Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 51-56)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } : اختلف فيه : قال قائلون : هو القرآن ، ثم يخرج على وجهين : أحدهما : وصل القرآن بعضه ببعض حتى خرج كله موافقا بعضه بعضا مصدقاً مجتمعاً غير مختلف ، وإن فرق في الإنزال على تباعد الأوقات وطول المدد . { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } : أن مثل هذا لا يكون إلا ممن يعلم الغيب ، ولا يعزب عنه شيء ولا يغيب ؛ إذ لو كان هو ممن لا يعلم ذلك من كلام المخلوق لخرج مختلفاً متناقضا على ما يكون من كلام المخلوق في تباعد الوقت وطول المدة مختلفاً متناقضاً . والثاني : وصل مواعظ القرآن بعضها ببعض ومواعيده بعضها ببعض ، وعداته بعضها ببعض ، وكذلك أوامره ومناهيه ، وإن تفرق نزولها واختلف مواضعها ، يدعوهم به مرة بعد مرة ؛ لعلهم يتذكرون به . ومنهم من يقول في قوله : { وَقُلْنَا لَهُمْ } [ النساء : 154 ] : القول ، أي : الإنباء وإخبار الأمم الخالية نبأ بعد نبأ وخبرا على أثر خبر ما نزل بمكذبي الرسل منهم من الهلاك والعذاب ، ومصدقي الرسل من النجاة والبقاء في النعم الدائمة ، على إقرار منهم بذلك وعلم أنه كان بهم ذلك ؛ لعلهم يتذكرون ذلك وينزجرون عن تكذيب رسولهم ؛ مخافة أن ينزل بهم بالتكذيب ما نزل بأولئك . وجائز أن يكون قوله : { وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ } أي : قول التوحيد . ووجه هذا : أن وصلنا التوحيد حتى جعلنا في كل أمة وكل قوم أهل توحيد لم يخل قوم لا أمة عنه ؛ كقوله : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ؛ وكقوله : { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ … } [ الأعراف : 159 ] ونحو ذلك من الآيات ، يدل على أن كل أمة وقرن أهل توحيد ؛ لعلهم يتذكرون أن في آبائهم من قد آمن بالرسل وصدق بهم ، ولا يقولون : إن آباءنا على ما هم عليه ، يشبه أن يكون هذا وصل القول الذي ذكر . و { وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ } . قال أبو عوسجة والقتبي : أي : أتبعنا بعضه بعضا ؛ فاتصل عندهم . وقال بعضهم : { وَصَّلْنَا } أي : بينا شيئاً فشيئا ؛ حتى صار عندهم ظاهراً . وقال أبو معاذ : وصلنا في كلام العرب : أتممنا ؛ كصلتك الشيء بالشيء . وقوله : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } ، وقال في آية أخرى : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ] . وقال في آية أخرى : { فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ العنكبوت : 47 ] ، وقال : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [ المائدة : 13 ] وأمثاله . يذكر في هذه الآيات أن من أهل الكتاب من لم يؤمن ، ويذكر في الأولى على الإطلاق : أن الذين أوتوا الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، جائز أن يكون قوله : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } وانتفعوا به يؤمنون به . أو أن يكون الذي آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته هم يؤمنون به على ما ذكر في آية أخرى : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } [ البقرة : 121 ] أولئك يؤمنون به ، وأما من لم يتله حق تلاوته فلا يؤمنون . فأما أهل التأويل فإنهم صرفوا الآية إلى قوم خاص من أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه الذين آمنوا به ، وكذا جائز أن تكون الآية في قوم منهم ؛ ألا ترى أنه قال على أثره : { وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } ذكر أهل التأويل : أنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث محمد ، فلما بعث ثبتوا على ذلك وآمنوا على ما كانوا من قبل . وفيه دلالة : أن الإيمان والإسلام واحد ؛ لأنهم قالوا : { آمَنَّا بِهِ } ، وقالوا : { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } دل أنهما واحد ؛ وكذلك قوله : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ الذاريات : 35 - 36 ] وهما واحد ذكر مرة الإيمان ومرة الإسلام ؛ دل أنهما واحد . وقوله : { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } : هذا يحتمل وجوهاً ثلاثة : أحدها : يؤتون أجرهم مرة بالإسلام ، ومرة بما صبروا على زوال الرياسة منهم وذهابها ؛ لأنهم كانوا أهل رياسة ومنزلة وقدر ، فذهب ذلك كله عنهم بالإسلام ، فلهم الأجر مرتين لذلك . والثاني : يؤتون أجرهم مرتين : مرة بالإسلام ، ومرة بما صاروا قدوة وأئمة لمن بعدهم يقتدون بهم : أحد الأجرين بإسلام أنفسهم ، والثاني بدعائهم غيرهم إليه على ما يعاقب الرؤساء منهم والقادة ، ويضاعف العذاب عليهم مرتين : مرة بضلال أنفسهم ، ومرة بإضلال غيرهم ؛ كقوله : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] جائز : أن يكون إيتاء الأجر مرتين ؛ لما يصيرون أئمة وقدوة لغيرهم في الخير ، ويضاعف عليهم العذاب إذا صاروا أئمة وقدوة في الشر ؛ ألا ترى أنه قال في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] ، وذلك - والله أعلم - لما يصرن هن أئمة لغيرهن يقتدين بهن ؛ فعلى ذلك الأول . والثالث : جائز أن يكون يؤتون أجرهم مرتين بالإسلام نفسه ، ويكون الصبر كناية عن الإيمان ؛ كقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ هود : 11 ] أي : آمنوا وأسلموا . وما أهل التأويل فإنهم يقولون : يؤتون أجرهم مرتين : مرة بإيمانهم بمحمد قبل أن يبعث ، ومرة بإيمانهم بعدما بعث ، والأول أشبه . وقال بعضهم : { يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } بما صبروا : مرة