعضهم : ليس على الاستثناء ، ولكن على الابتداء ؛ كأنه قال : أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدوّ لي ، ولكن ربي : { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } ، ذكر هذا لهم أن الإله المستحق للعبادة هو هذا الذي يصنع هذا ، وهو المالك للنفع ودفع الضر ، لا الأصنام التي عبدتم أنتم وآباؤكم . وقوله : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } : قال بعضهم : فهما وعلما ، وجائز أن يكون إبراهيم سأل ربه الإبقاء على الحكم ؛ إذ كان قد أعطاه العلم والحكم ؛ كقوله : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] . أو سأل الزيادة على ما أعطاه ؛ كقوله : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] . ويحتمل أن يكون سأل ربه قبول حكمه في الخلق ، ورفع الحرج له عن قلوبهم على ما ذكر في حكم رسول الله ؛ حيث قال : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } الآية [ النساء : 65 ] . وقوله : { وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } أي : توفني على ما توفيت الصالحين حتى ألحق بهم ، هذا - والله أعلم - يعني : آله ؛ الإلحاق بالصالحين : أن يتوفاه على الذي توفي أولئك - وهو الإسلام - ليلحق بهم ، والله أعلم . وقوله : { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } أي : اجعل لي الثناء الحسن في الناس ، وكذلك إبراهيم - صلوات الله عليه - جميع أهل الأديان على اختلافهم قد انقادوا له وانتسبوا إليه ، وادعوا أنهم على دينه ، وأن دينه هو الذي هم عليه ليس من أهل ملة إلا وهم يتولونه . وقوله - عز وجل - : { وَٱجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ } أي : اجعلني باقياً من بعد موتي في جنة النعيم ؛ إذ الوارث هو الباقي عن الموروث ؛ وكذلك تأويل قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } [ مريم : 40 ] أي : نبقى بعد فناء أهلها ؛ إذ الوارث هو الباقي ؛ فعلى ذلك قول إبراهيم : اجعلني من الباقين في جنة النعيم ، والله أعلم . وقوله : { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ } : لا يحتمل أن يكون استغفار إبراهيم لأبيه - والله أعلم - على ما ذكر في ظاهر الآية : واغفر لأبي فإنه من الضالين ؛ لأنه لا يجوز له أن يدعو له وهو كذلك ، لكن كان من إبراهيم الاستغفار له ، فأخبر الله له أنه من الضالين ؛ فيكون هذا الثاني إخبارا من الله لإبراهيم أنه من الضالين ، والأول قول إبراهيم . وكذلك قال بعض أهل التأويل في قصة بلقيس حيث قال : { إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } [ النمل : 34 ] ، فصدقها الله تعالى في مقالتها وقال : { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] ، يجعلون قوله : { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] تصديقاً من الله لقول تلك المرأة ، ومثال ذلك كثير في القرآن ، يكون بعضه مفصولا من بعض [ كقوله ] : { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ * لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } [ القيامة : 15 - 16 ] ؛ قوله : { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة : 15 ] مفصول من قوله : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } [ القيامة : 16 ] ، لا وصل بينهما ؛ فعلى ذلك دعاء إبراهيم يحتمل أن يكون قوله : { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ } مفصولا من قوله : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ } ، هذا جائز أن يكون إخباراً من الله لإبراهيم حين دعا له بالمغفرة أنه من الضالين . وجائز أن يكون قوله : { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ } أي : أعط له ما به تغفر خطاياه وهو التوحيد ؛ فيكون سؤاله سؤال التوحيد له والتوفيق على ذلك ، وبه يغفر ما يغفر من الخطايا ؛ كقوله : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وعلى ذلك يخرج دعاء هود لقومه حيث أمرهم أن يستغفروا ربهم ، وهو قوله : { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } [ هود : 52 ] ، و { وَأَسْلِمُواْ لَهُ } [ الزمر : 54 ] ، طلب منهم ابتداء الإسلام ؛ إذ لا يحتمل أن يقول لهم : قولوا : نستغفر الله ، ولكن أمرهم أن يأتوا ما به يغفر لهم وهو التوحيد ؛ وكذلك قول نوح : { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] . وقول أهل التأويل : " إن إبراهيم كذب ثلاثا " كلام لا معنى له ، لا يحتمل أن يكون الله يختاره ويجعل رسالته في الذي يكذب بحال . وقوله : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } : قال أهل التأويل : { لاَ تُخْزِنِي } أي : لا تعذبني يوم يبعثون ، وكأن الإخزاء هو العذاب يهتك الستر على صاحبه ، فسأله ألا يهتك الستر عليه ؛ لما خاف أن كان منه ما يهتك الستر عليه ؛ فسأل ربه ذلك ؛ إذ العصمة لا ترفع عن أصحابها الخوف ، بل كلما عظمت العصمة كان الخوف أشدّ ؛ لأن الأنبياء - صلوات الله عليهم - كان خوفهم أشدّ على دينهم وأنفسهم من غيرهم ، ثم الأمثل فالأمثل ، هم كذلك أشدّ خوفاً ممن هو دونهم ؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم حيث قال : { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [ إبراهيم : 35 ] ، وقال يوسف : { تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] ومثله كثير . وقوله : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } : لا ينفع ويضر لا يكون في نفي النفع دفع الضر ؛ وكقوله : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] ؛ وكقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ } [ المائدة : 36 ] ؛ وكذلك قوله : { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [ لقمان : 33 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [ عبس : 34 - 35 ] ، وقوله : { يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } [ المعارج : 11 ] ، وقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وفي ظاهر ما استثنى من الآية دلالة أنه ينفع المال والبنون إذا أتوا بقلب سليم ، حيث قال : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } . ويشبه أن يكون كذلك ينفعهم مالهم وأولادهم إذا أتوا ربهم بقلوب سليمة ؛ لما استعملوا أموالهم في الطاعات وأنواع القرب ، وعلموا الأولاد الآداب الصالحة والأخلاق الحسنة ، فينفعهم ذلك يومئذ ؛ كقوله : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ } [ سبأ : 37 ] ، أخبر أنهم إذا آمنوا وتابوا تقربهم أموالهم وأولادهم عنده . وجائز أن يكون على غير ذلك ، أي : لا ينفع مال ولا بنون ، وإنما ينفع من أتى ربه بقلب سليم . والقلب السليم : هو السالم عن الشرك ، أو السليم عن الآفات والذنوب ، والخالص لربه لا يجعل لغيره فيه حقّاً ولا نصيباً . وشرط فيه إيتاءه ربه ما ذكر ؛ ليعلم أنه ما لم يقبض على السلامة والتوحيد لا ينفعه ما كان منه من قبل من الطاعات ، إذ لم يقبض على التوحيد ؛ وكذلك ذكر في الحسنات الإتيان فقال : من جاء بالحسنة فله كذا ، ولم يقل : من عمل بالحسنة ، وهو ما ذكرنا أن يخرج من الدنيا على التوحيد ، ولا يفسد ما عمل من الحسنات ، والله أعلم .