Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 15-19)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } : فيه وجهان من الاستدلال : أحدهما : في خلق أفعال العباد . والثاني : في ترك الأصلح . أمّا الاستدلال على خلق الأفعال : لأنه قال : { آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } ، وقال على أثره : { عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ } ، وقال في رسول الله { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] ، وقال : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [ الرحمن : 1 - 4 ] ، ونحوه من الآيات فيما أضاف التعليم والفعل إلى نفسه ، فلو لم يكن له في ذلك صنع لم يكن لإضافة ذلك إليه معنى ؛ فدل أنه خلق أفعالهم منهم . فإن قيل : إنما أضاف ذلك إلى نفسه بالأسباب التي أعطاهم . قيل : لا يحتمل ذلك ؛ لأنه قد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع أسباب الشعر ، ولم يكن غيره من الشعراء أحق بأسباب الشعر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنه لم يعلمه الشعر ؛ دل أنه لم يرد به الأسباب ، ولكن أراد ما ذكرنا . وأما في ترك الأصلح : فهو ما ذكر من قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } ، وقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } ، أنه إنما ذكر هذا على الامتنان والإفضال ، فلو كان لا يجوز له ألاَّ يعطيه ذلك ، ولا كان له ترك ما فعل بهم من الإفضال - لم يكن لذكر ذلك له على الإفضال والامتنان معنى ، ولا كان داود وسليمان يحمدانه على ما أعطاهما ، ولا كان هو يستوجب الحمد بذلك ؛ إذ فعل ما عليه أن يفعل ؛ دل أنه إنما أعطى ذلك لهم وفعل بهم ذلك على جهة الإفضال والامتنان ، وكان له ترك ما فعل ، وإن كان ذلك ليس أصلح في الدين . فهذان الوجهان ينقضان على المعتزلة مذهبهم في إنكارهم خلق الأفعال ، وجواز ترك الأصلح في الدين . ثم قوله : { عِلْماً } : قال بعضهم : علما بالقضاء والحكم والعلم بكلام الطير والدواب . وقال بعضهم : فضلا بالنبوة والعلم . لكن عندنا ذكر أنه آتاهما العلم ، ولم يبين ما ذلك العلم أنه علم ماذا ؟ مخافة الكذب على الله ، والله أعلم . وقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } : قال أهل التأويل : ورث النبوة والحكم ، والوارث : هو الباقي بعد هلاك الآخر وفنائه ، كقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } [ مريم : 40 ] أي : نبقى بعد هلاك أهلها وفنائهم ، وقوله : { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ } [ الحجر : 23 ] أي : الباقون بعد فنائهم ، إلا أنه ورث شيئاً لم يكن له من قبل ؛ وكذلك قوله : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ … } الآية [ الأحزاب : 27 ] ، أي : أبقاكم وترككم في أرضهم وديارهم ، وقوله : { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا } [ الزخرف : 72 ] أي : أبقيتم فيها ، وأمثال ذلك كله راجع إلى البقاء ؛ فعلى ذلك قوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أي : بقي في ملكه ونبوته ؛ وعلى ذلك ما سأل زكريا ربه من الولد حيث قال : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [ مريم : 5 - 6 ] لا يحتمل أن يسأل ربه ولدا يرث ماله من بعد وفاته ، ولكن كأنه سأل ربه الولد ؛ ليبقى في نبوته ورسالته بعد وفاته ؛ لتبقى النبوة في نسله ، والله أعلم . وقوله : { وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } : لا يحتمل أن يذكر هذا - صلوات الله عليه - على الافتخار والنباهة ، ولكن ذكر فضل الله ونعمه التي أعطاه ومنّ عليه ؛ كقوله : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى : 11 ] ، ألا ترى أنه قال : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } . ثم قوله : { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } : لا يحتمل كل شيء ؛ لأنهم لم يؤتوا كل شيء حتى لم يبق شيء ، إنما أوتوا شيئاً دون شيء ، ولكن كأنه قال : وأوتينا من كل شيء سألناه أن يؤتينا . أو أن يكون { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } مما يؤتى الأنبياء والملوك وما يحتاج إليه ، والله أعلم . وقوله : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } : قال بعضهم : قوله : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يحبس أولهم على آخرهم ؛ كأنه لا يدعهم أن ينتشروا ويتفرقوا ، ولكن يسيرهم مجموعين على كل صنف منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم ، وذلك من سيرة الملوك وأمراء العساكر أن يسيروا جنودهم مجموعة غير منتشرة ولا متفرقة . وقال أبو عوسجة : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يساقون ، ويقال : أوزعني ، أي : ألهمني ، والوزع : من الكف والسوق ، تقول : وزع ، أي : كف ، ووزع ، أي : ساق . وقال مرة : { يُوزَعُونَ } : يجتمعون ، يقال : وزعت الإبل - أي : جمعتها - أزع وزعاً . وقال القتبي : { يُوزَعُونَ } ، أي : يدفعون ، وأصل الوزع : الكف والمنع ، يقال : وزعت الرجل إذا كففته ، ووازع