Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 7-14)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً } : قيل : رأيت وأبصرت . { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } وقال في آية أخرى : { لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى } [ طه : 10 ] ، هذا يدل أنه كان ضل الطريق على ما ذكره أهل التأويل ، وقال في آية أخرى : { إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [ النمل : 7 ] ، ذكر على التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف ، والقصة واحدة ، والممتحن بذلك موسى لا غير ؛ فهذا يدل أن ليس على الناس تكلف حفظ الألفاظ والحروف بلا تقديم ولا تأخير ولا تغيير ، بعد أن أصابوا المعنى المودع فيها - أعني : في الألفاظ - وحفظوها من غير تغيير يدخل في المعنى المودع ؛ إذ قصة موسى هذه وغيرها من قصص الأنبياء - عليهم السلام - ذكرت في الكتاب في التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف فدل : أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف في كثير من الأحكام في الشهادات والأخبار وغيرها ، وإنما عليهم إصابة المعنى . ثم قوله : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } قال بعضهم : الشهاب : خشبة في طرفها نار ، والقبس : النار وشهبان : جمع ، ولا تسمى النار : قبسا إلا ما يحمل من موضع إلى موضع ، يقال : قبست النار قبسا واقتبست ؛ وهو قول أبي عوسجة والقتبي . وقال بعضهم : القبس : الجمر ، والشهاب : النار الموقدة : وهو قول أبي عبيدة . وقال بعضهم : الشهاب : النور ، والشهاب : الكواكب ، سمي : شهاباً لضوءه . وقال بعضهم : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } أي : شعلة من نار ، والجذوة : كأنها خشبة فيها نار ؛ وهو مثل الأول . ودل قوله : { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } على أن الوقت وقت البرد وأيام الشتاء ؛ حيث ذكر الاصطلاء وهو الاستدفاء ، والله أعلم . وقوله : { فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } : اضطربت أقاويل أهل التأويل في هذا : صرف بعضهم تأويله إلى ( ما ) لا يزيده إلى سماجة وبعداً عن الحق والصواب وعمى ، لكن لو جاز أن يعبر ويكنى بحرف ( من ) عن غير مميز وغير ذي فهم وعقل ، لاستقام التأويل فيه ولم يقع فيه شبهة ؛ فيجعل كأنه قال : أن بورك ما فيه من النار وما حولها ، ويكون عبارة عن المكان الذي فيه النار وما حولها من الأمكنة ، أي : بورك في ذلك المكان الذي فيه النار وما حولها ؛ لأنه قال له في آية أخرى : { إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } [ طه : 12 ] أي : طوي فيه البركات . وقال في آية : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] عن بركة ذلك المكان ؛ فعلى ذلك لو جاز أن يعبر بحرف ( من ) عن غير المميز والفهم ، ويكنى به - جاز صرف التأويل إلى ما ذكرنا من المكان . أو يقال : { بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } ، أي : بورك ما في النار من النور وما حول ذلك ، وما يستنار به ويستضاء ، وهو ما استفاد به من النبوة والرسالة . هذا كله إذا جازت العبارة والكناية بحرف ( من ) عن غير ذي التمييز والفهم ، فإن جاز هذا لاستقام أن يقال : هذا . أو أن يكون التأويل منصرفاً إلى ما ذكره في حرف ابن مسعود وأبي على طرح حرف ( من ) وحرف ( في ) ذكر : أن في حرفهما : { نودي أن بوركت النار ومن حولها } ، وذلك جائز في اللغة أن يقال : بورك في فلان وبورك فلانٌ وبوركت وبورك فيك ؛ وكذلك ذكر عن الكسائي أنه قال ذلك ، فإن كان ما ذكر عن ابن مسعود وأبيّ ثابتاً صحيحاً - لم يقع فيه شبهة ولا ريب . أو إن لم يجز العبارة بحرف ( من ) عن غير ذي التمييز ، فجائز أن يصرف حرف ( من ) إلى موسى ؛ فيكون كأنه قال : بورك في الذي أتى النار وهو موسى ، أو بورك فيمن جعل له اقتباس النار ؛ فينصرف تأويل ( من ) إلى موسى ، وقد جعل له من البركة في تلك النار ما لا يحصى من استفادة النبوة والإرشاد إلى الطريق والاصطلاء وغير ذلك ، والله أعلم . وقوله : { وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } : ذكر