Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 185-185)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } : فيه دلائل : أحدها : دليل إثبات الرسالة ؛ لأنه ليس في العقل ألا تبقى هذه الأنفس أبداً ، ولا تدوم ، ولا فيه آثار فنائها وموتها ، ثم وجود العلم من كل منهم بالموت ، والتسليم له ، والإقرار منهم أن كل نفس تموت - يدل أنهم إنما عرفوا ذلك وأيقنوا به من خبر السماء بالوحي ، والله أعلم . ثم إن كل حي يتلذذ بحياته ، وحُبِّب ذلك إليه ، ويتكرّه الموت ويبغضه ؛ دل أن هذا العالم لم يكن بالطباع ، ولكن كان بغيره ؛ لما يتلذذ طبع كل منهم بالحياة ، ويتكره بالموت ويتنغص به ؛ إذ لو كان به : لكان يختار ما يتلذذ به ، ويدفع ما يتكره به ؛ فدلَّ أن غيراً فَعَلَ ذلك وخلق ؛ لما ذكر : { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } الآية [ الملك : 2 ] ؛ وفي ذلك بطلان قول أصحاب الطبائع . وأيضاً : أن كل نفس يجتمع فيها الطبائع المختلفة المتضادة ، التي من طبعها التنافر - لم يجز أن يكون بنفسه تجتمع ؛ دل أن له جامعاً . وأيضا : إن كان العالَم لو كان بنفسه وطبعه لاختار كلٌّ لنفسه أحوالاً : أحسنَ الأحوال وألذها ؛ فيبطل به الشرور والقبائح ؛ فدلَّ وجود ذلك على كونه بغيره . ثم فيه أن ذلك الغير - الذي كان به العالم - واحدٌ لا عدد ؛ إذ لو كان بعدد لم يحتمل وجود العالم على الطبائع المختلفة والهمم المتفرقة : لما جَمَعَ هذا فَرَّقَ الآخر ، وما أثبت هذا نفي الآخر ، وفي ذلك فساد الرُّبوبية ؛ فدلَّ وجوده على ما ذكرنا : أنه واحد لا عدد ؛ فاتسق تدبيره ونفذ أمره ، مع ما كان الأمر المعتاد بين الملوك في الشاهد : أن من فعل هذا نقض الآخر ، وما رام هذا إيجادَهُ يريد الآخر إعدامَهُ ، وما أبقى هذا أراد الآخر إفناءه ؛ وفي ذلك تناقض وتناف ؛ فدلَّ الوجود على أن الذي به كان - واحد لا عدد ، ثم يحتمل على الاصطلاح منهم ؛ لأنه يدلُّ على العجز والجهل : أن العجز والجهل هو الذي حملهم على الاصطلاح ، والعاجز والجاهل لا يَصْلُحُ أن يكون إلهاً وربّاً ، وبالله التوفيق . ثم الدلالة على حكمته وعلمه : ما لم يُعَايَنْ شَيءٌ وَلاَ يَشَاهَدْ إلا وفيه حكمة عجيبة ؛ ودلالة بديعة مما يَعْجَزُ الحكماء عن إدراك مائيته ، وكيفية خروجه على ما خرج ، وعلم كل أحد منهم بتصور علمه على ما عنده من الحكمة ، والعلم عن إدراك كُنّهِ ذلك فيما ذكرنا ، وخروجُ الفعل متقناً محكماً - دلالةُ حكمةِ مبدعه وخالقه ، وبالله التوفيق . ثم الدلالة أنه لم يخلق الخلق للفناء خاصَّة ؛ ولكن خلق للعواقب : يتأمَّل ويرجى ويخاف ويحذر - خروج فعل كل أحد في الشاهد من الحكمة إذا بني للفناء والنقض ، فإذا كان الحكمة التي هي جزء يُخرج فعلَهُ عن الحكمة ؛ إذا كان ذلك للفناء والهلاك خاصَّة ؛ فخروج الكل عن ذلك لذلك أحرى وأولى أن يكون سفها لا حكمة ، والله الموفق . قال : دلت طمأنينة القلوب بموت كل نفس ، وترك حكماء البشر الاحتيال - في دفعه ، على ما ليس في الجوهر دليله ، ولا في العقل امتناعه - أنه عرف ذلك بمن له التدبير فيها بالوحي إليه ؛ وفي ذلك إيجاب القول بالرسل ، ثم دل قهر جميع الحكماء به على حب الحياة إليهم ، وبغض الموت عندهم - على خروج جميع الأحياء عن تدبيرهم ، وفي خروجهم خروج الأموات ؛ إذ هم تحت تدبير الأحياء . ثم في طمأنينة كل قلب على الموت دلالةُ التدبير للواحد ؛ إذ لو كان لأكثر لَجُوز التمانع وإبطال الوارد من الحيّ ؛ وفي ذلك ارتياب ، مع ما كانت كل نفس تحت أمور تقهرها ، وتحوجها إلى أمور تعلم أن مدبِّرها هيأها على ذلك وطَبَعَهَا ، وأنه العليم بما به صلاحها وقوامها وإليه حاجتها ، وعلى ذلك جبلها ؛ ليظهر عظيم حكمته وتعاليه عن الشرك في التدبير ، أو المعونة في التقدير . ثم لا يحتمل نشوء مثله على ما جرى عليه من حكمته في موت كُلٍّ - أنه كان للموت أنشأ لا لغير ؛ إذ تدبيرُ فعلٍ واحد للفناء خاصَّة من حكمة البشر - يُخْرج عن معنى الحكمة ، ويدلُّ على قصور صاحب ذلك وسفهه ؛ فجملة العالم الذي كانت حكمة الحكماء جزءاً منها ، وعقل العقلاء بعضاً منها - أحق وأولى ؛ فثبت أنها أُنْشِئَتْ { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ المطففين : 5 - 6 ] ، ويوم تجزى كل نفس بما كسبت ، وذلك قوله - تعالى - : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } الآية . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } لما ذكرنا أنهم لها خلقوا - أعني : الآخرة - للجزاء والثواب . وقوله - عز وجل - : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ } : قيل : بُعِّدَ ونُحِّيَ عنها . { وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } : قيل : فاز : نجا ، وقيل : سَعِدَ ، وقيل : الفائز : السابق ، وقيل : فاز : غنم . وأصل الفوز : النجاة ، أي : نجا مما يخاف ويحذر ، ويظفر بما يتأمَّل ويرجو . وقوله - عز وجل - : { وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } : حياة الدنيا للدنيا غرور ؛ كقوله - عز وجل - : { أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ } [ الحديد : 20 ] حياة الدنيا للدنيا لعب ولهو وغرور ، وللآخرة : ليست بلعب ولا لهو ولا غرور . وأصل الغرور : هو أن يتراءى الشيء في ظاهره حسناً مموهاً ؛ يغتر بها كل ناظر إليها ظاهراً ، فإذا نظر في باطنها وجدها قاتلة مهلكة ، نعوذ بالله من الاغترار بها . وقيل : الحياة الدنيا - على ما عند أولئك الكفرة - لعب ولهو ، وعند المؤمنين حكمة .