الجيش : هو الذي يكفهم عن التفرق والانتشار ، وهو على ما ذكر . وقوله : { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ } : هذا يدل أن النمل وقتئذ لا تخالط الناس ؛ حيث أضاف الوادي إليها بقوله : { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ } ، ولو كانت تخالط الناس كهي الآن لقال : حتى إذا أتوا على الوادي الذي فيه النمل ؛ دل أنها كانت لا تخالط الناس ، وكان لها مكان على حدة ، والله أعلم . وقوله : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } : يخرج قوله : { قَالَتْ نَمْلَةٌ } على وجهين : على حقيقة القول من النملة كما يكون من البشر ، أطلع الله سليمان على ذلك ، وألقاه على مسامعه ؛ لطفاً منه وفضلا من بين سائر الخلائق على ما ذكرنا في قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ … } الآية [ الإسراء : 44 ] . والثاني : أن يجعل الله في سرية النمل معنى يفهم بعضها من بعض لما يريدون فيما بينهم من أنواع الحوائج على غير حقيقة القول ، أطلع الله سليمان على ذلك ؛ حتى فهم منها ما كانت تفهم بعضها من بعض لطفاً منه وفضلا ؛ وهو كقوله : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [ الإنسان : 9 ] ، ليس أحد يقول لآخر إذا تصدق عليه ذلك ، لكن الله أخبر عما علم من ضميرهم ومرادهم من التصدق على غير حقيقة القول منهم ؛ فعلى ذلك قول النملة ، أخبر سليمان عما كان في سريتها فيما بينهم من غير أن كان منها نطق أو كلام يفهم منه الخلق ، والله أعلم . وقالت الباطنية : ليس المراد من ذكر النمل : النملة المعروفة وقولها ؛ وكذلك قالوا في الهدهد : إنه لم يرد به : الهدهد المعروف ؛ إذ لا يجوز للهدهد من العلم أكثر مما يكون لسليمان ولغيره ، ولكن أراد به : الرجل ، وهو الإمام الذي يدعو الناس إلى الهدى ، ويدلهم على الرشد . وليس كما قالوا ؛ لأنه إنما ذكر هذا على التعجب ، ولو كان ذلك إنساناً ممن يكون له قول وكلام ، لم يكن لذكر ذلك منه كبير تعجيب ولا فائدة ؛ دل أنه ليس كما قالوا . وقوله : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } أي : لا يكسرنكم ، والحطم : هو الكسر . وفي حرف ابن مسعود : { لا يحطمكم } على طرح النون والتشديد . وقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } : قال بعضهم : هذا من النملة ثناء على سليمان ومدح عليه لعدله في ملكه وسلطانه : أنه لو شعر بكم ، لم يحطمكم ولم يهلككم . وقال بعضهم : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : لا يشعر جنوده كلام النملة ، وهذا يدل أن النملة كانت رئيسة سائر النمل وسيدته ؛ حيث قالت ذلك من بين غيرها من النمل ، وعلى كل رئيس وسيد للقوم أن يحفظ رعيته وحواشيه عما يحملهم على الفساد . وقول من قال : إن النمل يومئذ كان كالذباب عظيماً ، لا يحتمل ؛ لأنها لو كانت كما ذكر لم يكن لقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } معنى ؛ لأنها لو كانت كالذباب يشعرون بها ، فدل أنها كانت على ما هي اليوم ، والله أعلم . وقوله : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا } : قال بعضهم : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً } أي : سبح الله لما فهم من قول النمل وحمده عليه ، وتبسم الأنبياء : التسبيح . وجائز أن يكون التبسم : هو السرور ؛ إذ التبسم إنما يكون لسرور يدخل في الإنسان ، فقوله : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً } أي : سرّ بما أعطاه الله من عظم النعمة له والملك ؛ ألا ترى أنه سأل ربه الإلهام ؛ ليشكر نعمه التي آتاه الله حيث قال : { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } ، سأل ربه الإلهام واللطف الذي يكون منه ؛ ليشكر نعمه ، ولو كان الإلهام هو الإعلام على ما قاله بعض الناس ، لم يكن سليمان ليسأله ذلك ؛ لأنه كان يعلم أن عليه شكر نعمه ؛ وكذلك يعلم كل أحد أن عليه شكر منعمه ، فدل سؤاله الإلهام على الشكر أنه إنما سأل اللطف الذي عنده به يشكر نعمه إذا أعطاه ، وهو التوفيق ، لا الإعلام الذي قالوه . وقوله : { وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } فيه أنه يجب على المرء شكر النعم التي أنعم الله على والديه . وسأل ربه - أيضاً - أن يوفقه على العمل الذي يرضاه منه ، حيث قال : { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } . وقوله : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } : جائز أن يكون سؤاله هذا بإدخاله فيما ذكر كسؤال يوسف حيث قال : { تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] ، سأل ربه التوفي على الإسلام والإلحاق بالصالحين ؛ فعلى ذلك سؤال سليمان يشبه أن يخرج على ذلك . ثم فيه دلالة أن النجاة ودخول الجنة إنما يكون برحمة الله لا بالعمل حيث قال : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ } بعدما سأل ربه العمل الصالح المرضي . وقوله : { أَوْزِعْنِيۤ } أي : ألهمني ، والإيزاع : الإلهام ، والوزع : الكف والسوق . وقال القتبي : وأصل الإيزاع : الإغراء بالشيء ؛ يقال : أوزعته بكذا ، أي : أغريته وهو موزع بكذا ومولع بكذا .