هذا - والله أعلم - تنزيهاً عن جميع ما قاله بعض أهل التأويل ؛ تبرئة منه عن ذلك كله من نحو مقاتل ، ومن قال بمثل قوله مما يؤدي إلى التشبيه والشبه . وقوله : { يٰمُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } : أي : الذي أعطاك ذلك الله العزيز الحكيم . أو يقول : إن الذي جعل لك ذلك الله العزيز الحكيم . أو أن يقول : إنه الذي أراك هذا وأكرمك به أنا الله العزيز الحكيم . أو أن يقول : إن الذي أراك - أي : الذي جعل لك ذلك - الله العزيز الحكيم ؛ العزيز : الذي لا يعجزه شيء ، الحكيم : المصيب في فعله غير مخطئ ، أو أن يقال : عزيز لا يذل أبداً قط ؛ لأنه عزيز بذاته ، الحكيم : يضع كل شيء موضعه لا يخطئ . قال أبو معاذ : قال مقاتل بن سليمان : إنه يقول : يا موسى ، إن النور الذي رأيت أنا الله ، وهذا محال لا وجه له ؛ لأنك لا تقول : " إن الذي رأيت أنا " لإنسان رآه أو لشيء رآه ، ولكن تقول : أنا الذي رأيت . ومحال - أيضاً - قوله ؛ لما ذكر في حرف ابن مسعود : { نودي يا موسى لا تخف } يكلمه الله ويخاطبه ثم يقول : إن النور الذي رأيت أنا . ومحال - أيضاً - لقول الله : { إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [ القصص : 29 ] ، قال الله : { فَلَمَّآ أَتَاهَا } [ القصص : 30 ] ، ولم يقل : أتاه . ومحال أيضاً - : أن يكون الله نعتاً ؛ لأنك لا تقول بأن الذي رأيت أنا أخوك . فقال : قول مقاتل محال من أربعة أوجه خلافاً لظاهر الآية ، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم . وقوله : { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } : في الآية الأمر بإلقاء العصا ، ولم يذكر أنه ألقاها ، ولكن فيه : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } فألقاها ، { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } ، أي : تتحرك كأنها جان . ذكر أهل التأويل أن الجان هي الحية الصغيرة ليست بعظيمة . لكنه أخبر أن موسى خافها وولى مدبرا ، وموسى لا يحتمل أن يخاف من حية صغيرة على الوصف الذي ذكر ، فكأنها كانت عظيمة لكنها في تحركها والتوائها كأنها صغيرة ؛ إذ الحية العظيمة الكبيرة لا تقدر على التحرك والالتواء كالصغيرة ؛ لذلك خافها موسى ، حتى نهاه الله عن ذلك وقال له : { لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ } . وقوله : { وَلَمْ يُعَقِّبْ } : قال بعضهم : لم يرجع . وقال بعضهم : لم يلتفت ، وهو مأخوذ من العقب . والجان : قال بعضهم : من الجنّ ، والجانّ : الحية ، ولا تكون إلا من الجن . وقول أبي عبيدة : وقوله : { لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ } فإن قيل : كيف نهاه عن الخوف ، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون ، وقد مدح الله الملائكة وغيرهم من الخلائق بالخوف من ربهم ؛ حيث قال : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 50 ] ، وقال في آية أخرى : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [ السجدة : 16 ] ، و { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأنعام : 63 ] ، وأمثال ذلك من الآيات مما فيها مدحهم بالخوف من ربهم ؟ لكنه يخرج على وجوه : أحدها : أنه قد أمن موسى حيث قال : { وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ } [ القصص : 31 ] ؛ فكأنه قال هاهنا : لا تخف بعدما أمنتك ؛ { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ } إذا أمنتهم . والثاني : { لاَ تَخَفْ } من غيري ؛ { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ } من غيري ؛ فكأنه قال - والله أعلم - على هذا التأويل : إنما نهاه عن الخوف من غيره ، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون . والثالث : أخبر أنه أمنه من خوف الآخرة وأهوالها ؛ كأنه قال : لا تخف فإني سأؤمن المرسلين من خوف يومئذ . ثم استثنى فقال : { إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ } : هذا - أيضاً - يخرج على وجوه : أحدها : لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم إذا بدل حسنا بعده سوء . والثاني : لا يخاف لدي