Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 14-18)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } : يذكر هذا النبأ لوجهين : أحدهما : يصبر رسوله على أذى قومه ؛ لأنه ذكر أن نوحاً لبث في قومه ألف عام غير خمسين عاما ، كان يدعوهم إلى توحيد الله ، فلم يجبه إلا نفر من أهله ؛ فلم يمنعه من الدعاء إلى دين الله ما أوعدوه من المواعيد حيث قالوا : { لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } [ الشعراء : 116 ] ونحو ذلك من المواعيد ، فذلك لم يمنعه عن الدعاء ؛ ولذلك قال : { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] . والثاني : ينقض على المتقشفة مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إن الموعظة إنما لا تنجع في الموعوظين لتفريط الواعظ وترك استعمال نفسه ذلك ، فيقال : إن نوحاً قد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فلم يجبه إلا نفر ؛ فلا يحتمل أن يكون منه تقصير أو تفريط ؛ فدل أنها لا تنجع ربما لشقاوة الموعوظ . وقوله : { فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ } : قال بعضهم : هو المطر الشديد . وجائز أن يكون الطوفان كل بلاء فيه الهلاك . والطوفان هو ما أرسل عليهم من الماء فأغرقهم ، والله أعلم . وقوله : { فأَنْجَيْناهُ } أي : نوحاً ، { وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ } أي : من دخل السفينة ، { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } قال بعضهم : جعلها آية : هو أن هلكت كل سفينة كانت ، وهي باقية اليوم على ما هي عليه . وقال بعضهم : { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً } لمن بعدهم ، فتمنعهم عن تكذيب الرسل والعناد معهم . قال الزجاج : الاستثناء يخرج على تأكيد ما تقدم من الكلام ؛ كذكر الكل على أثر ما تقدم من الكلام ، أو كلام نحوه . وقلنا نحن : إن كان ما تقدم من الذكر كافياً تامّاً ، فيخرج الثنيا على أثره مخرج التأكيد لما تقدم ؛ نحو قوله : { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا } [ الحجر : 58 - 59 ] ، قوله : { إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } كافٍ تام مفهوم ألاَّ يدخل فيه آل لوط حيث ذكر المجرم ؛ إذ آله غير مجرمين ، فهو كاف مفهوم لا يحتاج إلى ذكر آل لوط ، لكنه ذكر على التأكيد له . وكذلك قوله : { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ } [ النساء : 24 ] و { مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ } [ النساء : 25 ] ؛ إذا قال : محصنين : يفهم أنهن غير مسافحات ولا متخذات أخدان ، لكنه ذكر على التأكيد . وإذا كان ما تقدم من الكلام محتملا مرسلا ، فيخرج ذكر الثنيا مخرج تحصيل المراد منه على إضمار حرف " مِن " فيه ؛ كقوله : { أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } كأنه قال : فلبث فيهم من ألف سنة تسعمائة وخمسين ؛ وكذلك قول الناس لفلان : عليّ عشرة دراهم إلا كذا ، كأنه قال : لفلان علي من عشرة دراهم كذا ، فهو على التحصيل يخرج ذكره . وقال بعضهم : الطوفان كل ماء طافٍ فاشٍ من سبيل أو غيره ؛ وكذلك الموت الجارف يسمى الطوفان وماء الطوفان ، وهو ما ذكر في سورة الأعراف . وقال بعضهم : هو الغرق ، والله أعلم . وقوله : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } : هو نسق على قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } ، وأرسلنا إبراهيم أيضاً إلى قومه . أو أن يكون نسقاً على قوله : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ } ، وأنجينا إبراهيم أيضاً حين ألقي في النار . أو يقال : اذكر إبراهيم إذ قال لقومه : اعبدوا الله . وقوله : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } : يحتمل في حق الاعتقاد ، أي : وحدوا الله . وقوله : { وَٱتَّقُوهُ } : الشرك . ويحتمل قوله : { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } في حق المعاملة ، أي : إليه اصرفوا العبادة ، { وَٱتَّقُوهُ } أي : اتقوا عبادة من تعبدون من الأوثان ؛ يكون قوله : اتقوا في موضع النهي ، أي : اعبدوا الله ووحدوه ولا تعبدوا غيره ؛ يكون فيه نهي عن مخالفة ما تقدم من الأمر : افعلوا كذا ، واتقوا ما يضاده ويخالفه ، والله أعلم . وقوله : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : عبادة الله خير لكم . وقوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يحتمل قوله : { إِن } إذا كنتم تعلمون : أن ذلك خير لكم ، وجائز ذكر ( إن ) مكان ( إذ ) في اللغة . أو يكون صلة قوله : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } . وقوله : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } أي : تخلقون كذبا في تسميتكم الأوثان آلهة معبودين ، أي : ليسوا بآلهة ولا معبودين . أو يقال : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } ، أي : كذباً في صرف عبادتكم إليها واستحقاق العبادة ، أي : لا يستحقون العبادة ، إنما المستحق للعبادة دون من تعبدون . وقال بعضهم : أي : جعلتم كذباً من الآلهة لا حقّاً ؛ وهو قريب مما ذكرنا . ثم بيّن سفههم في صرف العبادة إلى الأصنام وعجزها عمن يعبدها حيث قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } : يقول - والله أعلم - : إن في الشاهد لا يخدم أحد أحداً إلا لما يأمل من النفع له بالخدمة ، أو لسابقة إحسان كان منه إليه ، فالأصنام التي تعبدونها لا يملكون أن يرزقوكم ولا ينفعوكم ، ولا كان منها إليكم سابقة صنع ، فكيف تعبدونها ؟ ! وقوله : { فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ } أي : اعبدوا الله الذي يرزقكم وينفعكم ويملك ذلك لكم ، واتركوا عبادة من لا يملك ذلك . { وَٱعْبُدُوهُ } : يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما فيما تقدم : التوحيد ، والعبادة . وقوله : { وَٱشْكُرُواْ لَهُ } أي : اشكروا له فيما أنعم عليكم . { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . وقوله : { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } : هذا يحتمل وجهين : أحدهما : وإن يكذبوك فيما تخبر من نبأ إبراهيم ، فقد كذب أمم من قبلك رسلهم فيما أخبروا عن إبراهيم بعد انتساب كل فريق منهم إليه ، وادعائه نحلته ومذهبه . والثاني : وإن يكذبوك فيما تبلغ إليهم من الرسالة ، فقد كذب أمم من قبلك رسلهم في تبليغ الرسالة ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، يبين لهم أنها رسالة ربهم بالحجج والبراهين والآيات ، والله أعلم .