بإسلامهم ، ومرة بما صبروا ، وحلموا على أذى أولئك الكفرة ، ولم يكافئوهم ، بل خاطبوهم بخير حيث قالوا : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] . وروي في بعض الأخبار عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل آمن بنبي ثم إذا بعث آخر آمن به ، ومملوك لرجل يخدمه ويحسن خدمته ويعبد ربه ، ورجل ربى جاريته ثم أعتقها فتزوجها " . وقوله : { وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ } : هذا يحتمل وجهين : أحدهما : يحسنون إليهم بعد إساءتهم إليهم وأذاهم إياهم على ما كانوا يفعلون ويصنعون إليهم قبل ذلك . والثاني : { وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ } أي : يعفون عن أذاهم ولا يكافئونهم فيكون كقوله : { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ … } الآية [ الأعراف : 199 ] ، والأول كقوله : { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] . وقوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي : ينفقون في حق الله وسبيل الخير ، وإلا كل كافر ينفق كقوله : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ … } الآية [ آل عمران : 117 ] . وقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ } : هذا - أيضاً - يحتمل وجهين : إذا سمعوا منهم من الكلام ما يتأذون من كلام اللغو والأذى والفرية ، أعرضوا عنه ، أي : لم يكافئوهم لأذاهم . والثاني : إذا سمعوا ما يلغون به من الباطل أعرضوا ، أي : لم يخالطوهم فيما هم فيه ؛ فليس أنهم لا ينهون ولا يمنعونهم عن ذلك إذا رأوا النهي ينجع فيهم ، وإذا رأوه لا ينجع فيهم ، فعند ذلك أعرضوا عنه ؛ وهو كقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] . وقوله : { وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } : يقولون هذا لهم إذا لم ينجع النهي والموعظة ولم يقبلوا ذلك ، عند ذلك يقولون : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } ، أي : لكم جزاء أعمالكم ولنا جزاء أعمالنا ؛ وكذلك قوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] لم يقل هذا لهم في ابتداء الدعاء ، ولكن بعدما أيس عن إيمانهم وإجابتهم ؛ فعلى ذلك الأوّل . وقوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } : هذا يشبه أن يخرج على وجهين : أحدهما : على القول منهم بالسلام عليهم ، أي : كانوا لا يخاطبون الجهال ، ولا يخاطبونهم إلا بالسلام خاصة ، بهذا القدر يخالطونهم حسب . والثاني : ليس على حقيقة قول : السلام عليهم ، ولكن على الصلح وترك المكافأة لهم ، وتركهم إياهم على ما هم عليه ؛ إذ السلام هو الصلح ، والله أعلم . وقال بعضهم : ردوا عليهم معروفاً { لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } ، يعنون : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه . وقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } : ذكر أهل التأويل أن هذا نزل في أبي طالب عم النبي ، " وذلك أن أبا طالب قال : يا معشر بني هاشم ، أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك ؟ ! " قال : فقال : ما تريد يابن أخي ؟ قال : " أريد منك كلمة واحدة في آخر يوم من الدنيا : أن تقول : لا إله إلا الله ؛ أشهد لك بها عند الله " قال : يابن أخي ، قد علمت أنك صادق ، ولكن أكره أن يقال : جزع عن الموت ، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك وأخيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ؛ لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك ، ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ فلان وفلان ؛ فأنزل الله ذلك : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } " ، فهو على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الهدى البيان ، ولو كان بيانا على ما يقولون لكان رسول الله يقدر أن يبين له وقد بين . لكن الجبائي يحتج لهم فيتأول ويقول : إن رسول الله كان يحرص أن يدخله الجنة فيقول : إنك لا تهدي طريق الجنة له حتى يدخلها ، أو كلام يشبه هذا ، وذلك بعيد . وقال جعفر بن حرب : هذا ليس في ابتداء الهداية ، ولكن في اللطائف التي تخرج مخرج الثواب لهم لما كان منهم من الاهتداء في البداء والأنف ؛ كقوله : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى … } الآية [ محمد : 17 ] ، فيخبر أنك لا تملك الهداية اللطيفة التي تخرج مخرج الثواب أن تهديهم . فيقال له : أخبرنا عن تلك الزيادة التي تخرج مخرج الثواب لهم لما كان منهم من الاهتداء في الابتداء تنفع لهم دون الابتداء . فإن قالوا : نعم . فيقال لهم : فذلك عليه أن يفعل بهم ؛ إذ من قولهم : إن عليه أن يعطي كل كافر ما ينفعه ويصلح له في دينه ، فكيف منع ذلك وهو ينفعهم ؟ ! والثاني : يقال لهم : إن تلك الزيادة التي تخرج مخرج الثواب لهم واللطائف على ما كان منهم في الابتداء يستوجبها أو لا يستوجبها ، فإن كان يستوجبها فلا معنى للمنع على قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن على الله أن يعطي ذلك ، وإن كان لا يستوجبها ، فلا معنى لقوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } على قولهم ؛ فيبطل الاحتجاج به على قولهم . وعندنا زيادة الهداية وابتداؤها سواء ، وهو على ما أخبر رسوله أنه لا يهديه ، ولكن لو كان الهداية بياناً - على ما قالوا - لكان قد بين لهم ؛ فدل ذلك منه أن ثم هداية سوى البيان عند الله إذا أعطاها العبد يصير بها مؤمناً ، وهي التوفيق والعصمة والسداد ، وذلك لا يملك رسول الله إنشاء ذلك وابتداعه ، بل الله هو المالك بذلك .