المرسلون ، ولكن من ظلم ممن سواهم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم ، رجاء المغفرة وطمع العفو عما كان منه . والثالث : لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم منهم ؛ نحو : موسى بقتله النفس ، وإخوة يوسف ، ثم بدل حسنا وتاب عن ذلك - فإنه يخاف أيضاً ، والله أعلم . وقوله : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } : فالله تعالى قادر أن يجعل يده بيضاء من غير إدخاله إياها في جيبه ، لكنه امتحن موسى بالأمر بإدخالها في جيبه ؛ وكذلك قادر أن يصير عصاه في يده حية ، لكنه امتحن بالأمر بإلقائها ، ولله أن يمتحن عباده بكل أنواع المحن . وقوله : { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } : قيل : من غير آفة من برص أو غيره ، وقد ذكرنا معناه فيما تقدم . وقوله : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } : قال بعضهم : موسى من تسع آيات ، وقد يجوز استعمال حرف في مكان من كما يقال : لفلان كذا كذا نوقاً فيها فحلان ، أي : منها فحلان . وقال بعضهم : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } : قال أبو معاذ : قد يكون معنى ( في ) و ( مع ) واحداً فيما لا يحصى عدده ، تقول : ( خرجت في أهل مرو إلى مكة ) ، و ( مع أهل مرو إلى مكة ) ، فإذا قلت : ( خرجت في تسعة ) اختلفا ؛ لأنك أحصيت العد في تسعة أنت تاسعهم ، و ( مع تسعة ) أنت عاشرهم . وقال بعضهم : هو على الانقطاع من الأول ؛ كأنه قال لرسوله محمد : ولقد بعثنا موسى في تسع آيات إلى فرعون ؛ كما قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ الإسراء : 101 ] . وقوله : { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } : دل هذا أنه كان مبعوثاً إلى فرعون وقومه جميعاً ؛ إذ ذكر في آية إلى فرعون خاصة ، وفي آية أخرى : { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } [ الأعراف : 103 ] ، وذكر هاهنا { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } فكان مبعوثاً إلى الكل . وقوله : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أي : يبصر بها ويعلم ، كقوله : { ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } [ الإسراء : 12 ] أي : يبصر به . وقرأ بعضهم : { مبصَرة } بنصب الصاد ، أي : بينة ظاهرة يبصر فيها ؛ وكذلك قال موسى لفرعون : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ } [ الإسراء : 102 ] . وقالوا : { هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } : لم يزل عادة فرعون اللعين تلبيس أمر موسى وآياته على قومه ؛ لئلا يؤمنوا به ولا يطيعوه فيما يدعوهم ؛ مرة قال : { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 2 ] ، و { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } [ الشعراء : 34 - 35 ] ، وأمثال ذلك مما يلبس على قومه أمره ويغويهم عليه ؛ لئلا يطيعوه فيما يدعوهم إليه ولا يجيبوه . وقوله : { وَجَحَدُواْ } بالآيات : جائز في اللغة أن يقال : ( جحد بها ) و ( جحدها ) ؛ كلاهما واحد . ثم قال بعضهم : إن الجحود لا يكون إلا بعد العلم به والإيقان . ولكن يجوز أن يقال : جحد بعد المعرفة والعلم ، وقبل أن يعلم به ويعرف ؛ إذ الجحود ليس إلا الإنكار ، وقد يكون الإنكار للشيء للجهل به وبعد المعرفة . وقال بعضهم : هو على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة جحدوا بها ظلماً وعلوا . { وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ } : أنها من الله ، وأنها آياته ، ليست بسحر ، ولو كان سحرا في الحقيقة لكان آية ؛ لأن السحر على غير تعلم يكون منه آية سماوية . وقوله : { ظُلْماً } : لأنهم جحدوا الآيات وسموها سحرا ، فوضعوا الآيات موضع السحر ، لم يضعوها موضعها ، والظلم : هو وضع الشيء في غير موضعه . وقوله : { وَعُلُوّاً } أي : تكبرا وعنادا . { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } : ليس على الأمر له بالنظر في ذلك ، ولكن على تنبيه أولئك ، والزجر لهم عما هم فيه ، أي : انظر ما ينزل بهم لجحود الآيات وعنادهم فيها على ما نزل بأوائلهم ، والله أعلم .