Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 38-41)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } . قيل : فعند ذلك دعا زكريا ربه لما كانت نفسه الخاشية تحدث بالولدان تهب له ، لكنه لم يدعو لما رأى نفسه متغيرة عن الحال التي يطمع منها الولد ، فرأى أن السؤال في مثل ذلك لا يصلح ؛ فلما رأى عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف غير متغيرة عن حالها - علم عند ذلك أن السؤال يصلح ، وأنه يجاب للدعاء في غير حينه ، فذلك معنى قوله : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } ، والله أعلم . ويحتمل أنه لما رأى ما أكرمت امرأة عمران في قبول دعوتها وتبليغ ابنتها في الكرامة المبلغ الذي رأى فيها مما لعل أطماع الأنفس لا تبلغ ذلك - دعا الله - جل جلاله - أن يكرمه ممن يبقى له الأثر فيه والذكر ، وإن كانت تلك الحال حال لا تطمع الأنفس فيما رغب - عليه السلام - مع ما كان يعلم قدرة الله - تعالى - على ما يشاء من غير أن كان يحس على طلب الإكرام بكل ما يبلغه قدره ، حتى رأى ما هو في الأعجوبة قريب مما كانت نفسه تتمنى ، والله أعلم بالمعنى الذي سأل . وقوله : { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } . أي : مجيب الدعاء . وقوله : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } . دل هذا أن المحراب هو موضع الصلاة . { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ } . فيه دلالة لقول أصحابنا - رحمهم الله - أن الرجل إذا حلف ألا يبشر فلاناً فأرسل إليه غيره يبشره - حنث في يمينه ؛ لأنه هو البشير ، وإن كان المؤدي غيره ؛ ألا ترى أن البشارة - ههنا - أضيفت إلى الله - تعالى - فكان هو البشير ؛ فكذلك هذا . وقوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } . { بِكَلِمَةٍ } قيل : عيسى - عليه السلام - كان بكلمة من الله ، فيحيى صدّقه برسالته . وقيل : أول من صدق عيسى - يحيى بن زكريا ، ولهذا وقع على النصارى شبهه ؛ حيث قالوا : عيسى ابن الله ، بقوله : { بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } ، { وَرُوحٌ مِّنْهُ } [ النساء : 171 ] ظنوا أنه في معنى " فيه " ؛ لكن ذلك إنما يذكر إكراماً لهم وإجلالاً ، ولا يوجب ذلك ما قالوا ؛ ألا ترى أن الله - عز وجل - قال : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [ النحل : 53 ] ونحو ذلك ، لم يكن فيه أن النعمة منه في شيء ؛ فعلت ذلك الأول . وقوله : { وَسَيِّداً } : قيل : سيّداً في العلم والعبادة . وقيل : السيّد : الحكيم ههنا . وقيل : السيد : الذي يطيع ربه ولا يعصيه ، فكذلك كان صلوات الله عليه . وقيل : السيد : الحسن الخلق . وقيل : السيّد : التقي . وقيل : اشتق يحيى من أسماء لله - تعالى - من : " حي " ، والله - عز وجل - هو الذي سمّاه يحيى ؛ وكذلك عيسى - روح الله - هو الذي سمّاه مسيحاً ؛ بقوله : { يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } [ آل عمران : 45 ] وذلك إكراماً لهم وإجلالاً ، على ما سمى إبراهيم : خليل الله ، ومحمد : حبيب الله ، وموسى : كليم الله ؛ إكراماً لهم وإجلالاً ؛ فكذلك الأوّل . وجائز أن يكون " يحيى " بما حيي به الدّين . قال الشيخ - رحمه الله - في قوله : { بِيَحْيَـىٰ } : قيل : سمّاه به ؛ لما حيي به الدّين والمروءة ، أو حيي به العلم والحكمة ، أو حيي به الأخلاق الفاضلة ، والأفعال المرضية ؛ ولهذا - والله أعلم - سمي سيّداً ؛ لأن السؤدد في الخلق يكتسب بهذا النوع من الأحوال . وسمي مسيحاً بما مسح بالبركة ، أو يبارك في كل شيء يمسحه بيده ؛ نحو أن يبرأ به ويحيى ، والله أعلم . وحقيقة السؤدد أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة ، والأفعال المرضية ، وجائز أن يكون - عليه السلام - جمعهما فيه ؛ فسمّي به ، والله أعلم . والأصل في هذا ونحوه : أن الأسماء إن جعلت للمعارف ، ليعلم بها المقصود - فالكف عن التكلف في المعنى الذي له سموا له أسلم ، وإن كان في الجملة يختار ما يحسن منه في الأسماع ، دون ما يقبح على المقال ، أو على الرغبة في ذكره على ما يختار من كل شيء ، والله أعلم . وقوله : { وَحَصُوراً } : قيل : الحصور : الذي لا ماء له ولا شهوة . وقيل : هو المأخوذ عن النساء ، والممنوع منهن . وقيل : هو الذي لا يشتهي النساء . وكله واحد ، والله أعلم . { وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } : ذكر أنه من الصالحين ، وإن كان كل نبي لا يكون إلاّ صالحاً ؛ على ما سمي كل نبي صدّيقاً ، وإن كان لا يكون إلا صدّيقاً ، ووجه ذكره صالحاً : أنه كان يتحقق فيه ذلك ؛ لأن غيره من الخلق ، وإن كان يستحق ذلك الاسم - إنما يستحق بجهة ، والأنبياء - عليهم السلام - يتحقق ذلك فيهم من الوجوه كلها . والثاني : دعاء أن يلحق بالصالحين في الآخرة ، والله أعلم . قال الشيخ - رحمه الله - : ما ذكر في كل نبي أنه كان من الصالحين - يخرج على أوجه : على جميع الصلاح ، وعلى البشارة لهم في الآخرة أنهم يلحقون بأهل الصلاح ، وعلى أنهم منهم ؛ لولا النبوة ؛ ليعلم أن النبوة إنما تختار في الدين لم تم لهم وصف الصلاح ، وعلى الوصف به أنهم كذلك على السن الناس ، وأن الذين ردّوا عليهم - ردّوا بعد علمهم بصلاحهم ، أو على الوصف به كالوصف بالصدِّيق ، وإن كان كل نبي كذلك ؛ مع ما لعل لذلك حد عند الله ؛ لذلك أراد لم يكن أطلع غيره عليه ، والله أعلم . وجائز أن يكون " يحيى " بما حيي به الأخلاق المحمودة ، والأفعال المرضية ؛ ولذلك سمي سيداً ؛ وجملته أن لله أن يسمي من شاء بما شاء ، وليس لنا تكلف طلب المعنى ، فيما سمى الله الجواهر به ؛ إذ الأسماء للتعريف ، لكن يختار الأسماء الحسنة في السمع على التفاؤل ، والله أعلم . وقوله : وروح الله وكلمته - كقوله : خليل الله وحبيبه ، وذبيح الله ، وكليم الله ، ليس على توهم معنى يزيل معنى الخلقة ، ويوجب معنى الربوبية أو النبوة ، وذلك على ما قيل : من بيوت الله ، وعلى ما قيل لدينه : نور الله ، وقيل لفرائضه : حدود الله ، لا على معنى يخرج عن جملة خلقه ؛ بل على تخصيص لذلك في الفضل على أشكاله ، وذلك كما قال لمحمّد صلى الله عليه وسلم : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى : 11 ] ، وقال في الجملة : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [ النحل : 53 ] لا على ما توهمته النصارى في المسيح ، فمثله الأول ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } : بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلاً . وفيه وجه آخر : وهو أن في ذلك بيان أن كلامه في المهد كلام مختار ؛ إذ ذلك وصف كلام الكهل ؛ ليعلم أن قوله : { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [ مريم : 30 ] إلى آخره : إنما هو حقيقة الخضوع لله ، والإنباء عنه ، لا على خلقه ؛ كنطق الجوارح في الآخرة ، والله أعلم . أو لتكون آية له دائمة ؛ إذ لم يكن على ما عليه أمر البشر : من التغيير ، على أن آيات الجوهرية تزول عند الفناء ، نحو العصا فيما تعود إلى حالها ، واليد ، ونحو ذلك ؛ ليخص هو بنوع من الآيات الحسية بالدوام ، ولا قوة إلا بالله . { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } الآية . يحتمل هذا الكلام وجوهاً : أحَدها : على الإنكار ، أي : لا يكون ، لكن ههنا لا يحتمل ؛ لأنه كان أعلم بالله وقدرته أن ينطق به ، أو يخطر بباله . والثاني : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي : كيف وجهه وسببه ، وكذلك قوله : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } ، وقوله : { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 259 ] ، { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا } [ البقرة : 247 ] أي : كيف وجهه وما سببه . والثالث : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } في الحال التي أنا عليها ، أو أرادّ إلى الشباب ؛ فيكون لي الولد . هذان الوجهان يحتملان ، وأمّا الأول : فإنه لا يحتمل . وقوله : { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } . وذكر في سورة مريم : { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] : ذكر على التقديم والتأخير . [ وكذلك قوله : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } أو { ثَلاَثَ لَيَالٍ } [ مريم : 10 ] والقصّة واحدة ؛ ذكر على التقديم والتأخير ] ، وعلى اختلاف الألفاظ واللّسان ؛ دل على أنه ليس على الخلق حفظ اللفظ واللسان ؛ وإنما عليهم حفظ المعاني المدرجة المودعة فيها ، وبالله التوفيق ، ويعلم أنه لم يكن على كلا القولين ، ولم يكن بهذا اللّسان . وقوله : { قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } ، وقوله : { كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 ] وإن اختلف في اللّسان . وقوله : { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً } : طلب من ربّه آية ؛ لما لعله لم يعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة ، أو وساوس ؛ فطلب آية ليعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة من الله - عز وجل - لا بشارة إبليس ؛ لأنه لا يقدر أن يفتعل في الآية ؛ لأن فيها تغير الخلقة والجوهر ، وهم لا يقدرون [ على ] ذلك ، ولعلهم يقدرون على الافتعال في البشارة ؛ ألا ترى أن إبراهيم - صلوات الله على نبيّنا وعليه - لما نزل به الملائكة لم يعرفهم بالكلام وهابوه ، حتى قال : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [ الحجر : 62 ] ، حتى قالوا : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 70 ] ، فذهب ذلك الروع منه بعد ما أخبروه أنهم ملائكة ، رسل الله ، أرسلهم إليه . وقوله : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } . قال بعض أهل التفسير : حبس لسانه عقوبة له بقوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } ؛ لكن ذلك خطأ ، والوجه فيه : منعه من تكليم الناس ، ولم يمنعه عن الكلام في نفسه ؛ ألا ترى أنه أمره أن يذكر ربّه ، ويسبّح بالعشي والإبكار ؛ كقوله : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } ؟ ! . ويحتمل أن يكون أراه آية في نفسه من نوع ما كان سؤاله ؛ إذ كان عن العلم بالولد في غير حينه ، فأراه بمنع اللسان عن النطق ، وأعلى أحوال الاحتمال ؛ ليكون آية للأوّل . وقيل في قوله : { ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً } : أنه طلب آية ؛ لجهله بعلوق الولد ، وجعلها ليعرف متى يأتيها ؟ . وقوله : { إِلاَّ رَمْزاً } : قيل : الرّمز : هو تحريك الشفتين . وقيل : هو الإيماء بشفتيه . وقيل : هو الإشارة بالرأس . وقيل : هو الإشارة باليد ، والله أعلم بذلك .